اندلاع ثورة الجياع في فنزويلا... حين تُدارُ الدولة كيْفَما اتفق

اندلاع ثورة الجياع في فنزويلا... حين تُدارُ  الدولة كيْفَما  اتفق

تعيش فنزويلا منذ مدة حالا من الانقسام والفوضى العارمة بسبب سوء إدارة البلد وعجز الحكام عن أخذ القرارات المناسبة في الإبان وبالقدر اللازم من الحنكة والنجاعة.

نيكولاس مادورو كوروس الذي انتخب رئيسا للبلاد إثر وفاة  سلفه هوغو تشافيز في سنة 2013 كان نقابيا يشتغل سائق باس في بداية حياته السياسية قبل أن يدخل في كفالة تشافيز الذي أوصى شعب فنزويلا باختياره رئيسا بعد وفاته.

أزمة سياسية حادة وإفلاس في الأفق

الأزمة السياسية التي تتهدَّدُ البلد بالإفلاس والمجاعة دخلت اليوم شهرها الثاني وِفْقَ خط تصاعدي، حتى أصبحت من أكبر التحديات التي تواجهها " الثورة البوليفارية"(1) منذ  أن أصدرت المحكمة الدستورية بفنزويلا قرارا - تراجعت عنه لاحقا - يقضي بالخصوص بانتزاع بعض صلاحيات البرلمان ذي الأغلبية اليمينية المعارضة لصالح الرئيس الاشتراكي مادورو، وتكليف جمعية عامة بتعديل  الدستور،  وهو ما يلقَى رفضا قويا من قِبَلِ المعارضة التي تنادي بإجراء انتخابات  تفضي إلى الإطاحة بمادورو، مسنَدَةً  من قوى خارجية تناصِبُ  رئيس فنزويلا العداء وتسعى إلى إزاحته  عن السلطة، وبالتالي إلى  إبطال الإجراءات الاقتصادية التي اتخذها سلفه هوغو شافيز الذي حكم البلد طيلة 12 سنة، ومن أهمها تأميم مئات الشركات بما فيها الشركة الوطنية للنفط  للقضاء على الاحتكارات الرأسمالية الأجنبية وتمويل برامج التنمية الاجتماعية.

تعيش فنزويلا حالة من التوتر الاجتماعي الشديد والتعبئة المكثفة والعنف والفوضى في ظل تجمعات ضخمة ومظاهرات صاخبة وتحركات عارمة لا تنقطع، انضمت إليها أعداد هائلة من الطلبة وقوى المجتمع المدني خاصة في العاصمة كاراكاس، دون ان يُلقي مادورو لها بالًا رغم سقوط عشرات الضحايا ومناشدات الكثير من الجمعيات المدنية والمؤسسات الجامعية وبعض الدول المجاورة. 

تتوفر فنزويلا على ثاني احتياطي بترول في العالم بعد المملكة العربية السعودية (315 مليار برميل أي ما يعادل 44 مليار طن وما يمثل حوالي 20% من احتياطي النفط في العالم بحسب بعض الإحصائيات الأمريكية). لكن إنتاج  النفط قد سجل تراجعا في السنوات الأخيرة نتيجة تظافر جملة من العوامل من بينها خاصة تقادم البنية التحتية والتجهيزات دون تعهدها بالصيانة، وهجرة الاطر العليا العاملة في القطاع  الصناعي وفِي  قطاع  الطاقة وانتهاج سياسة إقصاء وتعسف في ظل صراعات وتجاذبات لا تنتهي بين المدافعين عن إرث هوغو  شافيز والداعين إلى القطع مع هذا الإرث... وتطور الوضع إلى درجة الصدام الحاد الذي سرعان ما تحول إلى نزاع  مباشر بين الحكومة والبرلمان.

وضع اقتصادي متدهور إلى أبعد الحدود

الاقتصاد في فنزويلا يعتمد بالأساس على الثروة النفطية التي تمثل 96٪‏ من اجمالي الصادرات. الجزء الأكبر من ميزانية الدولة (حوالي 80٪‏ ) يمول عن طريق عائدات البترودولار من العملات الأجنبية. قدرة البلد على الإنتاج والاستثمار في مجالات غير مجال النفط قد تراجعت في العشر سنوات الأخيرة، وهو ما فاقم التضخم الذي بلغ مستويات قياسية ( 720٪‏ في سنة 2016) ودفع بآلاف الفنزويليين إلى النزوح من الأرياف إلى المدن أو إلى الهجرة، وذلك رغم انتشار الأراضي الخصبة على مساحات شاسعة. وظلت مبادلات فنزويلا الخارجية آخذةً في التراجع منذ سنة 2013، وبلغ العجز مستويات قصوى في غمرة انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية، وتناقص العائدات من العُمْلة الصعبة، وتدني الانتاج في القطاعين الخاص والعام، والركود الاقتصادي. وقد ازداد الوضع تأزما على هذا المستوى بسبب سياسات الولاء تارة والجفاء تارة أخرى في عهد هوغو شافيز تجاه بلدان الجوار مثل كولمبيا وهو ما انجر عنه غلق لحدود فنزويلا مع هذه البلدان وتقلصٍ في الاستيرادات من مواد حيوية كالأسمدة  ومواد الطاقة الخ، بحيث لم تعد فنزويلا ذلك البلد الغني الذي ينتج اللحوم الحمراء بفائض ذي بال، ويصدِّر مختلف أنواع الخضر والغلال الى أوروبا وأمريكا، وتوزع فيه الثروات بقدر لا باس به من العدالة وفقا لخط رسمه هوغو شافيز حينما كان برميل النفط يباع ب100 دولار وحتى ب150 دولار، لكنه خط ما انفك يتقلص الى حد التلاشي الكامل بسبب سياسة التهجير ومصادرة الأراضي الزراعية والمصانع على قطاع واسع وتفاقم الدين  العام لفائدة بعض الشركات الكبرى وكبار المنتجين في قطاع الصناعات الغذائية في العديد من البلدان كالأرجنتين والشيلي الخ. وتفشي الفساد حيث أن فنزويلا تعتبر من بين الدول  التي ينتشر فيها الفساد على نطاق واسع وتحتل المرتبة 158 من بين 168 بلدا بحسب منظمة الشفافية الدولية.

الغريب في الأمر هو أن هذا البلد الذي يتوفر على احتياطي قياسي من الذهب الأسود كما أسلفنا وعلى إنتاج يقدر ب 1,8 مليون برميل يوميا ( 2015 ) مقابل 3,4 مليون في عهد شافيز، يعاني اليوم من نقص كبير في الطاقة البترولية ويضطر لسد حاجته منها إلى استيرادها من الخارج بسبب عدم  الاستثمار في البنية التحتية واضطرار العديد من كبريات شركات النفط العالمية مثل إيني الإيطالية وشال إلى مغادرة البلد، وعزوف المهارات التقنية العالية عن العمل في مجال إنتاج النفط مفضلة تحويل وجهتها الى الدول المجاورة. ويشار في هذا الصدد إلى أن قطاع الإنتاج في مجالي الصناعة والطاقة البترولية في فنزويلا يعاني من نقص فادح على مستوى التاطير والانتاجية وتأهيل اليد العاملة والصيانة، وهو ما يمكن الوقوف عليه بشكل خاص صلب الشركة الفنزويلية العامة لإنتاج البترول بعد تأميمها. ومن مظاهر الأزمة الخانقة التي تعاني منها فنزويلا انقطاع توزيع النفط بشكل متكرر، وهو ما يحدث حالة من الاكتظاظ الشديد في محطات التوزيع ويثير غضب أصحاب السيارات ويوتر الأجواء العامة والخاصة في البلد..

مفارقات بالجملة

ومن المفارقات الغريبة التي يأتي على ذكرها الزائرون الأجانب لفنزويلا بكثير من الاندهاش أن  التزود بالنفط لا يحمِّلُ أصحاب السيارات والشاحنات كُلْفةً  يُعْتدُّ بها.. أقصى ما يدفعونه مقابل 50 لترا من البترول لا يتجاوز ثلاثة دولارات .. يباع البترول في فنزويلا بثمن دون الثمن الذي يباع به الماء. والمواطن الفنزويلي شديد التعلق بالبترول الذي يبقى عنوان اعتزاز وافتخار بالنسبة إليه، لذلك تراه حريصا كأشد ما يكون الحرص على أن لا يتجاوز ثمنه هذا الحد الأدني مهما كانت الأسباب والظروف، رغم ما لهذا الثمن الزهيد من تبعات ومساوىء تتمثل خاصة في بعض مظاهر التبديد وفِي كثرة السيارات الامريكية الفخمة التي تحتاج الى كمية وفيرة من الوقود وتتسبب في تلويث البيئة وفي تفشي التهريب الخ.

من المفارقات اللافتة الاخرى التي تصدم الزائر، شُح السيولة النقدية - أي ما هو متداول من المال في شكل نقود وأوراق مالية وموجودات مصرفية ومالية - بسبب تقلص العائدات من العُمْلة الصعبة وانهيار العُمْلة المحلية (البوليفار) بعد أن قررت حكومة مادورو في نهاية السنة الماضية التخلص من كمية هائلة من الأوراق المالية المتداولة في البلد من فئة الخمسين والمائة بوليفار في انتظار تعويضها بأخرى وذلك في سعي الى التصدي لظاهرة  المضاربات في العُمْلة في الاسواق السوداء وهي كثيرة في فنزويلا. لكن عملية التعويض لم تحصل، وهو ما تسبب في إرباك المعاملات وعمليات البيع والشراء نظرا لندرة المال الناض. ناهيك أن المواطن الفنزويلي يحتاج لقضاء بعض شؤونه العادية  كشراء تذكرة سفر أو سدِّ بعض الحاجيات من مواد الاستهلاك العادية الى كمية هائلة من الأوراق المالية المنخفضة القيمة من فئة بوليفارين اثنين وثلاثة بوليفارات التي بقيت قيد التداول ويضطر الى حقيبة  لحملها.

وهنالك نوع آخر من المضايقات التي يتعرض لها المواطن وهي تلك المقترنة باختلاف قيمة العُمْلة المحلية بين تسعيرة رسمية وتسعيرة موازية، فعلى المستوى الرسمي توجد ثلاث تسعيرات للبوليفار مقابل الدولار الامريكي : 6,3 بوليفار و12 بوليفار و50 بوليفار. وقد تصل قيمة العُمْلة المحلية في السوق السوداء حدَّ 98,74 بوليفار للدولار الواحد.

وَمِمَّا يزيد من توتر الأجواء وما يثير غضب الناس واشمئزازهم وما يعكر صفو مزاجهم ويدفعهم الى الثورة هو اضطرارهم الى الوقوف ساعات وساعات في طوابير طويلة  أمام شبابيك سحب النقود للظفر منها بمقدار لا يمكن ان يتجاوز سقف 5 آلاف بوليفار ( حوالي 300 أورو )على أقصى تقدير...

كل هذه الاختلالات والممارسات العجيبة تدل بطبيعة الحال على فشل الحكومة في إدارة شؤون البلد بشكل صحيح وعجزها عن التصدي للأزمة  المستفحلة وإيجاد الحلول العاجلة لكبح غضب المواطنين وكسب تأييدهم.

الأحداث  في فنزويلا منذرةٌ بأسوء العواقب في غمرة هذه الأزمة التي لم يفتر لها أوار طيلة الست سنوات الأخيرة، هذا ما يجمع عليه جل المحللين  والملاحظين المتابعين لتطور الوضع العام هناك، وضع مفتوح على كل الإحتمالات، بما فيها احتمال أن ينهار البلد بالكامل تحت وقع المجاعة. ألم يضطر حاكم فنزويلا نيكولاس مادورو مؤخرا إلى إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية  وإلى استجداء دول العالم حتى تهب لنجدة البلد ؟  السِّماتُ الغالبة للوضع الحالي في فنزويلا تبقى متمثلة في تلك الفجوة الكبيرة بين النخب والشعب، وتلك التجاذبات والصراعات التي لا تنتهي بين برلمان الأغلبية  فيه للمعارضة وحكومة مغلوبة على أمرها، وبين   نخب  محدودة ومجموعات مصالح غير مهتمة بالشأن العام وبمصالح فنزويلا العليا، مشغولة  بحساباتها وصراعاتها الخاصة.

(1) نسبة إلى مفجر ثورات الشعوب ورائد الاستقلال والتحرر سيمون بوليفار (1783 - 1830). قاد عدة حروب لوضع حد لهيمنة أسبانيا على كولمبيا والإيكوادور والبيرو وبوليفيا وفنزويلا وهو من مواليدها.

يوسف قدية

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.