أدب وفنون - 2017.01.27

محـــمّد‭ ‬ڤلبــــي: الحربـــوشـــة ‬الأخيــــــرة

محـــمّد‭ ‬ڤلبـــــي: الحربـــوشـــة ‬الأخيــــــرة

مفاجأة سارّة تلك التّي خصّ بها قسم الإعلام والاتصال والنشر بالاتحاد العام التونسي للشغل جمهور القرّاء بإصدار كتاب بعنوان «حربوشة محمّد قلبي»، فأعاد إلى الذاكرة الجماعية كتابات متنوّعة لهذا الصحفي اللامع والقلم الحرّ الذي جلب له الأنظار عندما نشر في جريدة «الشعب»، لسان حال الاتحاد على امتداد 17 أسبوعا، من 17 سبتمبر 1977 إلى 20 جانفي 1978، مقالات نقديّة بأسلوب ساخر مميّز في ركن سمّاه «حربوشة»، في فترة شهدت فيها العلاقة بين الحكومة والمنظّمة الشغيلة أزمة خطيرة أدّت إلى اندلاع أحداث 26 جانفي 1978 الأليمة.

جمع هذه الكتابات وأعدّها للنشر الصحفي محمّد العروسي بن صالح الذي عمل تباعا في «دار الصباح» وجريدة «الشعب» و«دار الأنوار» قبل أن يعود في جانفي 1993 إلى «الشعب» ليرأس تحريرها ويشرف على إدارتها إلى غاية ديسمبر 2011.

وعلاوة على «الحرابش»، يتضمّن  الكتاب سلسلة من التحقيقات في مختلف الأغراض، نُشر أغلبها في جريدة «الشعب» سنة 1976 وألقى فيها المرحوم محمّد قلبي الضوء على الظروف المزرية والمهينة التي كان يعيشها العمّال والعاملات في قطاعات النسيج والملابس والأحذية.

وقد بذل محمّد العروسي بن صالح مجهودا لافتا في وضع هذه الكتابات في سياقها التاريخي لمساعدة القارئ على تمثّل الظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي كان سائدا زمن نشرها، وذلك من خلال البيانات والإضاءات التي وردت في «المدخل الإطاري» وفي الهوامش في أسفل الصفحات.

يعدّ هذا الكتاب بحقّ مرجعا من المراجع الأساسية في تاريخ  الصحافة التونسية، ومنجزا توثيقيا مهمّا أراد من خلاله محمّد العروسي بن صالح إحياء ذكرى «علم من أعلام الصحافة التونسية» وإيفاءه بعضا من حقّه «وهو الذي كغيره من عشرات الصحافيين لم يلق أيّ حظّ ولم يسعف بتكريم»، في حين اعتبر الصحفي ناجي الزعيري أنّ «مثل هذا الكتاب لا يجــب أن يظلّ حبيسا لرفوف المكتبات وغرف المنازل» بل مكانه الدرس في معاهد الصحافة والإعلام «عسى يتعلّم حَمَلة القلم الصحفي والمصدح والكاميرا والنّاقرون اليوم على أزرار الحاسوب أنّ الأوان آن لتتوقّف «الناعورة» عن الدوران حول محبرة جفّ حبرها من زمان «... وأنّ السمّ المدسوس في «الحرابش» هو الحبر الوحيد القادر على هتك كلّ الأقنعة».

من هذا الكتاب اخترنا نصّ «حربوشة» محمّد قلبي الأخيرة التي نُشرت يوم 20 جانفي 1978، أيّاما قليلة قبل «الخميس الأسود»

مسرحية من ورق(1)

كانــوا كلّما صعد صـاعد من قومهم ليتناول الميكروفون2 يناولونه ورقة ويقولون له إقرأإقرأ باسم حزبك الذي خنق، خنق الإنسان بالورق فكان الرجل المخنوق يقرأ، يتهجأ، يتجشأ، يتلجّأ يترجأ إلى أن يصل إلى نهاية الورقة، فلمّا يصل إلى نهاية الورقة، يعود إلى مكانه في القاعة ليضمّ كفّه إلى المصفّقين على المنصة.

والمنصة هنا لغويا ونحويا هي اسم المكان من فعل نص، ينصّ، نصّا، أي أنها ذلك المكان الذي تكتب فيه النصوص المقروءة والمسموعة والمخطوبة والمتلفزة التي توزع في الاجتماعات الحزبية الرهيبة، الناطقة باسم الشعب بعد تبديل لقبه العائلي.

توالي الصاعدين إذن المنصة، ومعذرة شيخنا الفاضل سيبويه إن أزعج راحتك الأزلية هذا الفاعل المكسور، إنّما تأكّد أنهم هم الذين جرّوه، جرّوه إلى الاجتماع وجرّوه إلى المنصة وجرّوه إلى الميكروفون نحن دائما نسعى إلى رفعه، وهم الذين يجرّونه ويكسّرونه.

صعدوا كما قلنا لتناول المكيروفون، إلى أن نهض واحد منهم ومرّ على المنصة حيث تناول نصه قبل أن يتناول الكلمة بعد عمر طويل إن شاء الله وبدأ يقرأ يقرأ. باسم حزبه الذي خنق.قرأ عن المناورين المندسين المتسربين الهدامين المخربين الفاسدين المفسدين المغرضين المتآمرين غير الفاعلين المجرورين ولا الضالين آمين، قرأ، وتهجأ، عكّز وتعثّر في قراءته إلى أن وصـل إلى أخر كلمة في آخر سطر لآخر فقرة بالصفحة حيث قال معناه لذلك، لكل هذه الاعتبارات بالجملة والتفصيل، وانطلاقا من كل ما سبق، وحيث أننا نمثل جميع الفئات والطبقات، وبما أنّ الحزب وتحت ساقه الحكومة عفوا بل الحكومة وعلى رأسها الحزب يعملان دوما من أجل رفع الإنسان المفعول به رغم وصايا المرحوم سيبويه، وكسر الفاعل أو جرّه إلى الاجتماعات الشعبية حسب النحو والصرف الاشتراكي الدستوري، قلت انطلاقا من كل هذه المعطيات فإنه لم يبق لنا إلا أن نقول لكل هؤلاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ارتجت أرجاء القاعة بالتصفيق، وهرعت الكاميرا تصوّر الأيادي المرفوعة للجماهير المجرورة، ونصبت وطفقت تلتقط اللقطات الملقوطة لقطا إنّما سرعان ما خيّم السكون على الرفع والجرّ والنصب، ذلك أن صاحبنا يعني الرجل الميكروفون لم يقرا كل النص. حسب المسكين أنّ الكلمة انتهت عند ذلك الحد فسلّم على الجماعة وتأهّب لإعطاء الكلمة إلى رجل الصحافة والعودة إلى مكانه فصاح فيه واحد من أهل المنصة والكتاب العموميين للاجتماعات العمومية اقلب الصفحة يا غبيّ اقرأ بقية الكلمة فالكلام لم ينته وارتبك الرجل، ووجم الميكروفون فخشخش لتغطيـــة حشمته، وأغمضت الكاميرا عينيها التي تسمع ولا ترى لتحذف هذا المشهد الاعتراضي في الاجتماع التاريخي المشهود، وسحبت القاعة تصفيقها وتهليلها وأجلته إلى بعد حين ثم واصل القارئ قرايته.

حدث هذا أخي القارئ في بداية الأسبوع، وسأقول لك متى على وجه التدقيق. أمازالت تذكر ذلك الإعلان التلفزي الرهيب الذي أنبأنا هاك الليلة أنّ دار تلفزتنا الوطنية هيأت لنا نشرة إخبارية خاصة لايفائنا ببيان مصيري بالغ الأهمية. أمازلت تذكر؟ حسنا اعلم إذن أنّ ذلك البيان صدر عن المنصة، عن اجتماع اقرأ باسم حزبك الذي خنق عن اجتماع الرجل الميكروفون الذي لم يقلب الصفحة وتأكّد أنّ هذه الحادثة صمدي في صمدي، نسخة طبق الأصل، كأنك كنت حاضرا.

أما الآن فإنني أدعوك فقط لتنسج على منوال هذه المهزلة لتعرف بقية أطوار المسرحية الاجتماعية الشعبية الوطنية يكاد كل شيء في البلاد يصبح من ورق الدستور حبرا على ورق، والقوانين نسخ وتوريق ومسخ صارخ من حيث التنفيذ والتطبيق، التأييد المطلق إبراق وورق بلا بريق، والحريات والمبادئ السامية فقدت طعمها كالورق المعلوك، والانتخابات «تروكي»(2) كصك مزيف بلا رصيد لدى البنوك.

وأما البيانات المصيرية التاريخية الصادرة عن لجان التنسيق فهي مجرّد أدوار مكتوبة على ورق صادر من معامل الهتاف والتصفيق يكاد كل شيء في البلاد يؤول تدريجيا إلى ورق، لولا أنّ السياسة الجديدة ستغــير على ما يبدو والحمــد لله هذا المنهج وهذا الأفق فبتصلّبها وابتعادها عن اللين والمرونة يمكن القول بأن سياستنا كانت من ورق وأنها ستصبح الآن من كرذونة(3)..

عبدالحفيظ الهرقام

(1) نشرت يوم 20 جانفي 1978 وكانت آخر الحلقات إذ أعلن الإضراب العام فتخللته أحداث مؤلمة أسفرت عن عدد كبير من القتلى والجرحى والموقوفين. كما أعلنت حالة الطوارئ وفرض حظر التجول وأحيل المئات من النقابيين والعمال على المحاكم. بعد سجن وإبعاد القيادة المنتخبة، انتظم مؤتمر صوري يوم 25 فيفري 1978 تم خلاله تعيين قيادة موالية للسلطة فيما تمت محاكمة القيادة الشرعية في أكتوبر 1978 وصدرت في شأن أعضائها أحكام بالسجن تراوحت بين عشر سنوات وستة أشهر سجنا وأشغال شاقة. ولحق الإبعاد والترهيب أسرة جريدة الشعب فمنعت- ومن ضمنها محمد قلبي- من مباشرة عملها بل أن أغلب أعضائها رفضوا اختياريا العمل مع القيادة الموالية للسلطة.

(2) تعريف حرفي للفظة truquée، أي مزيفة.

(3) الكرذونة هي الورق المقوّى.

  

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.