أخبار - 2017.01.06

عز الدّين المدني: الرّئيــس كان يكــره الكــاريكاتور

عز الدّين المدني: الرّئيــس كان يكــره الكــاريكاتور

لم يكن أفراد الطّليعة الأدبيّة والفكريّة يحبّون شعر المديح بل كانوا يكرهونه ويمقتون المادح والمدح والممدوح مقتًا لا حدّ له. في كلّ عام، كانت تقام العكاضيات، يشارك فيها شعراء اللّغة العربيّة الفصحى واللّهجة العامية سواء كانت حضريّة أو ريفيّة. والغاية منها مدح الرئيس الحبيب بورﭭيبة الّذي نعته أحد الشّعراء بأنّه «سيّد الأسياد». ومعظم المدح تملّق وتزلّف ورياء. ولسان حال الشّعراء يقول إنّ بورﭭيبة قد أسدى مزيّة إلى تونس، ولم يقل الشّعراء المدّاحون إنّه قام بواجب حين أسهم إسهامًا عظيمًا في استقلال تونس وتحرير الشّعب التّونسي من نير الاستعمار. اِمَّحَى الواجب فعوّضته المزيّة! هذا باطل وكذب فكيف يسمح بورﭭيبة بالاستماع إلى هذه الأباطيل والأكاذيب كلّ عام ولا يرفضها ولا يرفض الشّعراء الّذين تغنَّوا بها؟

أفراد الطّليعة هم في الأصل من شبّان جيل عهد الاستقلال. فبعضهم قد ولد في أواخر السّنوات الثّلاثين أو خلال السّنوات الأربعين من القرن العشرين. والقليل منهم عصاميّون والأغلبيّة بصورة أو بأخرى جامعيّون. ولنقل إنّهم مثقّفون جميعًا. وثقافتهم مزدوجة: ثقافة عربية إسلامية عريقة تتجاوز ما يُحفظ في المدرسة والمعهد والكليّة وثقافة فرنسيّة موسومة بصبغة الحداثة. ولا تخلو ثقافتهم العربيّة من معرفة آداب مصر ولبنان وسوريا والعراق في العصر الحديث. وتتنوّع ثقافتهم الفرنسيّة بين أدب وعلم اجتماع وفلسفة وألسنيّة وتاريخ ونقد وتنظير أدبيّ وفنّي وآداب أوروبيّة وأمريكية وحتّى آداب آسيويّة مترجمة إلى اللّغة الفرنسيّة، بالإضافة إلى الفنون: السينما والموسيقى وإلى الحركة التّشكيليّة التّونسية وحركات الفنون التّشكيلية الغربية ذات الصّيت العالمي، من مقرّها بباريس إلى مقرّها الآخر بنيويورك.

والعصاميّون منهم قد عرفوا شخصيًّا وفكريًّا وفنيًّا مَـــنْ بقوا من الجيل السّابق على قيـــد الحياة، من أمثال زين العابدين السّنوسي عميد الأدب التّونسي الحديث، ومحمّد الصّالح المهيدي الكاتـــب والمــــؤرّخ الثّبت، ومصطفى خريف الشّاعر، ومحمـــد المــــرزوقي الشّاعر والجامع للأدب الشّعبي التّونسي، وجلال الدّين النّقّاش الشّاعر، ومحمّد الحبيب الكاتب ورجل المسرح، وحسن الزّمرلي المترجم ورجل المسرح، وحاتم المكّي الرّسّام ومصوّر الكاريكاتور، والزّبير التّركي الرّسّام المخضرم بين جيل سابق وجيل لاحق... وغيرهم كثير من نظرائهم وزملائهم.

والعصاميّون وإن كانوا أقليّة في حركة الطّليعة فإنّهم قد رموا أنفسهم في الإبداع يعومون في أمواجه المتلاطمة إلى فقد الجهد !ذلك صباحًا ومساء، الأمس واليوم والغد وبعد الغد، الأسبوع والشّهر والعام، بلا هوادة، دون استراحة، كالعدّائين الأولمبيّين في حلبة السّباق، لكنّهم لا يتسابقون بل يتعاونون ويتساعدون، وينقد بعضهم بعضًا بصراحة ثمّ بنقاش ثمّ بمقارنات بين النّصّ الّذي تمّ إبداعه وبين نصّ آخر من النّصوص التّونسيّة العالية أو من النّصوص الأجنبيّة المهمّة. ونقد المبدعين لأعمال زملائهم ونظرائهم المبدعين يختلف اختلافًا جذريًّا عن النّقد الأكاديمي، ويتجاوز المقولات والأفكار والمفاهيم المقنّنة أو حتّى المجدّدة الأكاديميّة. وفي نقد المبدعين للمبدعين ما يُقال الكثير في غير هذا الموضع لأنّه شبه معروف وشبه مجهول. أمّا أفراد الطّليعة الّذين لهم تكوين جامعي وشبه جامعي، فقد انصرفوا إلى البحث في النّظريات الأدبية وتّطبيقاتها على النّصوص الرّاهنة، وعلى التّأريخ، وعلى التّحاليل المستندة إلى العلوم. ونادرًا ما كان هؤلاء يبدعون، وإذا ما أبدعوا فبمعنى الإبداع الواسع العريض لا بالمعنى الخصوصي لإبداع رواية قد يعيشها الكاتب سنواتٍ أو قصّة قصيرة يصبّ فيها الكاتب كامل عقله وكلّ وجدانه أو مسرحية يحياها بكلّ أدوارها ومواقفها ولعلّه يراها على ركح الدّنيا، ويلاحظ حتّى قسمات وجوه الشّخصيّات وصفة نطقهم للكلام، وصفة إشارتهم وحركتهم. وتستغرق كتابتها شهورًا ومواسم وأعوامًا.

لم يكن المثقّفون والفنّانون من الجيل السّابق على الطّليعة راضين عن العكاظيات ولا عن المشاركين فيها ولا عن الممدوح. لقد أبدلوا عدم رضاهم بالامتعاض حينا، وبالنّقد اللاّذع الّذي يقال في زوايا الأماكن حينًا خـــوفًا من شــرطة «اسْتُفِيد» وبالخجل ممّا يقوله النّظّامون للمدائح الكاذبة حينا. لكنّهم كانوا صامتين صمتًا مطبقًا.

أمّا على الصّعيد السّياسي والإيديولوجي، فأغلب أفراد الطليعة كانوا من جناح اليسار إجمالا، ومن رؤيا التّقدّم، ومن فلسفة التّطوّر والارتقاء كما يقال في العلوم. وكانوا في الوقت نفسه منفتحين على سائر الأفكار والآراء والمواقف مع مناقشتها إلى حدّ سلخ الجلدة حتّى العظم! وهذا ما يأباه السّاسة وما يخشونه، ولا يعني ذلك عدم احترام الآخر. وينقدون السْتالينيّة لاذع النّقد وأقساه، من عبادة الشّخصيّة إلى الطّغيان والجبروت الفردي المستبدّ، وكذلك مفهوم حرب الطّبقات بوصفه حجـــر الزّاوية في الايديولوجيّة الشّيوعية. وكان نقدهــم هـــذا يشمـــل أفكار بِليخَانِوف وفيكتور سارج، وباكونين، وترُوتْسْكي، ولينين، والمِنْشِفِيك والبُلْشِفِيك كتمهيد لنقد كارل ماركس وبيانه الشّيوعي الّذي أعلن فيه عن مصير البروليطارية الأسعد وعن الغد الأرغد الأفضل الّذي لم يأت ولن يأتي كالمهدي المنتظر الّذي بشَّرت به المذاهب في القديم لكنّه لم يأت، ولعلّه غير موجود أصلا !!! وكُنّا نفضح الرّؤساء العرب والأفارقة الّذين طالما قلّدوا وحاكوا كالقردة حكّام الاتّحاد السّوفياتي في آرائهم المتصلّبة الباطلة وكذلك حكّام الدّول «التّقدّميّة». ولكن كنّا في الآن نفسه نتبرّأ من أمريكا ومن الشّناعات الدّمويّة المدمّرة للبشر الّتي اقترفتها كجرائم حرب في الفياتنام، وكذلك هيجانها حول مضاربات رأس المال، وحول رغبتها الجامحة في الاستهلاك المتصاعد دومًا، وحول التّجسّس والتآمر على الغير، وقلب الأنظمة، وتعيين الحكومات الموالية لها، والدّفاع المستميت عن اسرائيل ومصالحها الجشعة، إذ يصدق عليها القول المأثور: انصر أخاك ظالما أو مظلومًا. والمظلوم في السّياق السّياسي العالمي إنّما هو يومئذ الفلسطيني والعربي إجمالا.

لم ينخرط أفراد الطّليعة في الحزب الواحد المهيمن على عقول النّاس وعلى البلاد بكاملها، ولم يكونوا موالين لسياسات السّاعة ولا لأشخاصها. كانوا على عتبة الشّكّ والنّقد مع النّزاهة في الضّمير. هكذا كنتُ، وهكذا كان سمير العيّادي، وهكذا كان محمود التّونسي وهكذا كان الحبيب الزّنّاد مثلاً. ولشدّ ما كنّا نهاجم السّياسيّين والمتملقين، وكذلك فرق التّصفيق، أولئك العميان الّذين يُهتَدى بنورهم السّياسي الكاذب، وبوعودهم الباطلة، وبهذيانهم الفاسد، لأنّنا كنّا نؤمن إيمانًا راسخًا بأنّ السّياسة لا يمارسها إلاّ خيار النّاس الصّادقين والفاعلين النّاجعين النّاجحين، المدافعين دائمًا أبدًا عن القيم الإنسانيّة: الحريّة هي أساسها، الحريّة الفرديّة والشّخصية والذّاتيّة الّتي تكره الأنانية وتعادي النّرجسيّة، وتنسى أشخاصهم وذواتهم ومصالحهم وكراسيهم من أجل ازدهار الوطن.ولا علاقة لهذه الحريّة بالمخيال المريض عند بعض المخربشين الّذين ضاعوا في السُّكر والتّخدير حين يزعمون: الحـريّة هــي حـــرية قلمي هذا الضّياع هو عكس من يقول: إنّ الإبداع إنّما هو قوّة الفكر الخلاّق، قوّة العقل المبتكر في أسمى تجلّياته، قوّة الخيال الطّريف الخصب السّخيّ بلا حساب. وبعد كلّ شيء، الإبداع موهبة في البدء موهبة في الآخر ولا يقبل أنصاف الحلول!. لكنّها ليست موهبة غيبيّة على كلّ حال!

كانت الطّليعة نقطة غامضة في عيون السّياسيّين، ثمّ نقطة سوداء مزعجة كالقَذَى في خريطة رؤيتهم المؤطّرة الضّيّقة. فأوقفوا صدور الملحق الثّقافي لجريدة العمل، هذا الملحق الأدبي والفنّي البديع الّذي أسّسه صلاح الدّين بن حميدة مدير الجريدة ورئيس تحريرها والمتحزّب الدّستوري، وقد كان من أقدر الصّحافيين التّونسيين وأشرفهم وأعلاهم همّة وباعًا. وقد شاركتُ في الملحق الثّقافي مشاركة فعّالة حتّى حسب بعض القرّاء أنّي أنا رئيس التّحرير أدير الملحق -وهذا خطأ– بينما كان رئيس تحريره المباشر مدير الجريدة نفسه. ثمّ عيّن المدير للتّداول عليه فرحات الدّشراوي الأستاذ الجامعي، وإن اقتصرت مشاركته على تحرير افتتاحيّة ثمّ الشّيخ الأستاذ محمّد العروسي المطوي رحمهما الله، وأخيرًا كاتب هذه السّطور...

وعلى كلّ، تسبّبت لي مشاركاتي الكثيفة في هذا الملحق في مشاكل وويلات. فخاصمني الكثير من المتحزّبين الدّساترة وأيضًا العديد من اليساريين الماركسيين المعارضين في الخفاء مع التّهديد والوعيد. وعلى رأس الدّساترة مدير الحزب الحاكم يومئذ، وقد كان لا يعرف من الثّقافة إلاّ إيديولوجية حزبه.

لقد بلغ المديح إلى مداه. فتغنّى النّظّامون بأكاذيب قد تنطلي على السّاذج، فيدّعون أنّ بورﭭيبة عبقريّ لذلك هو أرفع من تونس وأعلى من التّونسيين جميعًا إذ لا يجود الدّهر بمثله إلاّ بعد قرون، وبفضله ننعم نحن الشّعب بأكل الخبز ونعيش. والزّعيم يلتذّ بهذه المدائح. بعد شهور من إيقاف الملحق الثّقافي إثر تعيين صلاح الدّين بن حميدة رئيسًا مديرًا عامًا لوكالة تونس إفريقيا للأنباء، ورفت عدد من الصّحافيين التّقدّميّين من الملحق ومن الجريدة- والوزير الأوّل كان الهادي نويرة - قرّرت وزارة الثّقافة- والوزير كان الشّاذلي القليبـــي - تمـــويل الملحق الثّقافي، ولكــن إصداره في سلسلــــة جـــديدة مع تكليفي برئـــــاسة تحــــريره وضمان مرتّبي الشّهري مـــن ميزانية جريدة العمل. واشترط مدير الجريدة أن يُطبع هذا الملحق الجديد في مطابع جريدة « لابراس» لا في مطابع جريدة العمل إبعادًا للملحق ولأهله الصحافيين. فهاجرتُ من نهج رومة إلى شارع الحبيب بورﭭيبة.

طار الخبر، وتقاطر المثقّفون. ثمّ تألّفت من أفراد الطّليعة ومن سواهم مجموعة عاملة. وقد أردنا أن يكون الملحق الجديد مختلفًا عن سابقه كجعل الكاريكاتور في مكان متميّز يجلب أنظار القرّاء مثلاً. وكان الفنّان علي عبيد ضمن المجموعة العاملة.

لم يتجرّأ أحد من الصّحافيّين ولا مثقّف من المثقّفين أن يرفع صوته للتّنديد بما يسود البلاد مـــن الأكاذيب. فتجـــرّأ الملحق، ونشــــر صــورة كاريكاتورية للنّظّامين المداحين الكاذبين. هكذا أدرك جمهــــور القــــرّاء الصّــورة وما فوق الصورة من معنى سياسي. فشكّل كلّ ذلك حدثًا مهمّا ردّد النّاس أصداءه وانتصر له بعد أن اهتزّت الدّنيا له!

لكنّه لم يعجـــب أهل الشّعر الزّائف ولا من حول الرّئيس الحبيب بورﭭيبة من المتملّقين ولا الرّئيس نفسه. فتمّ استدعاؤنا إلى قصر قرطاج. فحضرنا على عجل منتظرين الخطب الجلل الذي سيلمّ بنا. وكان الشّاذلي القليبي بحضوره المتميّز قد خفّف وقوع الكارثة. وجلس الرّئيس يسأل ويستفسر ويؤكّد أنّ جريدة العمل هي جريدته! وكأنّه قال: اعتديتم عليّ وشرع يتحدّث عن عذاباته زمن النّضال كأنّه أراد أن يعاقبنا. ولم تستغرق الجلسة الرئاسيّة أكثر من عشرين دقيقة. وعلى كلّ، فقد كان متنمِّرًا كأنّه أراد أن يعاقبنا فعلاً، مع اللّياقة التّشريفاتية بينما نحن جيل الاستقلال.

الحمد للّه، أنّ البعض لم يبلغه الوعيد الّذي لوّح به الرّئيس ضمن أسئلته واستفساراته.

انتهــــى الملحـــق. وعــزمتُ على الهجـــــرة من البــــلاد. وقد بلغــــني في الأثناء أنّهم كانوا يخطّطون لمحاكمتي... لكــــن أرض الله واسعة حتّى لا أكون ضحية في أيدي الزّبانيّة..

عز الدّين المدني

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.