أخبار - 2016.09.22

عبد الحفيظ الهرقام: هكذا تَسْقط عصابات المـخدّرات

عبد الحفيظ الهرقام: هكذا تَسْقط عصـابات المـخدّرات

كان عائدا للتوّ من رحلة إلى ريو دي جانيرو عبر الدار البيضاء.. ملامحه توحي بأنّه شاب مثقّف لا تحوم حوله شبهات.. ولكن ما إن اجتاز عتبة مطار تونس قرطاج حتّى ألقي عليه القبض.. عندما عُرض على الفحص بالأشــعة تبـيّن أنّه ابتلــع 30 كبــسولة تحتـوي على 350 غراما من مادة الكوكايين . كان من الضروري التعامل بحذر شديد مع هذا الشخص حتّى لا تنفتح أيّة كبسولة في إمعائه، حرصا على إنقاذ حياته، بما يسمح بإماطة اللثام عن هذه القضية.. أيّ غرابة في أن تكون شاحنة صغيرة (تكتك) محملّة بالدلّاع؟ لماذا خــضعت للتفتيـش؟ هل كان ذلك من باب المراقبة الروتينية، أم أنّ في الأمر سرّا؟

في الظاهر كانت الحمولة كميّة من الدلاّع، غير أنّ تحتها دُسّت 100 كغ من عجين التكروري (الزطلة).. أمّا قضية الجرّار الذي تمّ إخفاء 524 كغ من مادّة «الزطلة» في عجلتيه فتلك قضية مثيرة ستظلّ من قصص النجاح في سجلّ الإدارة الفرعيّة لمكافحة المخـدرات، المــشهود لها بالنــجاعة والحرفيــة والتي يهابها ويهاب أعوانها تجّار المخدرات ومروّجوها في تونس. تطلّبت متابعة هذه القضية إعداد خطّة محكمة وبذل جهود مضنية للإيقاع بواحد من أخطر تجار المخـدّرات في البلاد.إنّ ما تقـــدّم ذكـره ليــس إلّا عيّنــات من معركة يوميّة تخوضها وحدات الأمن والحرس والديوانة في سبيل مكافحة المخدّرات، هذه الآفة التي لا يخلو منها أيّ مجتمع... تمثّل تجارة المخدّرات في العالم اليوم ثاني سوق اقتصادية، بعد سوق الأسلحة، وتعدّ 250 مليون مستهلك، رقم المعملات فيها يتراوح بين 300 و500 مليار دولار، في حين يقدّر ما يبيّض من أموال تدّرها هذه التجارة المربحة بـ 150 مليار دولار، حسب أحد تقارير منظمة الأمم المتحدة. في تونس، ما فتئت رقعة استهلاك المخدّرات تتّسع، وخاصّة «الزطلة»، باعتبارها المادّة الأكثر استهلاكا (90 بالمائة)، في ضوء عدد القضايا التي باشرتها الأجهزة الأمنيّة. في سنة 2015، بلغ عدد المورّطين في هذه القضايا 9443 شخصا، أغلبهم من الفئة العمرية 18-30 سنة (6407 أشخاص) ومن صنف العمّال اليوميين (8474 شخصا)، بينما بلغ في سنة 2006 عدد المورّطـــين 2430 شخـــصا، معظمــــهم أيـــضا من الفئة العمرية 18-30 سنة ومن صنف العمّال اليوميــين (1515 شخصا)، أي أنّ عـدد المــورّطين في قضايا مخدّرات تضـــاعف أربع مرّات تقريــبا في غضون عشرية واحدة. أمّا حجم الضبطيات فقد تطوّر كذلك خلال الفترة نفسها، وارتفعت كميّات «الزطلة» المحــجوزة من 222 كغ في ســنة 2006 إلى 7669 كغ في سنة 2015، وهو رقم قياسي، مقارنة بحجـــم الضبطـــيات من هـــذه الـمادة في السنوات السابقة.

ما هي أسباب تمادي جرائم المخدّرات في تونس؟ كيف تسير سوق المخدّرات وماهي أبرز مؤشّراتها في بلادنا ؟ وماذا عن مسالك التزوّد والتوزيع والترويج؟ وهل هناك علاقة بين تجارة المخدّرات والإرهاب؟ وماذا يمكن أن نستنتج من الإحصائيات المتعلقة بجرائم المخدّرات؟ وما هي مرتكزات الخطّة الأمنيّة لمكافحتها؟ ثمّ، في إطار الجدل الذي أثاره مشروع القانون الذي يلغي ويعوّض القانون عدد 52 لسنة 1992، لا مناص من طرح السؤال التالي : هل ينبغي عدم تجريم استهلاك «الزطلة»؟ تلك أسئلة تحاول لـيدرز العـربية أن تجيب عنـها في هذا التحقيق الذي قادها إلى استكشاف عالم سرّي، وإلى الحصول على معلومات وإحصائيات تنشر لأوّل مرّة.

المعلوم أنّ تونس لا تُنتج فيها مخدّرات، ولمّا يعمد البعض إلى زرع نبـــات القنــب الهــندي، في حقــــول أو حدائــــــق أو في محابس للاستهلاك الشخصي فإنّ ذلك يمثّل حالات شاذّة غالبا ما تُكشف بسرعة. فمختلف أصناف المخدّرات المتداولة اليوم، مصدرها الخارج وفي مقدّمتها «الزطلة». والمشكل المطروح في هذا الشأن منذ عقود له أساسا علاقة بالجغرافيا.

البداية من الحدود الغربية

موقع تونس الجغرافي يجعل منها أرض عبور للمخدّرات، بحكم قربها من أوروبا، أوّل مستهلك في العالم، قبل قارّتي أمريكا وآسيا. ومعضلة تونس، كما يبيّنه إطار أمني سـام، مختصّ في مكافحة المخدّرات، تكمن في حدودها الغربية الممتدّة على مسافة 1300 كلم والتي يصعب مراقبتها كليّا، مهــما تــوفّر من إمكانات ماديّة وبشريّة، اعتبارا لطبيعة الجغرافيا التي تتشكّل من جبال وشعاب في الشمال والوسط ومن صحار وكثبان رمليّة في أقصى الجنوب. على طول هذا الشريط الحدودي ينشط مهرّبون يعرفون جيّدا الميدان وتوقيت الدوريات. لا تقتصر الموادّ المهرّبة في الاتجاهين على البنزين ومعجون الطماطم والموادّ الكهرو منزلية والملابس المستعملة (fripe) والمواشي، فهي تشمل أيضا المخدّرات نظرا للأرباح الهامّة التي تغري بها ممارسة تجارتها. وممّا يزيد في تعقيد عمليات الكشف عن شبكات التهريب في المناطق الحدودية، صلات المصاهرة والقرابة الدموية التي تحمل مهرّبين تونسيين وجزائريين على كتم السرّ والتناصر العــشائري، فيصعــب على الأجهزة الأمنيّة اختراق صفوفهم للحصول على المعلومة.

قبل 14 جانفي 2011، كان الاتفاق الحاصل بين السلطة والمهرّبين يقضي بالسماح لهم بممارسة نشاطهم، على أن يحموا الحدود من تهريب السلاح والمخدّرات، لكن الأمر تغيّر بعد ذلك التاريخ، وأضحت المخدّرات من بين المواد المهرّبة. عدد من المهرّبين أطلق اللحية للتظاهر بالتديّن والورع، والبعض منهم انضم إلى تنظيمات إرهابية. وقد اتّضح إثر عمليّة بنقردان في مارس الماضي، أنّ مهرّبين معروفين، كانوا من ضمن الإرهابيين الذين تمّ القضاء عليهم.

من الجزائر تدخل «الزطلة» إلى البلاد التونسية، ومصدرها المغرب ثالث منتج للقنب الهندي في العالم، بعد أن يستلمها «الحجاج»، أباطرة تجارة المخدّرات في الجزائر، الذين أقاموا شبكات منظّمة مع تونسيين وليبيين.لا يغامر المروّجون الجزائريون بالدخــول إلى التراب التونسي، بل يعهدون بالبــضاعة إلى مهـرّبين تونســيين، لذلـك لم يقع أحد منـهـم في قبضة السلطات التونسية منذ سنوات، خلافا للتجار الليبيين الذين يعمد بعضهم إلى التنقّل إلى تونس للتزوّد بـ«الزطلة» وبمواد مخدّرة أخرى، خاصّة في رأس جدير وقابس، والعديد منهم ألقي عليهم القبض متلبّسين بالجريمة.

برّا، تستعمل السيارات وسيلةً لتهريب المخدّرات عبر المنافذ الشرعيّة الحدودية، في حين تسلك الشاحنات المهرِّبة مسالك غير شرعية، أمّا المهرِّبون المترجّلون فإنّهم يمرّون عبر المنافذ غير الشرعية الجبلية والصحراوية. ومن تونس تُهرّب المخدرات جوّا في اتجاه أوروبا عبر المطارات وبحرا تُهرّب عبر المياه الإقليمية. غير أنّ تمادي جرائم المخدرات في تونس لا يعزى فقط إلى تنامي العبور عبر أرضها، بل يعود كذلك إلى تزايد الاستهلاك والترويج الداخلي.