أخبار - 2016.09.19

الشاذلي القليبي: تحيّة للمجاهد الأكبر

الشاذلي القليبي: تحيّة للمجاهد الأكبر

إنّ التواريخ الوطنيّة التي انتقشت في ذاكرة المجتمع التونسي، منذ عقود، أثناء الكفاح وبعد الإستقلال، إنّها،جميعا، من صُنع الرجُل الفذّ الذي اعتاد المناضلون تلقيبه بالمجاهد الأكبر، والذي فَهِم الجميع، اليوم، أنّه جدير بهذا اللقب أيّما جدارة.

والإعتراف له بهذه الاهلية، ليس فقط لِمحبّة فيه؛ بَل أيضا لأنّه لا يُنافسه أحد فيما قام به من أعمال حضاريّة، هي، حقّا، من أنواع  "الجهاد الأكبر":

  • فهو محرّر البلاد من الإستعمار،
  • وهو محرّر المرأة من مهانة عهود الإنحطاط،
  • وهو أوّل قائد لِمعركة التحرير من التخلّف، زارعًا في الشعب التونسي البذرة التي تجعله مُجتمعًا حيّا، نابضًا، سيّد نفسه.

لكن، شأن الكثيرين من عظماء التاريخ، لم تمنعه عبقريّتُه من الوقوع في هفوات مؤسفة، وبعضها فاجعة.

فقد تحمّس لِمشروع التعاضديات، فتعجّل تعميمها على كلّ جهات البلاد، وفي مختلف قطاعات الإنتاج؛ فأدّى التسرّع إلى سلبيات شاع التنديد بها في كلّ الأوساط؛ واتُّخِذت هُزوا، حتّى أُطلق «التعاضد» على كلّ تجمّع.

واغتنم الفرصة خصوم المشروع – ومَن كانت لهم مآخذ على الوزيـر المشرف عليـه – فحمّلوا أحمد بن صالح المسؤوليّة؛ واتّهمه البعض بمآرب سياسيّة، من وراء عمليّة التعميم. فانساق الرئيس في هذا التيّار، وأمر بمحاكمة الوزير، وأوصى بأن يكون الحُكم صارما – بعد أن كان يُطنب في الثناء عليه، ويُشيد بمنافع التعاضد، ويُوجّه اللوم إلى المعارضين له.

كذلك، ممّا يُؤخذ على الرئيس بورڨيبة معاملته القاسية للباي وعائلته، رغم أنّه لم يجد منه، قبلُ، إلاّ مظاهر التبجيل. وقد يكون عدمُ اكتفائه بإلغاء المَلـَكيّة راجعا إلى أسباب شخصيّة: مثل الحُظوة التي كانت لِخصمه صالح بن يوسف لدى الباي – وربّما أيضا لشؤون تهمّ »الدائرتين«، من حول الرجلين.

وكذلك ممّا شاع التنديد به في أوساط كثيرة، المعاملة التي خُصّ بها الطاهر بن عمّار، الوزير الأكبر الذي بإمضائه نُفّذت وثائق أوصلت البلاد إلى الإستقلال. والأمر يعود، ربّما، إلى عدم تحمّل بورڨيبة أن يكون لغيره هذا الشرف الأثيل.

والذي يُؤسَـف لـه، أنّ المجاهـد الأكبـر أتعَبتـه أيّـام الكفاح، وخلـَّفَت له أحوالا صحيّة لم تُبق له، فيما يُسمّيه  carcasse la، ما يساعده على مواجهة أيّام الوهن والشيخوخة.

وفي أواسط السبعينات، جاءت فكرة «الرئاسة مدى الحياة». وجاءه التأييد من كلّ جانب. لكنّي كنتُ أقول له، وأنا في الديوان الرئاسي: هذا لا يَليقُ بمقامك. فأنت مدى الحياة، وبرضى الشعب بأكمله، المجاهد الأكبر. واتّخاذ قانون يمنحك الرئاسة الدائمة يبدو كأنّه تأمين على المستقبل، أنتَ لستَ في حاجة إليه.

ولمّا أُعلن ما سُمّي بـ «التغيير» في 7 نوفمبر، أحسستُ أنّ خلع الرئيس إهانة لكلّ من كان يُعظـّمه، ويقتدي به، رغم أنّ ما آلت إليه أحواله الصحّية ما كانت تجيز بقاءه على رأس الدولة.

وازداد إحساسي بالمهانة، لاتّهام نفسي بعدم التجرُّؤ على إقناعه باتّخاذ التدابير اللازمة لاختيار خليفته في الحُكم.

لكن كلّ ما كان يُخامرني من هواجس، يكاد يتقشّع اليوم، لـَمّا أشاهد أنّ الشعب، بعد الثورة، في أغلبيّته، لا يزداد، مع الأيّام، إلاّ تقديرا للمجاهد الأكبر.

فسائر الزعماء يتضاءل ذِكرهم مع الأيّام ؛ والحبيب بورڨيبة لم تزده الأيّام إلاّ إشعاعا، لأنّه خدمَ تونس بما يُعلي شأنها بين الأمم : محبّة الحُريّة، والتوقَ إلى الكرامة، والسعيَ الدائم إلى معالي الحضارة.

أليس في قيام الثورة، اليوم، من أجل نفس هذه المقاصد، نصيب من الإرث البورڨيبي؟

وللرئيس بورڨيبة، في المجال السياسي، اجتهادات، كثيرة ومجدية؛ لكن يأخذ عليه أهل الفكر الديمقراطي، أن لم يُرسّخ في البلاد نظاما برلمانيّا، به يكون الحُكم في أيدي نوّاب الشعب، حقّا.

وبقطع النظر عن عوامل مِزاجيّة قد تكون جعلته لا يطمئنّ إلى نظام لا يكون فيه كامل النفوذ بيده، فإنّ المنطق الذي توخّاه، اعتمد على واقع الشعب، وأنّ أغلبه في جهل وفقر، وأنّ ذلك لا يضمن، من قِبله، اختيارات صالحة في إدارة البلاد.

ولئن كان الرئيس مُحقّا فيما يرى، فإنّ خصومه يرون أنّه كان من مسؤولياته إرساء نظام مرحلي – حسب نظريّته الشهيرة – يجعل الشعب يتدرّج، شيئا فشيئا، وبخُطى ثابتة، نحو امتلاك القدرة على التعامل مع صيغة ما لِنظام تشاوري – برلماني – يجنّب البلاد مغبّة الاستبداد الفردي.

ولكن الرئيس بورڨيبة كان يعتقد أنّه فعَل ذلك، بطريقته.

والحقيقة أنّ أعمال بورڨيبة يمكن دوما تقييمُها بطريقة »جدليّة«، توضّح الجانب الإيجابي، دون إغفال ما يحفّه من سلبيات.

فكيف يتسنّى لنا اليوم تَقييمُ التراث البورڨيبي؟

في أعين الجيل الذي أنتمي إليه، أهمّ ما أخذناه عن الرئيس، إعمال العقل في الأمور كلـّها، السياسيّة منها والإجتماعيّة والحضاريّة. لكن بورڨيبة أكسبنا اليقين، في نفس الوقت، أنّ ذلك لم يكن تقليدا للغرب – الذي نُعجب به – بل هو إحياء لركن من أهمّ أركان تراثنا الحضاري العربي الإسلامي. فقد كُنّا نسِينا أنّ حضارة الإسلام جعلت العقل ضمان النهوض والرُقيّ.

وممّا أخذنا عن الرئيس بورڨيبة نظريّته المتعلقة بماهِية العمل السياسي: وأنّه يراه ضربا من الكفاح الإجتماعي، يرتكز على الصدق في القول والإخلاص في العمل. وهما من قواعد الأخلاق الإسلاميّة، كان هو نفسه أخذها عن شيوخه، في المدرسة الصادقيّة.

ثمّ عن بورڨيبة، تعلـّمنا أهمية الزمان، في إدارة الكفاح، وفي تخطيط الأعمال السياسيّة؛ وذلك من خلال القبول بالمراحل، قاعدةً أساسيّة لتحقيق الطموحات الوطنيّة، في عهد الكفاح، وكذلك في السبيل إلى الإصلاحات الإجتماعيّة والحضاريّة، بعد الإستقلال.

وهذا ما سوف يُعبِّر عنه، بعد عقود، الرئيس الفرنسي François Mitterrand بكلماته الشهيرة، «إعطاء الوقت للوقت».

وبورڨيبة كان يُلحّ، أشدّ الإلحاح، في تذكيرنا بما كُنّا عليه من تخلـّف. لكنّه، في نفس الوقت، كان يُوقد، في أنفسنا، جذوة الإعتزاز بانتمائنا إلى حضارة عظيمة – تخلـّى بعض أسلافنا عن الكثير من أركانها ؛ فكان، من نتيجة ذلك، الإنحطاط والتخلـّف.

وإعلاء منزلة المرأة، داخل العائلة وفي المجتمع، كان من إرث بورڨيبة؛ لكنّه، بصورة ما، ربطه بالتراث الإسلامي: فلم يدعُنا  إلى احتذاء المجتمع الفرنسي، فيما كنّا نراه لديه من عُلوّ منزلة المرأة، أثناء عهد الحماية؛ بل كان يدعونا إلى وعي ما جاءت به آيات قرآنيّة، من تكريم بني آدم، كافّة، رجالا ونساء، دون غمط لِحقوقهنّ، ومن إرشاد مُبين في نظام الزوجيّة.

وكنّا أخذنا عن شيوخنا، في المدرسة الصادقيّة، من هذه المعاني، لكن في سياق ديني، لم يرتبط، في أذهاننا، بمشروع حضاري، نحن مُقدمون عليه.

فالرئيس بورڨيبة هو الذي جعَل، من هذا الإعتزاز بالتراث، الوَقودَ الذي به اكتسب مشروع النهوض الحضاري قوّةً ضاربة.

ومن أهمّ ما جاء به بورڨيبة، في إصلاح المجتمع، التخفيف من الثنائيّة بين العامّة والخاصّة وبين أبناء العاصمة والوافدين من «الآفاق». فقد اعتبر أنّ لبعضنا مسؤوليّة عن قيامها، بما كان لِنُخبِنا من خُيلاء. فلقّننا أنّ المجتمع لحمة واحدة، أو لا يكون؛ وذلك يفرض التعاون بين مختلف المستويات الإجتماعية.

في عيد المرأة – الذي هو من إرث الرئيس بورڨيبة – علينا جميعا أن نتذكّر ما للرجُل من فضل في انتشال نِصف المجتمع التونسي ممّا كان عليه من انخرام الكرامة.

وفي خصوص ما ينبغي أن يكون للمرأة، داخل العائلة وفي المجتمع، من منزلة، فلا بدّ من التذكير بأنّ الرئيس بورڨيبة – وإن كان مُهتمّا بمتابعة نشاط المنظمة النسائيّة، وزعيمتها إذّاك بشيرة بن مراد – هو الذي جعَل «المجتمع المدني» يُولِي هذه القضيّة أهمّية متنامية.

ومعروف أنّ العلاقة القانونيّة بين الرجُل والمرأة، في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة، بقِيَت، إلى العصر الحديث، على ما كانت عليه في عهود التخلـّف والإنحطاط.

فلم تقُمْ الأجيال المتتالية بما أُمِرت به الأمّة، من واجب الإجتهاد، في كلّ مجالات الدّين والمجتمع. فبقيَت «دار لقمان» على حالها.

ولئن قِيل، في عهود مضت وانقضت، عن المرأة، إنّها «ناقصة عقلا ودينا»، فإنّ ذلك كان ينطبق على ما كانت عليه، أغلب النساء، بالمقارنة بأكثريّة الرجال؛ أمّا الواقع الحالي، فلا تصحّ معه تلك المقولة؛ وحضارة الإسلام، من أركانها الأخذ بالمقاصد، وتطوير التنظيمات بحسب ما تقتضيه الظروف.

وفي مجتمعاتنا الحالية، تغيّرت العلاقات بين الرجُل والمرأة، كما اتسعت قدرات المرأة على الإسهام في أعمال المجتمع.

فالوضع المجتمعي، إذن، متّجه إلى تقارب نِصفَي الشعب، وإلى الحاجة إلى مزيد الدفع، على مراحل متتابعة، لتكون العلاقة بين الرجال والنساء على نحو مُتنام من التكامل، والتعادل.

وجرأة الرئيس بورڨيبة  هي التي أعطت منزلة المرأة، عندنا، قاعدة قانونيّة، وفتحت للعنصر النسائي مجالات مختلفة ؛ ولكن مبادرة المجاهد الأكبربقيت »يتيمة« دهرها، في أوساع الفضاء العربي الإسلامي.

وهو نفسه كان اعتبرها بذرة، ينبغي لِمجتمعنا حضنُها ورعايتُها، بما يضمن لها دوام النموّ والتطوّر.

ولا غرو أن يكون شديدُ اهتمام بورڨيبة بإعلاء منزلة المرأة، لِعُمق حزنه على فقدان أمّه، وهو صغير السنّ.

ثمّ أنّ علاقة الرجُل بورڨيبة بالجنس اللطيف، تنامت على وتيرة واحدة: فلم يكن، يوما، في غنى عن حضور المرأة إلى جانبه، في اجتماعاته، أو في مجالسه الخاصّة، أو على المائدة. فإذا أعجبته إمرأة، لم يتمالك أن يُقبّلها، عند السلام عليها، أو أن يُلامس خدّها، بيَد اللطف والشوق.

ولا ينبغي أن يَغيب عنّا أنّ المُطالـَبة بالمساواة في الحقوق، بين الرجال والنساء، شعارٌ يُطلق في المناسبات، دون استناد إلى ثقافة مجتمعيّة، ترمي بجذورها، في مختلف فئات المجتمع ؛ فتنفتح لها، ولِفحوى ما تتضمّن من قِيم، عقليات مَن لا دِراية لهم بواجب الإجتهاد، ولا صبر لهم على اتّخاذ المراحل لِنشر التطوير.

فمن وظيفة مجتمعنا المدني السعي – بالأولويّة – لِتغيير وجهة نظر كلّ من الرجُل والمرأة : حتّى لا يبقى الرجُل رهين المتاع الجنسي، في نظره إلى المرأة ؛ ولا تنحصر حاجة المرأة إلى الزوج، في اتّخاذ قوّام عليها.

هذا، إضافة إلى أنّه، من ناحية دينيّة، ينبغي أن يَعِي كلّ من الزوجين، من خلال أتواق الجنس، والحاجة إلى المؤانسة العائليّة، والقيام بعادة اجتماعيّة، أنّه، من حيث لا يشعر – ومن واجبه أن يشعر – وأنّه بذلك في طاعة الله، مُتّبعا رضوانه، يُساهم في تنفيذ الإرادة الإلهيّة المتعلقة بالوجود البشري.

وليس أبلغ، فيما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بينهما، من أن يتّخذ كِلاهما الآخر »لباسا« – حسب العِبارة القرآنيّة.

هذه العلاقة الحميمة، الشاملة لكلّ الأركان العائليّة، ولكلّ الأبعاد الإجتماعيّة، ولكلّ الإعتبارات الإنسانيّة، جاءت بها حضارتنا منذ ألف سنة وعدّة قرون، وقبل انتشار تعاليم الحداثة ؛ فلم يعِها أسلافنا، ولم تتيقّظ إليها أجيالنا إلاّ قليلا.

فعلى أصحاب الفكر الإجتماعي التنظير لها، بما تُمليه الكرامة، ويفرضه التوازن الإجتماعي، ويُيسّر النهوض والرُقيّ لكافّة الفئات. وعلى أُولي الأمر أن يُمكّنوا المجتمع المدني من المشاركة في الخطوط الرئيسيّة لهذا التنظير، وفي تخطيط المراحل الضامنة لانتشار التطوّر، وتغيّر العقليات، لِجعْل نِصفي المجتمع في تكامل متنام – إمتاعا ومؤانسةً.

وإنّما بذلك يكون المجتمع التونسي قد تجاوز مرحلة الجدل، في خصوص تقييم الإرث البورڨيبي، إذ يكون قد تمّ انصهاره في مجموع القِيم الحضاريّة التي بها الشعب تَطـَوَّر إلى مجتمع.

ومهما يكن من أمر، فبورڨيبة هو الذي شرع في بناء لـُحمة الشعب، لِفتح السبيل إلى التقريب بين الفئات، ولِجعْل نِصفيْ المجموعة الوطنيّة يشعر، كلّ منهما، باحتياجه إلى الآخر، وبضرورة التكامل معه.

فرجاؤنا أن يكون، اليوم، السعي الحضاري، الذي دعت إليه حكومة الوحدة الوطنيّة، من أولويات كلّ فئات المجتمع، وأن يبقى ذلك دوما، من شواغل الأجيال الصاعدة.

الشاذلي القليبي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.