أخبار - 2016.06.21

ريادة المـرأة: مـستقبـل عالـم المسلمـيـن

ريادة المـرأة: مـستقبـل عالـم المسلمـيـن

«لا تدعْ أُُمَّ صَبِيِّك تضربه فإنه أعقلُ منها وإن كانت أسنَّ منه». تثير هذه المقولة للجاحظ من «البيان والتبيين» أكثر من سؤال باعتبار ما لهذا المفكر والأديب من مقام في التراث الإسلامي. هل يمكن أن نحملها على غير محمل الجِدّ وأنها من قبيل الهزل الذي يستعمله صاحب البخلاء عند معالجة القضايا الهامة قصد تلمّس ما خفيّ من التناقضات وما دقّ من التباينات ليكون الهزل سبيلا لإذكاء العقلية النقدية؟

 

اللافت أن الجاحظ الذي وضع رسائل في «المعلمـين» و«المغنـين» و«الكُتّـاب» و«القِيـان» خصَّ النسـاء برسالة تأكيــــدا على أهميــــة الموضــــوع. لكنه لم يهتم بمكانتـهـــا العقلـــية فكـــان سكوته أفصح من كلامه. ظل يلمّح إلى مكــــانة المرأة مغفلا قيمة عقلها بل كان في مواضــــع لا يتـــردد في التقليـــل من أهمية رأيها وفي تفضيل الرجـــل عليهـــا. وإذا كانـــت المرأة، في نظر الجـــاحظ  تَفْضُل الرجـــل في أمور فهـــي لا تعـــدو أن تكــون أمورا ذات صلة بالأنوثة وضعف البنية فهي التي: «تُخْطَب وتُراد وتُعْشَق وتُطْلَــب، وهي التـــي تُفْدى وتُحْمــى». نفس التوجه يتكرر حيث يورد الجاحظ حِكَما ونوادر كقوله : «إنه لا يُرجى الرأي والعقل عند من يروح على أنثى ويغدو على طفل».

 

أيا كانت حقيقة أفكار الجاحظ في خصوص مسألة المرأة فإن الذي يحدونا لتناول المسألة في عصر العولمة هي دلالتها الثقافية و مدى ما تكشفه القضية قديما من خصوصية البناء الثقافي والتصوري. أبرز ما يعنينا في أدب الجاحظ هو هذا الضرب من الخطاب القائم على الأساس الجَوْهَرانِي (Essentialiste) الذي يفترض تراتبية مطلقة بين المرأة والرجل في كل ظرف ومكان. إن عدنا إلى السياق العربي- الإسلامي الحديث والمعاصر يتبدّى لنا الوضع بصورة مغايرة. لقد عولجت مسألة المرأة في العالم الإسلامي ولسنوات طويلة داخل فضاء التنازع حــول مسألة التجديد والتقليد في الفكر الإسلامي. مسوّغ هذا الطرح سياسي فاقم من أسبـــاب الفرقة الداخليـــة بما زاد من فجــوات التباعد بين روح النص الديني والواقع المعيش وبين ذلك النـــص الـــمؤسس والنص القانوني وكذا بينهما وبين الواقع المتغير.

 
ثم إن التيارات التنويرية في العالم الإسلامي منذ انطلاق تَلَمُّسِ نهضته حاولت الشروع في تعامل نقدي مع أفهام النص القرآني والحديثي ذي الصلة بالقضية الاجتماعية لمراجعتها بصورة تأصيلية معاصرة. كان الهدف من ذلك هو التفريق بين أصالة النص وروحه وبين ما امتزج في ذهن المسلم وواقعه من تقاليد ثقافية أُلبِست لَبوس قُدُسيًا في حين أنها تعبير عن نزعات محافظة تشدها الأوضاع الاجتماعية المعطلة لطاقات الإبداع والتجديد. كانت بذلك تعمل من داخل الثقافة الدينية على القـــول بأن دونية المرأة وحرمانها من حق ريادتها المجتمعية هي رؤية دخيلة وطارئة حادت بالنص التأسيسي عن أهدافه ومقاصده لخدمة رؤية منغلقة وحروفية تجزيئية وعقلية ذكورية متسلطة.
 
ما أثبتته التجربة الإصلاحية الحديثة والمعاصرة أن الاقتصار في طرح قضيــة المــرأة على مراجعــة بعض النصوص الدينية لم يُفض إلى تحولات واقعية لمشاغل المجتمع والأسرة والمرأة لعدة اعتبارات أهمُها احتياج تجديد الفكر الإسلامي لمعالجة منهجية ومعرفية ما تزال غير متحققة بصورة ناجعة. ذلك قوّى التيار القطاعي المناهض للمقاربة من الداخل الثقافي معتبرا أن القوانين المدنية هي الملجأ الأنسب لضمان حقوق المرأة والنهوض بأوضاعها بقطع النظر عن الرؤية الدينية. لكنه ظل هو الآخر غير قادر على تلبية حاجيات المجتمع والأسرة والمرأة. هذا ما أذكى التنازع بين البعدين الديني والمدني وأثبت الحاجة إلى مقاربة تتجاوز النزعات التفكيكية المنادية بأن القانون الوضعي وحده كافٍ إزاء توجهات إطلاقية منحصـرة في الـــرؤية التشــريعية الدينية تعتقد امتلاك بديل ناجز.
 
أهم ما في هذا التنازع المتــــواصل الذي يجري على الامتــــداد العـــربي هو تنزّلُه ضمـن «قاع ثقافي» يرســـخ سيادة العقلية الذكورية الغالبة حتى عند المرأة نفسها. للتعاطي مع هذه المعضلة تبرز بوابة البعد الثالث الاجتماعي- الثقافي التي تميّز فيها «بيير بورديو» (Pierre BOURDIEU) أهم علماء الاجتماع في الربع الأخير من القرن العشرين. اعتنى «بورديو» بصورة خاصة بمسألة الهيمنة الذكورية مستندا إلى دراسات انتربولوجية ميدانية للمجتمع الأمازيغي في منطقة القبائل الجزائرية حيث أقام فترة وأنتج: «سوسيولوجيا الجزائر» سنة 1958 و«الاجتثات» سنـــة 1964. إلى جــانب ذلك استفاد من المرجعيات الأدبية للحــركة النسوية في العالم وما توفر لديه من إحصــائيات دقيقة ودراسات ميدانية عن انعكاس الهيمنة الذكورية على الوضع الأسري بالمجتمع الغربي ومتعلقاتها في خصوص الزواج والطلاق والشذوذ.
 
أهم ما يعلن عنه «بورديو» بخصوص المجتمع القبايلي هو أنه يجسّـــد الصـــورة القصــوى لما يتوفــر من الهيمنـــة الذكــورية في البنى الاجتماعية الأخرى بكامل منطقة البحر الأبيـــض المتوسط مع اختلاف بالدرجة بين مجتمع وآخر. ما يتميــــّز به هــــذا البعـد الثالث لأبحاث «بورديو» بخصـــوص  مسألة المرأة اليوم هي دلالتها الاجتماعية – الثقافية والتي نوجزها في ثلاث نقاط:
  • إن كانـــت الهيمنـــة الذكورية ومـا يواكبها مـــــن هامشية المرأة تبدو بديهيـــة طبيعـــية فالبحــث العلمي يثبت العكـــس إذ يعتـبرها معطى أنتروبولوجيا وبناء اجتماعيا تاريخيا- ثقافيا يقع إنتاجه وإعادة إنتاجه عبر مؤسسات إجتماعية كالأسرة والتعليم واللغة والثقافة الشعبية والدولة. الهيمنة الذكورية بذلك واقع ملموس يكشف عنه تشريح اللاشعور الجمعي للعديد من الشعوب بما يتيح القول إنها خاصية كونية متجذرة في لاوعي الأفراد، سواء أكانوا ذكورا أم إناثا.
  • تُستثنى من عامل التغيير الشامل لجوانب الحياة المجتمعية مساراتُ الرجال والنساء التي تبقى محافظة على استقرار مستمر. تتأكد هذه الديمومة بما يترسخ ويتجذر في اللاوعي الاجتماعي - السياسي نتيجة ترويض اجتماعي للأجساد وما يدعمه من عنف رمزي. فالجسد، عند «بورديو»، بناء اجتماعي صاغته سيرورة ممتدة عبر إكراهات التنشئة الاجتماعية والعنف الرمزي الخفي والمستتر والذي تشكِّل الهيمنة الذكورية شكلا مميزا من أشكاله.
  • تتحمّل النساء، حسب «بورديو»، مسؤولية الحفاظ على رأسمال الرمزي لأُسَرِهِنّ ومجتمعاتِهِنَّ بإعادة إنتاج بُنى الهيمنة الذكورية من خلال عدة آليات يُستدمجنَ فيها ويحرصن عليها بطريقة غير واعية نتيجة التنشئة الاجتماعية. وهذا ما ينبغي الانتباه إليه عند التعاطي مع مسألة المرأة لمواجهة تلك الهيمنة التي تحرص المرأة على المحافظة عليها وعدم مساءلتها كبناء تاريخي -ثقافي- اجتماعي من الممكن تغييره.

مؤدى ما سبق يجعل موضوع المرأة محوريا لمستقبل الإنسانية خاصة لمجتمعاتنا المعرّضة لأخطار نوعية وغير مسبوقة. خصوصيتنا المجتمعية ومستقبلها مرتهنان بشرط رئيسي يحقق ريادة المرأة: هي محتاجة إلى إصلاحات فكرية وثقافية واجتماعية وسياسية لا تتحقق بالفكر الأحادي. ذلك يستلزم تمثل مقتضياتنا الثقافية الخاصة الموصولة بالمنظومة الفكرية والقيمية المميزة. في ذات الوقت نحن مجتمعات مفتوحة على المعاصرة التي تتطلب خاصة الوعي بطبيعة توجهات الحضارة الكونية ونوع المكاسب والمصاعب التي تواجهها. هو توجه يطرح مسألة المرأة في سياق تركيبي يتطلب تحوّلا مزدوجا: تحوّل مع الذات وتحوّل في فهم الآخر استنادا لبوابة البعد الثالث الاجتماعي- الثقافي السالف الذكر.

 

ريادة المرأة تخرجنا بهذا المعنى من ثقافة «الصبي أعقل من أمّه رغم أنها أسنّ منه» لأنها تتطلب حركة تبادل وتداول بين ثقافة تراثية لها تاريخية وفكر جديد له راهنيته ومقتضيات بينهما تفاعل يعيد تنظيم القيم والأفكار وقراءة التراث قصد تقديم الإجابات التي تطرحها الأسئلة المستجدة على مجتمعتنا ومؤسساتها.

د.احمــيده الـنـيـفــر

رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدد

 
هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.