أخبار - 2016.03.26

رُعْبٌ في "المُسَدَّس"!..

رُعْبٌ في "المُسَدَّس"!..

المقصود بـ"المُسَدَّسِ" هنا هو فرنسا، فالفرنسيون يحبّون أن يُسمّوا بلادهم بهذا الاسم لأن خريطتها تشبه الشكل الهندسي سداسيّ الأضلاع... وقد استخدم "جيل كيبل Gilles Kepel" هذه المُفْرَدَةَ في عنوان كتابه الأخير: "Terreur dans l’hexagone: Genese du djihad francais"، وهو ما ترجمته ترجمةً حرفيّةً عن قصد: "رُعْبٌ في المُسَدَّس: نشأة الجهاد الفرنسي".
وهذا الكتاب الذي صدر في أواسط شهر ديسمبر 2015، أي بُعيد أحداث الجمعة السوداء، أو الثالث عشر من نوفمبر الماضي، حاول على امتداد صفحاته الثلاثين والثلاثمائة أن يتتبّع ويحلّل التطوّرات التي قادت إلى هذه الأحداث التي هزّت فرنسا للمرة الثانية على التوالي خلال نفس السنة، أي سنة 2015 التي كانت سنة رعب حقيقي إذ أنّها ابتدأت بالهجوم الدامي يوم السابع من جانفي على جريدة "شارلي هبدو".

والمُؤَلِّف، وهو عالم اجتماع وأستاذ علوم سياسية وخبير بشؤون العالم العربي والحركات الاسلامية، يلاحظ في مستهل كتابه أن خوض "المعركة ضد الإرهاب في أراضي فرنسا أو بلجيكا هي من مهام الشرطة أولا، غير أنها تحتاج الى قدرة على تحليل التربة الأوروبية التي نَمَتْ فيها هذه الظاهرة وعلى الربط بينها وبين تحوّلات التيار الجهادي الدولي، انطلاقا من ظهوره، أوّلَ مرّة، في أفغانستان خلال ثمانينات القرن الماضي، ومرورا بتنظيم القاعدة والحادي عشر من سبتمبر، ذلك أنه إذا لم نفهم كيف نشأ "الجهاد الفرنسي" فاننا نحكم على أنفسنا بِقِصَر النظر السياسي، وهو مع الأسف يشكّل الأفق الذهني لغالبية الطبقة الحاكمة التي يعرّي التيار الجهادي تفاهتها والتي يعاقبها الناخبون في صناديق الاقتراع بإعطاء المزيد من أصواتهم الى أقصى اليمين" (ص8).

ويؤكّد المُؤَلِّف أن "التيار الجهادي انغرس فعلا في "المُسَدَّس"، والدليل على ذلك أن عدّة مئات من المواطنين التحقوا بدولة الخلافة في المشرق، وهكذا يجد أكثر من 1500 شخص أنفسهم، في مطلع سنة 2016، منخرطين إما في مسار مغادرة البلاد أو العودة إليها، وأغلب هؤلاء هم من أبناء المهاجرين المسلمين إلى فرنسا بعد حقبة الاستعمار، غير أن نسبة واحد من ثلاثة أو أربعة منهم هم من الفتيان والفتيات فرنسيّي الأصل الذين اعتنقوا الاسلام".

ويستخلص المُؤَلِّف أن "هذه الأرقام تُحَتِّمُ النظر إلى إحساس الرّعب غير المسبوق في فرنسا، على أنه مؤشر على حالة الضّيق الفرنسي وعلى قصور النّخب السياسية والاقتصادية عن السّيطرة على تحوّلات المجتمع" (ص16).

وقد رصد المُؤَلِّف في الفصول المُوَالية هذه التحوّلات وقام بتحليلها من خلال تتّبع الأحداث التي شهدتها فرنسا منذ ثمانينات القرن الماضي إلى أواخر سنة 2015، ومن خلال التطرّق إلى تفاعلاتها مع مختلف التطورات التي تشهدها الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم مع التركيز على السنوات العشر الأخيرة التي شهدت ابتداء من سنة 2005، كما يرى، بروز جيل جديد من المسلمين وُلِدَ وتَعَلّم في فرنسا ولم يَعُدْ يقبل بممثّلي الاسلام الرسمي خاصة بعد أن "خذلهم" صدور القانون الذي يمنع ارتداء الحجاب في المدارس.
وقد جاء بروز هذا الجيل بالتزامن مع المنعرج الذي أحدثه، في نفس السنة، أبو مصعب السوري بإصداره الكتاب الذي عنونه بـ"دعوة المقاومة الاسلامية العالمية" ونادى فيه بعدم التفريق بين المستهدفين بالعمليات الإرهابية.

وبالاعتماد على استقراء مُوَثَّق لطبيعة هذه الأحداث وتداعياتها، وبالاستناد إلى تحليل دقيق للخطاب الاتصالي سواء المكتوب أو المصوّر الذي تبثّه الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية لا سيما عن طريق الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، أمكن للمُؤَلِّف الكشف عن أسباب نشوء وارتقاء التيار الجهادي في فرنسا وهي كما يمكن استنتاجها من الكتاب تتلخص في ارتدادات الحقبة الاستعمارية، وتغير وضعيّة الأجيال الجديدة من مسلمي فرنسا، وتفشّي البطالة، وتفاقم الفوارق الاجتماعية، والإحساس بالإحباط وانعدام آفاق الترقّي الاجتماعي، والاستفزاز اللائكي، وتقنين الزواج المثلي، واستشراء التطرف اليميني، ووجود حاضنة سجنية لانتداب الارهابيين وتجنيدهم، وكذلك الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني...
وقد انتهي المؤلف من كل ذلك إلى أهم الاستخلاصات التالية:

  • أن الدّولة الفرنسية تبدو عاجزة عن لجم ظاهرة الإرهاب رغم أن أغلب فاعليها خلال سنة 2015 معروفون عند أجهزة الشرطة والعدالة ومُصَنَّفُون لدى مصالح مكافحة الإرهاب، بل إن بعضهم تم سجنهم وقد انخرطوا في "الجهاد" من داخل الحاضنة السّجنية.
  • إن ما يمنع التعمّق في دراسة هذه الظاهرة هو اعتراض بعض الأحزاب الآيلة للسقوط التي يقف خبراؤها المزيّفون سدّا في وجه رصد التمويل العمومي اللازم لإنجاز الدراسات الواجبة التي يمكن أن تفضح كذبهم، وكذلك هيمنة بعض كبار الموظفين الذين يعتبرون أنهم يحيطون بكل شيء علما وهم في الواقع يجهلون هذا المجال لأن مدارس الإدارة التي تخرّجوا منها لا تدرّسه.
  • إن انتقال الإرهاب من إرهاب هَرَمِي يشبه في تنظيمه تنظيم الإدارات البوليسية إلى إرهاب يعمل فاعلوه كخلايا منعزلة عن بعضها البعض ليس حاليا محلّ تفكير الأجهزة الأمنية ذات التنظيم التراتبي والتي ينبغي أن تصلح نفسها حتى تتأقلم مع خطر لم يسبق لها أن واجهته من قبل، وسيكون ثمن العمى الإرادي والصَّمَم المتعمّد اللذين يتم التعاطي بهما معه أبهظ في المستقبل...
  • ان الفيلسوف "بيير ماننت Pierre Manent" يعتبر في الكتاب الذي أصدره في شهر سبتمبر 2015 تحت عنوان "وضعية فرنسا" أن  أحداث جانفي 2015 علامة على تداعي البلاد الأخلاقي والمؤسسي، وهو مظهر من مظاهر إفلاس اللائكية التي اصبحت دينا مدنيا لها، ولذلك فإنه يدعو إلى "ميثاق وطني جديد" يتم فيه قبول قيم المسلمين وتثبيتها قانونيا...
  • إن هذه "الوصفة" التي تدعو إلى إعطاء الاسلام مكانه المشروع في الجمهورية كمجموعة قائمة الذات، تهدف إلى أن يصبح المسلمون، دون خيانة عقيدتهم، أعضاء كاملي العضوية في الوطن الفرنسي، ومعنى ذلك أن الميثاق سيشكّل بالنسبة إليهم فرصة لفكّ ارتباطهم مع التأثيرات الراديكالية والتمويلات الآتية من شبه الجزيرة العربية، ويقنعهم، من غير إكراه، بضرورة القيام  ببعض التنقيحات المعقولة على غرار التخلّي عن النقاب وتعدّد الزوجات.

وعلى العموم، وانطلاقا من أن حالة الرعب التي تعيشها فرنسا تشكّل علامة على قلقها الحضاري، فإنه من الواجب، كما يرى المؤلّف، الإقرار بأن سعي بعض السياسيين قصيري النفس وعديمي الرؤية إلى "تحصين" المباديء العلمانية للجمهورية يبقى دون مستوى الاستجابة لمتطلبات رفع التحدي الذي يفرضه "الجهاد الفرنسي".
وعلى هذا الأساس فإنه يؤكد أن وجود الاسلام في فرنسا ينبغي أن يكون في قلب التفكير في حاضر الوطن ومستقبله، كما ينبغي أن يرتقي إلى مرتبة المَشْغَل المركزي في مشاغل المجتمع.

ولكي يتسنى تحقيق ذلك، فإنه يرى في الختام أنه من الضروري إعادة بناء مؤسسة "التربية العمومية" بدءا  من الحضانة ووصولا الى الجامعة التي يؤكد أنها اليوم "سقطت في حالة من الفقر المدقع من جراء قصور الطبقة السياسية الأثيم".

ومع ذلك فانه يعتبر أن النقاش الوطني، ووضع السياسات العامة التي يستدعيها الرد على حالة الرعب السائدة في "المسدّس" لن ينجحا إلا بالاستناد الى المعارف التي ما تزال الجامعة قادرة على انتاجها، لكن إلى متى؟

*********

بعد هذا التقديم لفحوى الكتاب، أود أن ألاحظ أن أول ما استرعى انتباهي فيه هو أن المُؤَلِّف ركّز في الحديث عن أسباب التطرف والإرهاب في فرنسا على الأحداث والسياسات الداخلية الفرنسية ولم يتطرّق إلى الأحداث والسياسات الخارجية إلا بصورة ثانوية، ففيما عدا حديثه عن القضية الفلسطينية وبالتحديد عن الحرب التي شنّتها اسرائيل على غزة في شهر جويلية 2014 وتأثيرها في مشاعر المسلمين الفرنسيين، يُلاحظ أنه أهمل الحديث بصورة كلّية أو شبه كلّية عن دور فرنسا وبالتحديد دور الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في الإطاحة بالعقيد معمر القذافي وفي حالة الفوضى والدمار التي تعيشها ليبيا اليوم، كما أهمل الحديث عن تدخّل الجيش الفرنسي في مالي وعن مشاركة فرنسا، بعد أحداث الثالث عشر من نوفمبر 2015، بصورة أكثف في عمليات التحالف الذي أنشأته الولايات المتحدة بعنوان محاربة الدولة الاسلامية في العراق والشام.

وغنيّ عن البيان أن هذا الإهمال الذي أحسب أنه متعمّد لا يعني أن مجمل هذه التدخلات لم يكن لها تأثير في تغذية نقمة الجماعات المتطرفة والإرهابية على السياسيات الفرنسية خاصة وأن بعض النصوص التي استشهد بها المؤلّف تربط بين استهداف فرنسا وبين دورها في النزاعات الدائرة في المشرق العربي وفي بعض بلدان القارة الافريقية...

أما الملاحظة الثانية التي أود ابداءها فهي تتعلق بتأكيد المؤلّف على الدور المحوري الذي يمكن للجامعة أن تضطلع به في التصدّي لظاهرة الإرهاب والتطرّف.
وما من شكّ أن وضع السياسات العامّة التي تستدعيها مكافحة هذه الظاهرة لا يمكن أن تكون ناجعة إلا إذا استندت إلى المعارف التي تنتجها أو على الأقل تسهم في إنتاجها الجامعة، تماما مثلما يقول المُؤَلِّف، غير أنني أعتقد ان الجهود التي ينبغي أن تبذل في هذا المجال يجب أن تتوزّع على المَدَيَيْن الفوري والقادم، إذ أنه من الضروري العمل للتوّ على وقف النزيف، في انتظار تحديد وتوفير متطلبات العلاجات الجذرية اللازمة.

وفي هذا السياق فإنني ألاحظ مثلا أن المُؤَلِّف يشدّد في أكثر من موقع من كتابه على الدور الخطير الذي تلعبه الانترنت وبالتحديد مواقع التواصل الاجتماعي في الترويج لخطاب الجماعات المتطرفة والتنظيمات الارهابية ولأفعالها، غير أنه لا يتطرق في المقابل إلى ضرورة تضافر الجهود من أجل وقف أو على الأقل عرقلة هذا الدور...

وأما فيما يتعلق بـ"الميثاق الوطني الجديد" الذي يُقَاسِم المُؤَلِّف  الفيلسوفَ "بيير ماننت" الدعوة إلى اعتماده، فإنني أخشى أن يكون بعيد المنال، لا سيما في ظل التجاذبات السياسية والفكرية التي تهز الساحة الفرنسية خاصة والأوروبية عامة، وفي خضم الأزمة الشديدة التي يعيشها الاتحاد الاوروبي من جراء تدفّق مئات الآلاف من المهاجرين على بلدانه والتي دفعت به إلى إقامة المزيد من الحواجز المادية والنفسية التي ستعمّق الهوّة الفاصلة بين ضفتي المتوسّط.

وإذا تذكّرنا أن أحداث الثالث عشر من نوفمبر 2015 تزامنت مع حلول الذكرى العشرين لإطلاق مسار برشلونة الذي كان يطمح إلى إقامة "منطقة للسلم والاستقرار والامن" تجمع بين بلدان الاتحاد الاوروبي والبلدان المتوسطية الشريكة،  فإننا لا نملك إلا أن نسجّل، بكل مرارة، أن مشهد البحر الابيض المتوسط اليوم هو تماما نقيض ما هدف إليه هذا المسار./..

محمد ابراهيم الحصايري
تونس في 25/03/2016


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.