أخبار - 2025.09.12

الجانب الخافي من تاريخ تونس الحديث والمعاصر: لمحات عن فكر عبد الحميد بن مصطفى

الجانب الخافي من تاريخ تونس الحديث والمعاصر: لمحات عن فكر عبد الحميد بن مصطفى

بقلم عز الدين المدني - لقد ذكرتُ في حلقة سابقة أنّ الكتاب الّذي خصّصه المؤرّخ والعميد الجامعي السّابق حبيب القزدغلي لرثاء المفكّر السّياسي عبد الحميد بن مصطفى قد احتوى على نشر اثنين وسبعين (72) مقالًا أَدْرَجَهَا الفقيد الرّاحل في جريدتي الطّليعة والطرّيق الجديد الشّيوعيتين.

والآن أتساءل: أهذا كّل ما كتب عبد الحميد بن مصطفى خلال فترتين تاريخيّتين متقطّعتين في حياته الفكريّة النّضالية أم هو اختيار قام به حبيب القزدغلي للمقالات الّتي تصوّر بأمانة مواقف مفكّرنا وأفكاره النّقديّة قصد إعطائنا فكرة عن ثوابت الرّجل وقيم فكره؟ وخيرًا ما فعل المؤرّخ ونِعْمَ! فقرّب إلينا عبد الحميد بن مصطفى...

على أنّي أعتقد أنّ عبد الحميد بن مصطفى قد كتب أكثر ممّا قرأت له اليوم، مقالاته بالّلغة العربّية. إنّي أقرأ سيرته الذّاتية فأحسّ بأنّ له نصوصًا أخرى غير موجودة أو قد نالها الفراغ أو بالأحرى الشّغور مثل نصّه الكامل لنقد الحزب الشّيوعي الذي هو منه وإليه، أين هو؟ فهل يتكرّم الزّمان يومًا بالعثور عليه ونشره؟ أليس هذا الموقف الذي اتخذه خارجًا عن الانضباط الحزبي بل كان طليعيًّا في فكر المجدّد عبد الحميد بن مصطفى؟ وهو ما أواخيه به شخصيًّا!

وهل من سبيل إلى معرفة مداولاته في النّدوات وتصريحاته في اللقاءات ومحاوراته ومناقشاته؟ وأين رسائله والرّسائل إليه؟ وأين الملفّات الّتي تدينه والّتي تتعلّق بسجنه المرّة الأولى (1963) ثمّ سجنه وتعذيبه شرّ العذاب المرّة الثّانية (1968) فالمرّة الثّالثة (1972) وهو الرّجل ذو الجسم النّحيف والنّحيل لكنّه الصّامد رغم ضعفه وهزاله البدني أمام النّظام.

البورقيبي. فبعد رجوعي من المغرب الأقصى إلى تونس أواخر السّبعينات حكى لي (أحدهم) بالتّفصيل ما تلقاه عبد الحميد بن مصطفى من عسف به، وهو واقف مستقيم حديدٌ لم تَنْثَنِ له ركبة ولا طأطأ له رأس. فبكيت والله بكيت عليه وعلى تونس القسوة والظّلم والقهر!

في أغلب رأيي، تصّور مقالات عبد الحميد بن مصطفى التي جمعها المؤرخ حبيب القزدغلي وقدم لها بتوطئة عن ثوابت الرّجل ومبادئه وقيمه الّتي ناضل في سبيل تحقيقها وضحّى بنفيس حياته من أجل تونس، تونس الحرّية، تصّور بدقّة أوضاع الحياة السّياسية تحت جناح الحزب البورقيبي.

ومن جهة أخرى تعكس هذه المقالات مدى تقدّم مفكّر تونسي حديث ومعاصر في الأفكار وبالتّالي في الأفعال المطلوبة بضرورات الزّمن وهو ما يسمّى إجمالًا براكْسِيسْ لدى المفكّرين التّقدّميين. ولابدّ من الإشارة إلى المصادر والمراجع الإيديولوجية والعلميّة الإنسانيّة والفلسفيّة الّتي من المتحمل أنّ مفكّرنا درسها في شبابه وكهولته ومطلع كبر سنّه. وكيف لا يعرف قائد سياسي مثل عبد الحميد بن مصطفى أعلام الاشتراكية والشّيوعيّة مثل كارل ماركس وأَنْڤلْسْ ولِينيِن وبْلِيخَانُوف وروزا لوكْسَمْبُورْڨْ ونيكولا بُوخَارِينْ وكارل كروس ولِيبْكْنَخْتْ وكارل كوتسكي وأَدُورْنُو وجُرجي لوكَاتِشْ وهُرْكْهَيْمِر ومَرْكُوزْ...

وأعلم أنّ عبد الحميد بن مصطفى كان قارئا ممتازًا ودارسًا ذكيًا بفضل موهبة النّقد لديه. أمّا كتابته بالّلغة العربّية فيفهم كلماتها وجملها كلُّ قارئ متعلّم فضلا عن المثقّف طبعًا. ثمّ هي سلسلة سهلة السّيولة بل تسهّل وتيسّر الأفكار المعقّدة أو الصَّعبة، وفيها كثير من الإيحاء والإيجاز والتّلميح معوّلا على فهم القارئ... تلك هي صورة لخطابه السّياسي. والحقّ أني لم أجد في مرآتها فخفخة السيّاسيين ولا تعقيد المفكّرين ولا ركاكة هواة الاعلام والصّحافة الرّسمية!

وقد طرق عبد الحميد بن مصطفى في مقالاته من الموضوعات الّتي بين أيدينا - ما يزال بعضها حيًّا وكأنّه كتبها في الزّمن الحاضر - إذ ما انفكت المجتمعات في جنوب العالم تتكلّم عنها وتتناقش وتقبل وترفض وتتظاهر وتحتج وتتخاصم وتتصارع كمسائل التَّطّور والتّقدم والتّقدميّة والدّيمقراطية والاشتراكية والشّيوعية... وهل هناك ملاءمة بين الإسلام والشّيوعيّة؟ مازال هذا الموضوع الأخير وقودًا للصراعات لا في أقطار الجنوب فقط بل في أقطار الشّمال والغرب أيضا. وأعتقد أن عبد الحميد بن مصطفى صار بفضل طرح هذه الإشكالية المصيرية قبل أوان احتدامها (أي سنة 1960) مفكرًا من أعلى طراز فكريّ قيمة وقدرًا وشأوًا... ولي عودة إلى موضوع عبد الحميد بن مصطفى رحمه الله.

عز الدين المدني

قراءة المزيد

الجانب الخافي من تاريخ تونس الحديث والمعاصر: نحو رفع الحجاب
  
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.