أخبار - 2025.03.30

عزّ الدّين المدني في حديث رمضـان (6): الكاتب الباحث في مغامرات البحث

عزّ الدّين المدني في حديث رمضـان (6): الكاتب الباحث في مغامرات البحث

بقلم عزالدين المدني - في الحلقات السّابقة، سعيت كلّ السّعي في التّعربف بجنس البحث بين الأجناس الأدبيّة الأخرى ولو باختصار شديد. فما هو مضمونه وشكله والعوامل التي تجعل منه بحثا حقيقيا من حيث هو جنس أدبيّ إبداعي.

لِنَدعْ جانبا البحث في العلوم أو ما يُسمّى في الجامعات والمؤسّسات العلميّة بالبحث العلمي ولكن رغم ذلك لكليهما شبه في المسار البحثي: من العزم على تشريح المجهول الى إيجاد سبيل لإبراز المعلوم سواء كان إيجابيا أو سلبيّا...وعلى كلّ فإنّ المسار البحثي ـ هذا المختصر كما وصفناه هنا ـ هو عبارة عن مغامرة فكريّة وعمليّة معا، ولعلّها مجازفة! من يدري فلعلّها ما بين النّجاح والخيبة المرّة؟

وباحثنا الكاتب فاخر الرويسي قد تجشّم مشاكل البحث الصّعبة لا في كتابه عن «فتحي زهير" فقط بل في مجموعة كتبه منها "فتحية خيري" و"مشاهير المطربين التونسيين اليهود" وبحوثه الأخرى. والأرض التي سيواجه فيها المصاعب والمشاكل والأخذ والرّدّ بين المجدي وغير المجدي وبين التقدّم خطوات قليلة ثمّ الرّجوع والمراجعة على درب آخر ولو أنّ الهدف واحد. هي الأرض العسيرة المبلّطة بالذكريات الطافئة والنّاقصة والمبتورة والمشتّتة والموضوعة الملفّقة والحاقدة المادحة بالمدائح النّفعية وهوّة النسيان وعمق الخلاء! فكيف السّبيل الى الالتئام والجبر للكاسر وللمكسور قصد التّنسيق وانتظام خيط السّياق أملا في الوصول إلى الهدف المنشود؟

صحيح ما يعتزمه الباحث من البحث (وصواب) عن الصّواب، وهو أمر شرعي في الإنسان أن يبحث في البحث الحرّ بلا قيد حاضر ولا شرط سابق. لِنَقُلْ إنّ هناك أشياء أعني في صدره تخفق كالضّمير تارة وكالوعي طورا. هو ذاك ما يحفّزه ويدفعه وحتّى يدفره ويسكنه وهو لا يريد الى ذاك إرادة من صلبه زمن صلده! لنسال علم تحليل النّفس حول ما يرغب الإنسان فيه، وَلْنُناقش نظريات علم الأمراض العصبيّة والعقلية، ولنفتح ما كتبه العلامة الفيلسوف الرّئيس ابن سينا من أنّ الذي يدفع الانسان دفعا قويا جبّارا نحو تلبية رغباته في الشّفاء من أوصابه المزمنة إنّما هو ممارسة الفنّ بلا توقّف ولا هوادة. فالفنّ هو الدّواء الشّافي العافي بمعنى هو كذلك فنّ البحث الأدبي الحرّ في حديثنا هذا ...وعلماؤنا اليوم ترجموا كلام الفيلسوف القديم بترجمة معاني الحداثة الطبية النّفسيّة ومنهم فْرُويدْ ولَاكَنْ و يُونقْ:

"نزلت اليك من المحل الأرفع *** ورقاء ذات تدلّل وتمنّع"
(قصيد ابن سينا)

وصاحبنا الباحث الحرّ كان يتنقل من مكتبة إلى مكتبة ليطالع الصّحافة التّونسية القديمة التي يرجع تاريخ إصدارها الى العشرينات أو الثلاثينات أو الأربعينات أو الخمسينات أو حتى الستينات من القرن العشرين حتى صار خبيرا فيما نشرته الصّحف عن الأدب والأدباء والمُوسيقى والمُوسيّقيين والمطربين والمطربات عن ابداعاتهم وسيرة حياتهم وحوادث عيشهم. يتنقّل وهو يطارد وثائقا وصورا نادرة لفنّان قديم مشهور كالنّجم وعده هذا الذي سيسلّم له الوثائق فيعود الباحث الى الجري وراء الصّور للحصول عليها باستحباب وبالشكر المستفيض لأنّ الباحث مُحتاج وكأنّ من يُسلّم إليه الوثائق هو صاحب المنّة والفضل...يتنقّل في خضمّ حركة المرور العنيفة والمهدّدة من طرف أعوان الشِّنڤال الذين لا يرحمون شيئا ولا أحدا ترك سيارته واقفة رابضة لبعض دقائق لنسح الوثائق ولكن أين أماكن الشغور أين في المدينة؟

يتنقّل على نفقته ومن مصروف غدائه وعشائِه مع العائلة الكريمة، ولسبب ما أنّه صمّم على الوصول الى مصادر تحقيقاته في البحث والتنقيب والتحفير عن خبر نشرته احدى الجرائد العتيقة أو شبه المعاصرة لكن عامل المكتبة لا يعرفها ولا حتّى عنوانها ولا وجودها في أيّ ركن من المكتبة!!! وسيدفع قليلا من الدنانير من جيبه طبعا إلى المكتبة المذكورة (نسخة الورقة الواحدة بمركز التوثيق الوطني ثمنها 400 ملّيم للحجم العادي A4 و500 ملّيم نسخة من حجم A3) لأنّه طالع الوثائق النّادرة وسوف يُبيّن قيمتها لتاريخ البلاد والشّعب. 

وسوف يدفع صاحبنا الكاتب الباحث ودفع ويدفع ويدفع الى الآخرين ثمن تصميمه على البحث الدِؤوب القاسي. ومع كلّ هذا الشّقاء يخرج من المكتبة سعيدا إذا ما ظفر بشيء يرضيه ويدعّم تقدّم بحثه. أمّا إذا لم يظفر بشيء فهو كالصّيّاد الذي رجع بخفّي حنين كما يقول التّعبير العربي القديم. فما هي نفسيّة الباحث عندئذ؟

كثيرا من القراء في بلادنا لا يعطون أيّة قيمة للبحث ولا للباحث خصوصا إذا كان البحث ينتمي للأدب والفنّ وهم يرون أنّه عمل ليس ضروريا لكنه سهل يسير في تصوّرهم. ولو كان الباحث كاتبا مبدعا وفنّانا جميلا. ونقيض كل ما سبق من السّطور فإنّ بعض المواطنين العرب في بلدانهم وبعض الأجانب يعطون للباحث حقه المعنوي وللبحث مكانة مخصوصة متميّزة في مراجع معارفهم للعرض والنقاش ولا للمبالاة ولا للإهمال أبدا.  

ومن المؤسف ألّا وجود لهيكل عندنا يموّل البحث الحرّ ولا يُغطّي حتّى مصاريف الباحث فقط. فلا يهتمّ به أحد ولا يسأل عنه أحد إلّا من عصم ربّك وهو ذو الجلال والإكرام./.

عزّ الدّين المدني

قراءة المزيد

عزّ الدّين المدني في حديث رمضـــــان (1) : المبدع والإبداع الأدبي الحرّ ومشاكله

عزّ الدّين المدني في حديث رمضـــــان (2) - ظروف البحث الأدبي الحرّ ومشاكله: كتب فاخر الرويسي مثالا

عزّ الدّين المدني في حديث رمضـــــان (3) - الكاتب والباحث فاخر الرويسي وشذرات من سيرته

عزّ الدّين المدني في حديث رمضـــــان (4) - البحث الأوّل: كتاب عن العميد فتحي زهير

عزّ الدّين المدني في حديث رمضـــــان (5)  - مؤسّسو دولة تونس الحديثة : فتحي زهير ضمن الوحدة التّأسيسيّة العامة


 



 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.