الذكاء الاصطناعي: القطار الذي لا يمكن التخلف عنه
بقلم ملاذ المراكشي، جامعي ومختص في الذكاء الاصطناعي. ستتميز السنوات القليلة المقبلة - بل وربع القرن المقبل - بتغير تكنولوجي سريع. وهذا يعني أن نجاح الأمم والعالم سيعتمد على قدرتنا الجماعية على إدارة هذا التغيير بشكل جيد. نحن اليوم على أعتاب تطورات كبيرة في علوم الحياة وعلوم المادة وعلوم البيانات والطاقة وتكنولوجيا المناخ. ومع ذلك، من شبه المؤكد أن أكبر الفرص في الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين ستأتي من الذكاء الاصطناعي. وهذا يؤكد على ضرورة أن تضع الدول استراتيجيات وسياسات وطنية تستفيد من إمكانات الذكاء الاصطناعي بشكل فعال. ولكي تنجح هذه الاستراتيجيات، من الضروري أن ندرك دور الذكاء الاصطناعي كتكنولوجيا ذات أغراض عامة، وأن نشجع الاستثمارات التي تدعم اعتماده على نطاق واسع في جميع مجالات الاقتصاد، بما في ذلك مبادرات التعليم والتكوين المستمر التي ستمكن المواطنين من الازدهار في عصر الذكاء الاصطناعي الجديد.
كما أن قراءة متمعنة في تاريخ التكنولوجيات تفيد أن العامل المحدد طويل المدى للنمو الاقتصادي لبلد ما، ليس محددا بما إذا كان ذلك البلد في طليعة البلدان المبتكرة في” قطاع رائد“ في ذلك الوقت، بل هو ما إذا كان البلد ”ينشر“ - أو يوسع نطاق - اعتماده على ذلك الابتكار في جميع مجالات اقتصاده. وهذا الاستنتاج بديهي بالنظر إلى أن التكنولوجيات المتطورة التي كانت ضرورية تاريخياً، تعزز الإنتاجية بشكل كبير. فكلما زاد اعتماد التكنولوجيا المتقدمة، ازدادت مساهمتها في مقومات الإنتاجية التي تدفع النمو الاقتصادي.
وهذا من شأنه أن يؤكد على التأثيرات المرتقبة للذكاء الاصطناعي على مدى السنوات الخمس والعشرين القادمة. واليوم، في الوقت الذي يركز فيه بعض صانعي السياسات بشكل كبير على ما إذا كان بإمكان بلدانهم السيطرة والهيمنة على الابتكارات المتطورة في التقنيات الجديدة الرائدة في الصناعة، مثل وحدات المعالجة الآلية ونماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة، فإن ما لا يقل أهمية عن ذلك، إن لم يكن أكثر أهمية، هو ما سيتطلبه الأمر لضمان اعتماد الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع وفعال في جميع قطاعات المجتمع التي يمكن أن تستفيد منه. فالذكاء الاصطناعي خاصة وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات بصفة عامة تعد تكنولوجيات لها قدرة تحويلية هائلة. فلديها القدرة على إعادة تشكيل الاقتصادات والمجتمعات وحتى التوازن الاقتصادي بين الأمم.
إن تبني تكنولوجيا ما على نطاق واسع، يستغرق وقتًا أطول من مراحل الابتكار في حد ذاتها. فحتى الابتكارات التي طورت تكنولوجيا متطورة في غضون سنوات قليلة تطلبت تبنيًا مجتمعيًا واسع النطاق استغرق عقودًا من الزمن. وهناك العديد من الأسباب التي تدعو للاعتقاد بأن هذا النمط سيتكرر بالنسبة للذكاء الاصطناعي.
ولهذا السبب من المهم أن نتطلع إلى الأمام الآن، حيث يحتاج الجميع في نهاية المطاف إلى ذكاء اصطناعي ليس فقط أكثر قوة، ولكن أيضًا متاحًا على نطاق واسع وجديرًا بالثقة. فمن الآن وحتى منتصف القرن الحادي والعشرين، تتطلع العديد من البلدان إلى تسخير الذكاء الاصطناعي لتعزيز الإنتاجية والازدهار على حد سواء. لكن لا ينبغي أن نعتقد أن الطريق سهل فالتحديات حتمية. وسيتعين على القادة السياسيين التعامل مع هذه التحديات بحكمة ومرونة. ولكن الفرص المتاحة أمامنا أكبر بكثير من التحديات. ويمكننا أن نتعلم من التاريخ لضمان أن يحقق الذكاء الاصطناعي فوائد يتم تقاسمها على نطاق واسع.
وايمانا منها بأهمية هذا الموضوع، انخرطت العديد من الدول في إعداد استراتيجيات وطنية لتطوير الذكاء الاصطناعي خدمة للتنمية الشاملة. حيث يفيد تقرير أكسفورد انسايت لسنة 2023 حول درجة تهيؤ الحكومات للذكاء الاصطناعي، أن عدد البلدان التي اعتمدت استراتيجيات وطنية في الذكاء الاصطناعي فاق 70 دولة من جملة 193 دولة. كما تم تسجيل انخراط دولتين جديدتين من مجموعة الدول ذات الدخل المحدود في هذا المسار. وقد طورت المنظمات الدولية المعنية آلياتها لمزيد تأطير الدول الأعضاء في المجال من خلال تقديم الخبرة والتمويلات لدعم حوكمة الذكاء الاصطناعي. وترتكز جل هذه الاستراتيجيات على عدد من المحاور أهمها الحوكمة، البنية التحتية وتوفر البيانات، والمجال التكنولوجي الذي يضم الراس المال البشري والقدرة على الابتكار.
كما أن أحد الدروس الحيوية المستفادة من التاريخ، هو دور المهارة المكتسبة لدى العنصر البشري في نشر تبني التكنولوجيا. فلا يمكن للمؤسسات في جميع مجالات الاقتصاد أن تتبنى تكنولوجيا جديدة ما لم يكن لديها الكفاءات البشرية التي اكتسبت المهارات اللازمة لاستخدامها. وقد بينت العديد من الدراسات أن الحاجة إلى مهارات جديدة كانت حاسمة في انتشار جميع التقنيات العالمية الكبرى منذ القرن الثامن عشر. ويمتد هذا الأمر إلى ما هو أبعد من احتياجات المستخدمين اليوميين، مما يسلط الضوء على أن البنية التحتية للمهارات المتقدمة أمر لا غنى عنه في توسيع نطاق المهن التي تبتكر تطبيقات تستخدم التقنيات الجديدة على نطاق واسع.
لذلك اعتنت كل الاستراتيجيات الوطنية في الذكاء الاصطناعي بتطوير خطط وطنية لمهارات الذكاء الاصطناعي التي تستند إلى التخصصات القائمة مثل علوم الحاسوب والبيانات والرياضيات، وتوقع كيف ستتطور هذه المجالات إلى وظائف ومهن لمهندسي الذكاء الاصطناعي ومصممي أنظمة الذكاء الاصطناعي وغيرهم. كما تهتم هذه الاستراتيجيات بالدور الحاسم للقبول الاجتماعي للتكنولوجيا. حيث لا تصبح أي تكنولوجيا جديدة مهمة حقًا ما لم يرغب الناس في استخدامها. وعادة ما يعود القبول العام أو الاجتماعي إلى عاملين: الفائدة والثقة. يجب أن تحل التقنيات المشاكل الحقيقية للمجتمع وتحسن حياة الناس. وفي الوقت نفسه، يجب أن تكون جديرة بالثقة، مع وجود ضمانات لحماية القيم المجتمعية والأخلاقية للبلد.
يعتمد القبول الاجتماعي الواسع للذكاء الاصطناعي على عوامل أخرى.
أولاً، نحتاج إلى ضمان أن يخلق الذكاء الاصطناعي فرصاً جديدة للعمل، وليس فقط نمو الإنتاجية. وفي حين أن هذا يبدأ بمهارات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، إلا أنه لا يمكن أن يتوقف عند هذا الحد. يتطلب اعتماد التكنولوجيا في المؤسسة إدارة مدروسة للتغيير، وعادةً ما تتضمن الأساليب الأكثر فعالية مساهمات من الموظفين المعنيين باستخدامها.
ثانياً، يحتاج قطاع الذكاء الاصطناعي إلى تطوير التشريعات والقوانين بما يضمن التوازن بين اعتماد مسؤول للذكاء الاصطناعي موجه لصالح البشرية ويحترم الخصوصيات ويوفر المساوات دون تحيز أو تمييز من جهة، ويفتح من جهة أخرى المجال أمام التطوير والابتكار في هذه التكنولوجيات واعتمادها الواسع في المجتمع.
ثالثا، يتطلب القبول الاجتماعي للذكاء الاصطناعي الأخذ بعين الاعتبار تأثير الذكاء الاصطناعي على استدامة المناخ. هناك العديد من التطبيقات التي يمكن أن يساعد بها الذكاء الاصطناعي في تحقيق تقدم جديد في تكنولوجيا وممارسات المناخ وتقليل انبعاثات الكربون. ومع ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي يتطلب بناء المزيد من مراكز البيانات واستخدام المزيد من الكهرباء. ولهذا السبب لا بد من الاستثمار في التقنيات الأكثر مراعاة للبيئة مثل مصادر الكهرباء الخالية من الكربون.
يمثل دمج الذكاء الاصطناعي في تونس فرصة لتعزيز جودة التعليم والتكوين والرفع من الكفاءة التشغيلية بشكل كبير في مختلف القطاعات. من خلال اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل التعلم الآلي وتحليل البيانات، يمكن للشركات تبسيط العمليات وتقليل التكاليف وتحسين عملية اتخاذ القرار، وهو ما يعكس الاتجاهات التي شوهدت في مجالات أخرى تستخدم الذكاء الاصطناعي. ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة في قطاعات مثل الفلاحة، حيث يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي تحسين إدارة المحاصيل واستخدام المياه، وبالتالي معالجة تحديات الأمن الغذائي، إلى جانب مجال الرعاية الصحية، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسهل تحسين التشخيص وإدارة المرضى والتنبؤ المبكر بحلول أمراض أو جائحات مستقبلية. وفي نهاية المطاف، فإن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لا يبشر بالتنمية الاقتصادية فحسب، بل يعزز أيضًا بنية تحتية أكثر مرونة يمكنها التكيف مع التحديات المستقبلية، مما يضع تونس في مكانة إيجابية في السوق العالمية.
قد يطرح إدماج الذكاء الاصطناعي في تونس تحديات متعددة الأوجه، كغيرها من بقية البلدان،التي يجب معالجتها بشكل حاسم للاستفادة من فوائده المحتملة.غير أنه بالرغم من هذه التحديات، فإن مشهد الذكاء الاصطناعي في تونس، يجعل الفوائد المحتملة من الانخراط فيه، إذا كان مازال لنا الخيار في ذلك، تفوق بكثير التحديات التي تصاحب تطبيقه. فإن تعزيز أطر عمل قوية للذكاء الاصطناعي لن يسهم في النمو الاقتصادي فحسب، بل سيؤدي أيضًا إلى تحسين نوعية الخدمة الموجهة للمواطن وإلى مزيد الرفع من جودة الحياة مما يؤدي إلى مستقبل أكثر ازدهارًا لتونس.
إن تحقيق هذه الفوائد يتوقف على التنفيذ الاستراتيجي المصمم خصيصًا للسياق التونسي، حيث سيكون من الضروري وضع استراتيجية شاملة للذكاء الاصطناعي تشمل مشاركة مختلف الأطراف المعنية والأطر التنظيمية وبناء القدرات. علاوة على ذلك، فإن تعزيز التعاون بين الجهات الحكومية والأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص يمكن أن يحفز الابتكار ويضمن توافق تطبيقات الذكاء الاصطناعي مع الأولويات الوطنية والمعايير الأخلاقية. إن تبني الذكاء الاصطناعي بطريقة استراتيجية سيمكن من تعزيز الميزة التنافسية لتونس في السوق العالمية، وفي نفس الوقت معالجة القضايا الاجتماعية الملحة، مما يمهد الطريق للتنمية المستدامة والنمو الشامل.
ملاذ المراكشي
جامعي ومختص في الذكاء الاصطناعي
- اكتب تعليق
- تعليق