ناريمان... المطربة السّاحرة
بقلم فاخـــر الرّويســـي - شقراء، رشيقة القوام، وهبها الله نصيب وافر من الجمال والرقّة واللّطف وخفّة الدّم. كانت محطّ جميع الأنظار، خلاصة للغضاضة والفتنة... بهيّة في مظهرها... عذبة في صوتها، فكهة الكلام... انّها المطربة الحسناء ناريمان.
بأحد الازقّة المترابطة للأسواق المحيطة بجامع الزيتونة المعمور، القلب النابض لمدينة تونس، تحديدا بمنزل الڤايد المعروف الحاج الصّادق الرّصّاع وفريدة بالرّحومة الكائن بـ 18 نهج الغرابل (الغرابلية قديما) ولدت فاطمة – نزيهة الرصّاع يوم 7 شهر فيفري 1934
النشأة
ترعرعت نزيهة بإحدى أقدم دور المغرب العربي. يقول الأستاذ الاديب والشاعر الحبيب شيبوب: "ان عائلة الرصّاع هي "من أقدم العائلات في مدينة تونس التي انجبت علماء و"ڤيـّاد" وعدول و"شواشية" وتجّار، منهم من تولى مناصب عليا بالوزارات".
كانت مطربتنا أصغر اخوتها: البشير، السّيدة، علّالة ومحسن... ألحقها والدها الحاج الصادق بمدرسة " الأخوات البيض" Les Sœurs الكائنة بمنوبة.
خلال تلك السنوات، عمّ "القراموفون" بيوت الميسورين والمقاهي وبعض المحلات التجارية. فغزت أسطوانات مشاهير الفن والطرب الشرقيين والغربيين كل الفضاءات وروّجت بكثافة. وكانت الطفلة نزيهة تجتهد للظفر بسماع اغاني ليلى مراد واسمهان وام كلثوم ولوردكاش وفيروز وJoséphine Baker وEdith Piaf وBarbara وMaria Callas وغيرهنّ من شهيرات المطربات.
وغالبا ما تهيّأ حبالها الصوتية وتتمرّن على ترديد اغانيهن في اللقاءات والمناسبات العائلية بحضور صديقاتها وحبيباتها... كان صوتها الدافئ يسحرهنّ ويطربهن، ما جعلها قبلة الأحباب والجيران والعائلات التي تتولى من حين لآخر إقامة الحفلات او احياء المناسبة الخاصة...
كانت شابة يافعة مغرمة متيّمة بفيروز" المعجزة اللبنانية، التي لم يعرف الغناء صوتًا أرقّ من صوتها ولا أجمل"، كما وصفها محمّد عبد الوهاب، الذي أضاف أنّ: "صوتها كخيوط الحرير، وأشعة الفضة...". وكانت الطفلة نزيهة نقبل على أغانيه الرائجة وتردّدها باقتدار ونجاح منقطع النظير...
الصبا والجمال
بقرار من والدها هجرت نزيهة مقاعد الدراسة، وهي لم تتجاوز بعد الرّابعة عشرة سنة...
وفي تلك السن المبكّرة -كأغلبية اترابها- قرّر تزويجها، بعد أن تقدّم لخطبتها محمد سعيد طقطق، وهو أحد تجار نهج المرّ الأثرياء المعروف مع اخوته عبد الحميد والشاذلي بتجارتهم المزدهرة ويكنّوا بـ "الإخوة طقطق" Les frères Taq Taq... عرف الخاطب محمد أو حمّادي كما كان يدعى بدماثة اخلاقه وخفة روحه وانفتاحه، مع علاقة الودّ والاحترام التي تجمعه بسي الحاج الرصّاع.
وقع القبول والرّضا وتمت الزيجة سنة 1948... وأسكن حمّادي قرينته بمنزله الكائن بـ 41 نهج عبد الوهاب، رحبة الغنم، قبالة دار القاضي، وزير القلم خليل بوحاجب...
كان سعيد محبوبا من كل الجيران، طيّب المعشر مستنيرا، يحب الحياة، ويحب الفن وأهله. لما تحقّق من طاقات زوجته الفنية وميلها وشغفها بالطرب والموسيقى أراد اسعادها، فأتى بإيطالية لتعليمها العزف على العود والبيانو ومكنتها معلّمتها من الولوج الى أسرار السولفاج.
كانت ناريمان الزوجة الثانية للملك فاروق وامّ ولي العهد أحمد فؤاد فاتنة جدا، تتصدّر المجلاّت والجرائد في بداية الخمسينات. وكانت نزيهة مغرمة بها وبجمالها فسمّت نفسها "ناريمان"، رغم ان صاحبتنا – من وجهة نظرنا- تفوق الملكة جمالا... وللناس فيما يعشقون مذاهب...
بدايات ناريمان
بفضل الدّروس التي تلقّتها من مدرّستها الإيطالية، الى جانب امكانياتها الصوتية ومواهبها الفنية تمكّنت ناريمان من الانطلاق في عالم الطرب الرحب. وأصبح زوجها يعقد سهرات البيت التي يدعو فيها اعيان القوم والعائلات المرفّهة من الاجوار، مثل عائلة باش حانبة التي كانت تنظّم هي الأخرى السهرات الطربية. وكثيرا ما كانت تصطحب ناريمان عودها خلال هذه السهرات التي يحضرها العديد من مشاهير الفنانين والمطربين التونسيين والشرقيين، منهم عازف الكمان الشهير والموسيقار الكبير الحلبي فاضل الشوا، الذي كان رئيسا لقسم الموسيقى بإذاعة القاهرة، والذي زار تونس سنة 1956 مع "فرقة النيل الاستعراضية". وكان من بين الحاضرين من أعضائها، الممثلة والرّاقصة الموهوبة تحيّة كاريوكا، وعازف الكمان البارع عطيّة شرارة الذي أراد فاضل الشوّا الحاقه بالإذاعة التونسية لتعليم الموسيقيين التونسيين العزف.كان الموسيقار أبوبكر المولدي جارا وصديقا لزوج ناريمان. وكثيرا ما كان يدعى لهذه السهرات مع بعض العازفين من فرقته... أعجب أبوبكر بصوتها، فطلب منه ضمّها لفرقته، لتُعرّف بموهبتها وبصوتها الجميل، فوعده سي حمّادي بالنظر مع صاحبة الشأن...وفي سنة 1958 وافقت ناريمان على ذلك.
فيروز تونس
بعد أيام قليلة، وفي احدى سهرات الأعراس تفاجأ قائد فرقة المنار الشهيرة العبقري رضا القلعي باكتشاف صوت ناريمان العذب، وأعجب به أيّما اعجاب. فالحّ عليها بلباقته المعروفة على الالتحاق بفرقته. لكن ناريمان اعتذرت بلطفها المعهود، وأعلمته أنّها تعاقدت مع أبوبكر المولدي. ولأوّل مرة سنة 1959 اعتلت ناريمان ركح قصر الجمعيات سابقا ودار الثقافة ابن رشيق حاليا في حفل نظّمه متعهّد الحفلات كلود ناتافClaude Nataf ، وقد قام بتنشيطه الطاهر المليجي، والذي روى أنّ أبو بكر المولدي قاد فرقته "الشباب"، وأنّ المطربة الهام شاركت بالغناء وكذلك كمال رؤوف النڤاتي الذي "كان يرتجف من الرهبة - وهو في بداياته - عندما اعتلى الركح قبل ان تغني ناريمان اغنيتين" لحّنهما أبوبكر المولدي: "هجرني سنين" كلمات منجي الساحلي و "انا عندي كلمة" نظمها بابا الطاهر. كما غنّت ناريمان أغاني لفيروز التي انتشى لها الحضور وصفق لها طويلا. ويضيف أنّ عناصر الفرقة تكوّنت من: " جلول الشيشتي (دربوكة) احمد القابسي (الطار) الطاهر الصغيّر (العود) الشاذلي الصباحي (القانون) محمد الزهروني (الناي) الصادق الكيلاني (Violoncelle) محسن خنفير والهادي الحنافي والناصر زغندة (الكمنجة) وكذلك أبوبكر المولدي كمنجاتي وقائد الفرقة". وضمن الحفلات العديدة التي اقامتها الفرقة غنت ناريمان "مطربة العهد الجديد" ليلة السبت 30 افريل 1960 ولأوّل مرة امام جمهور مدينة الاغالبة القيروان. قضت ناريمان قرابة ثلاث سنوات مع فرقة المولدي، ثم التحقت سنة 1961 بفرقة المنار. وقد غمرت السّعادة وقتئذ قائدها رضا القلعي الذي اقام معها ومع عدد من الفنانين حفلات بعدة فضاءات خاصة بقصر الجمعيات سابقا، وأهمّها الحفل الشهير بتاريخ 6 جانفي 1962 شاركت فيها الراقصتين "نعيمة الجزائرية" و"منقالا" والمطربين عزالدين إيدير، وزغندة واحمد شكري.
وبعد مدّة غادرتها لتتعاقد لفترة وجيزة مع "فرقة العصر" بقيادة حسن الغربي، وحطّت أخيرا الرّحال بفرقة نجوم المنار بقيادة البشير جوهر لتتخصص في الأغاني الخفيفة.
الجوهرة المصون
حققت ناريمان نجاحات كبيرة وتعاملت مع أبرز الملحنين: أبوبكر المولدي- البشير جوهر- عبد الحميد ساسي- موريس ميمون- ونّاس كريم- الهادي مبروك-علي العيد- حسني شطا- محمود الثامري- علي شلغم. ونظم لها عديد شعراء أغانيها المعروفة والمسجّلة: مصطفى عزوز، الهادي علي، رضا الخويني، الهادي عبد الملك، عمارة المرسني، راجح القفصي، أحمد الزّاوية، محمود الشرايبي، توفيق بودربالة حمادي الباجي وغيرهم.رغم انفصالها عن زوجها سنة 1964، والى جانب تعلّق ناريمان الشديد بأبنائها: مْحمّد، كمال، لطفي، سميرة وأمال، وتفرغها للإحاطة بهم، كان هذا الأخير حريصا على توفير كل الضروريات وتسخير كل الإمكانيات والكماليات لتربيتهم. فانتدب معينتين منزليتين " دوجة" و"زبيدة" لخدمتهم وهو ما شجّع ناريمان على مواصلة ممارسة هوايتها التي أصبحت تمتهنها.
موريس ميمون على الخطّ
في اوج مجدها وعطائها سافرت للجزائر وليبيا والمغرب، واقامت حفلات بالبلدان الأوروبية وخاصة باريس، اين احتضنها موريس ميمون و"ايفلين" Evelyne زوجته، ومحسن الرّايس اللذين هيّأوا لها الأجواء والظروف الطيبة للإقامة. وأقحماها الوسط الفني وقدّم لها عدّة فنّانين مغاربة وفرنسيين والتونسي صديق الجميع منصور المجدوب الذي تولى تسجيل أسطوانتين لدى شركة باتي ماركوني الشهيرة التي كان يديرها أحمد حشلاف. والطريف ان الاسطوانتين لقيتا رواجا كبيرا بليبيا ...قيل في تلك الظروف أن السبب في ذلك يرجع الى تعمّد شركة التسجيل تصدير صورة مثيرة لناريمان!!! ...
وانطلقت تغني ببلاد الأنوار مع فرقة موريس ميمون، وبقيت تتنقل باستمرار بين تونس وباريس.
...ونصيبها في الاغنية الفرنسية
سنة 1973 إثر عودتها الى تونس تمكّنت من تسجيل تسع عشرة أغنية موجودة الآن بالخزينة الصوتية، سجّلت عدد منها خلال منوّعة أنتجها محمّد رشاد بلغيث شارك فيها في الغناء الهادي المقراني والهادي القلال ووجوه فنية أخرى. كما سجّلت لها شركة النغم عدد آخر من الاغاني. كانت ناريمان مغرمة بالأغاني الرّومنسية الفرنسية الشهيرة للنّجمات الصاعدات مثل "داليدا" و "ميراي ماتيو" وكذلك أغاني "الروك والصنبا" التي مثّلت موضة تلك السنوات...وتتولى ترديد بعضها في عدد من حفلاتها وفي السّهرات الشبابية الرّاقصة التي كان يقوم بتنظيمها مالك صالة مدريد حسن الصغير، فتنال استحسان الجماهير الشابة واقبالها. وكثيرا ما كانت الحشود الشبابية في استقبالها بالتصفيق الحار والهتاف عندما تحلّ بسيارتها "السيمكا 1000" امام صالة مدريد لتنزل هيفاء في أبهى حللها، بجمالها الفرعوني السّاحر، وقوامها الممشوق. ويروى انه عندما تمرّ بمقهى العبّاسية بباب سويقة لتتجه الى مكتب محمود الثامري لـ "تبرّف" مع الهادي المقراني كانت تتعمّد إطلاق زمّارتين من سيارتها فيدرك حرفاء المقهى انها ناريمان ليهتف بعضهم" ناريمان يا دولة...".
الوجه الصّبوحي تحت الضوء
سنة 1987 نزلت مطربتنا ضيفة على المنوّعة التلفزية "وجوه تحت الأضواء" التي أبدع في تقديمها القدير لطفي البحري وأخرجها علي منصور، غنّت فيها 6 من اغانيها منها: "قلبي فاكر ديما أحبابو" نظم احمد الزّاوية، " معليش " نظم رضا الخويني، "كيف السبة يا ناسينا" نظم محمود الشرايبي، "ماذا جريت وراهم" و" يا خسارة، دارت الأيام" لحّنها كلّها البشير جوهر ومحمود الثامري.
المسرح
خاضت ناريمان تجربتها المسرحية الأولى بالمسرح البلدي " عشْقة وعيطة مع الشيخ قرْنيطة" مع "فرقة المسرح الشعبي"، تقمّصت فيها شخصية "جليلة". وهي عشيقة "الشيخ قرْنيطة" الذي تقمّص فيها شخصيته البشير الرّحال، الى جانب الممثلة دلنْدة عبدو والممثلين: عزّالدّين بريكة والحبيب بالحارث، أحمد الحرّانْ، عبد العزيز العرفاوي، أحمد التريكي، حسن الخلصي، عبد الكريم القلْعاوي، محمّد بن علي وآخرون... وقد جاء بالمعلقة الاشهاريّة ما يلي:
الحفلة لولى في رمضان*** تفرْهيدةعالصّايْميــــــــن
الحاج قرْنيطة وناريمان*** عشقة تضحّك بين الاثنين
هدْرة كبيرة عالنســْـوان*** فيها حيلة وتشيطيـــــــــن
من توّيكة حوز مْكــــان*** وتمتّع بفنْ بنيـــــــــــــــن
أفول نجمة
وهب الله ناريمان الجمال والاناقة ودماثة الاخلاق. كان صوتها رخيما عذبا ينساب حانيا ليُدخل الدفء والأُنس في القلوب. كانت هادئة الطبع وديعة المعشر. عاشرت الجميع بزهد وحبّ وطـُهورة وعانقت النجومية بعفّة وتواضع... دون ضوضاء ولا ضجيج ... تاركة الأثر الطيب... وأكثر من 120 أغنية... جزء كبير منها سجل بتونس، وبعضها الآخر بالخارج.
طيلة حياتها الفنية انتقلت ناريمان بالسّكن الى عدّة مناطق من العاصمة: بنهج مرسيليا، وباردو، والمنزه السادس وحطّت الرّحال بشقّتها بالمنزه الرّابع، أين مرضت بالقصور الكلوي. وقد أذن النظام بتخصيص منحة شهرية خاصة لها وبتمكينها من العلاج المجاني بالمستشفى العسكري.
انهدّت ناريمان كما تنهدّ الجبال... انطفأت الشمعة المضيئة... ساد الظلام على من كان يستنير بنورها: عائلتها...أحبابها...أصدقاءها...مستمعيها.
وأسلمت الرّوح الى أمر خالقها يوم 7 ديسمبر 1993.
رحم الله ناريمان
فاخر الرويسي
- اكتب تعليق
- تعليق