أخبار - 2023.07.28

رحيل قيدُوم المقاومين والمناضلين والحقوقيّين بتونس، عمّ علي بن سالم (1932 -2023)

رحيل قيدُوم المقاومين والمناضلين والحقوقيّين بتونس، عمّ علي بن سالم (1932 -2023)

بقلم عادل بن يوسف - غادرنا صباح يوم الخميس 27 جويلية 2023 إلى عالم أرحب عميد المناضلين الحقوقيين علي بن سالم والنائب السابق بمجلس نواب الشعب (2014-2019)، عن سنّ ناهز الواحدة والتسعين سنة.

وبهذه المناسبة الأليمة وبحكم معرفتي للفقيد حيث كان يتدخّل معي بالهاتف من بنزرت في جلّ المناسبات الوطنية في المباشر على أمواج إذاعة المنستير و قيامي بحوار مطوّل معه ببيته يوم الأربعاء 26 نوفمبر 2014 (أي فور فوزه في الانتخابات التشريعية لمجلس نواب الشعب سنة 2014)، لفائدة برنامجي الإذاعي "شهادات حيّة" (تمّ بثه على أمواج إذاعة المنستير يوم الأحد 07 ديسمبر 2014)، رأيت من الضروري التعريف بالفقيد للأجيال التي لا تعرفه، لا سيّما الشبان منهم.

ميلاده ونشأته

هو علي بن سالم كشك ولد يوم 05 جوان 1932 وسط أسرة محدودة الدخل ومناضلة بمدينة بنزرت. وفي سنّ السابعة من عمره فقد والد الذي أصيب برصاصة في قدمه إبّان أحداث 08 جانفي 1938 ببنزرت. زاول علي بن سالم تعليمه الابتدائي بالمدرسة العربية- الفرنسية ببنزرت ثمّ بالمدرسة الفنية ببنزرت (Collège Technique de Bizerte) التي حصل على ديبلومها سنة 1949.

نضاله ضد المستعمر الفرنسي

في سنة 1948 شارك ولأول مرة إلى جانب تلاميذ المعاهد بمدينة بنزرت في تحرك نضالي وهو في سنّ 16 من عمره للتنديد بتقسيم فلسطين في سنة 1947 والحرب عليها من قبل الكيان الصهيوني وتشريد الفلسطينيّين من أراضيهم. و في سنة 1952 وعلى إثر اندلاع معركة التحرير الوطني بتونس شارك إلى جانب العديد من أبناء جيله والوطنيين في عمليات ميدانية ضد مصالح الاستعمار الفرنسي ببنزرت. وعندما كُشف أمرُه مع رفاقه، لاذ بالفرار مع صديقه المناضل محمد الصالح البراطلي إلى ليبيا حيث تلقّى تدريبا عسكريا مع مجموعة من اللاجئين التونسيين تحت إشراف الزعيم التونسي علي الزليطني. إثر ذلك التحق بالمقاومة في الجبال التونسية شمال البلاد، لكن هناك من الموقوفين لفظ تحت التعذيب اسم المنتمين لمجموعته فتمّ في أواخر 1952 إحالته على المحكمة العسكرية الفرنسية التي حكمت عليه غيابيا حكما بالإعدام لم يتمّ تنفيذه!

من مقاومٍ للمستعمر الفرنسي إلى أحد ضحايا "لجان الرعاية"

عند انطلاق المفاوضات التونسية- الفرنسية عارض علي بن سالم الاتفاقيات الفرنسية - التونسية التي جاءت بالاستقلال الداخلي في 03 جوان 1955، معتبرا إياها دون مستوى طموحات وآمال الشعب التونسي، الذي ضحى من أجلها الكثير من أبنائه.
ورغم أنه لم يكن يوما يوسفيا - كما كان دوما يؤكد بنفسه - ولم يشترك في الأمانة العامة للحزب الحرّ الدستوري التونسي بقيادة الزعيم صالح بن يوسف، فإنّ حملات الاعتقال ضد اليوسفيّين التي شنتها "لجان الرعاية" في كامل أنحاء البلاد التونسية وخاصة في "صبّاط الظلام" تحت إشراف الشيخ حسن العيادي، قد طالته فتمّ اختطافه والاحتفاظ به في أحد مراكز لجان الرعاية في حمّام الأنف، لكنه فرّ من مقرّ اعتقاله وظل مختفيا عن الأنظار بتونس العاصمة إلى أن تدخّل لفائدته الأستاذ جلولي فارس ومنحه حماية خاصة.

متطوّع في معركة بنزرت خلال شهر جويلية 1961

في جويلية 1961 وخلال معركة الجلاء التي خاضها الشعب التونسي من أجل استرجاع مدينة بنزرت وقاعدتها العسكرية و بسط السيادة التونسية عليها، قاد علي بن سالم مجموعة من المتطوعين فاق عددهم 230 نفرا اُستشهد أغلبهم. ووقع علي بن سالم في الأسر بين أيدي الجيش الفرنسي إثر إصابته بشظايا في أسفل الظهر والرقبة وسُجّل لدى منظمة الصليب الأحمر الدولي تحت رقم: 719، ولم يتم إطلاق سراحه إلا بعد أشهر عندما تمّ تبادل للأسرى بين الجيش الفرنسي والحكومة التونسية.
وأمام كثرة ضحايا وجرحى معركة بنزرت (ببين 19 و 22 جويلية 1961) التي لم تكن البلاد مهيأة لها (622 شهيد و 1.555 جريح حسب المصادر التونسية وأكثر من 5.000 قتيل وجريح حسب مصادر المعارضة التونسية) قد خابت آمال علي بن سالم في الاستقلال في ظلّ انفراد بورقيبة والحزب الحرّ الدستوري بالحكم وانعدام الحرّيات... الخ. لذا ستراوده فكرة المعارضة لنظام الحكم البورقيبي.

أحد أفراد المجموعة الانقلابية ضد بورقيبة في ديسمبر 1962

نتيجة كل ما تقدّم انضمّ عمّ علي بن سالم في أواخر سنة 1962 إلى مجموعة سريّة تتألف من المدنيين والعسكريين بقيادة لزهر الشرايطي، كانت ترتّب في كنف الكتمان القيام بانقلاب ضد نظام الحكم البورقيبي. لكن انكشافها يوم 24 ديسمبر 1962 قبيل التنفيذ بساعات، أدى إلى محاكمة جميع المشاركين فيها وصدرت ضدهم أحكام متفاوتة من قبل محكمة أمن الدولة، تراوحت بين الأشغال الشاقة والسجن والإعدام (12 حكما نفّذت 10 منها يوم 24 جانفي 1963)... وكان نصيب علي بن سالم منها حكما بالأشغال الشاقة مدى الحياة، قضى منها إحدى عشر سنة بين كرّاكة غار الملح وسجن برج الرومي. و كان مع رفاقه خلال السبع سنوات الأولى منها مكبّلا بالسلاسل إلى الحائط في الظلام الدامس تحت عمق 100 قدم عن مستوى سطح الأرض.

وكان من أبلغ آثار تلك المحنة على عائلته وفاة زوجته بمرض عضال فتولّت والدته تربية أبنائه. وفي 01 جوان 1973 وبمناسبة عيد النصر، أُطلِقَ سراح علي بن سالم وبقيّة أفراد المجموعة الانقلابية القابعين في السجن بموجب عفو من الرئيس الحبيب بورقيبة شخصيّا. وإثر خروجه من السجن أعاد بناء حياته بالزواج من إمراة تولت مساعدته على تربية أبنائه. كما وفّق عبر بعض الصداقات في الظفر بعمل يضمن كرامته ببلدية بنزرت كعون فنّي مختصّ في قيس الأراضي.

من سجين إلى معارض حقوقيّ لبورقيبة و بن علي

منذ خروجه من السجن لم تنقطع المراقبة الإدارية والأمنية عن علي بن سالم بمدينة بنزرت. لذا اتجه نحو النشاط الحقوقي فساهم في تأسيس فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ببنزرت سنة 1981 واتخذ من الطابق الأرضي لمحلّ سكناه مقرا لها بداية من سنة 1986 وظل يعمل داخلها إلى أن آلت إليه رئاسة الفرع زمن حكم بن علي.

وهو كذلك عضو مؤسس للمجلس الوطني للحريات و عضو مؤسّس ونائب رئيس للجمعية التونسية لمناهضة التعذيب وعضو مؤسس ورئيس لودادية قدماء المقاومين و عضو بمنظمة العفو الدولية – فرع تونس.

وسياسيا انخرط الفقيد خلال تسعينيات القرن الماضي بحزب حركة الديمقراطيّين الاشتراكيّين وشغل خطّة كاتب عام جامعة بنزرت لحركة الديمقراطيين ليخلفه الدكتور محمّد نجيب الحدّاد. كما اتخذ من الطابق الأرضي لمحلّ سكناه مقرا لها، إلى جانب مقرّ الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

من سجين إلى نائب بمجلس نوّاب الشعب

بعد ثورة الحرّية والكرامة أصبح عمّ علي بن سالم كثير الظهور في المنابر والحوارات الإعلامية في الإذاعات والتلفزات والصحف والمجلات والملتقيات والندوات الحقوقية... الخ. وفي سنة 2012 انضمّ إلى حزب "نداء تونس" فور بعثه ورشّحه الأستاذ الباجي قايد السبسي ليكون رئيس قائمة الحزب عن دائرة بنزرت في الانتخابات التشريعية التي انتظمت يوم 26 أكتوبر 2014 وتمّ انتخابه بمجلس نواب الشعب.

وباعتباره أكبر نواب المجلس سنا ووفق مقتضيات دستور 27 جانفي 2014، ترأس الفقيد الجلسة الأولى من افتتاح أشغال مجلس نواب الشعب يوم الثلاثاء 02 ديسمبر 2014 وقد بدت عليه ملامح التأثر إلى حد البكاء.

وفي أعقاب جلسة يوم الخميس 04 ديسمبر سلّم الرئاسة إلى الأستاذ محمّد الناصر ومساعديْهِ الأول الأستاذ عبد الفتاح مورو والثاني فوزية بن فضّة الشعّار، متمنيا لهما النجاح و التوفيق و "القليل من مرض السكري" (حسب تعبيره).

ورغم محنة السجون التي دامت إحدى عشر سنة ما فتئ عمّ علي بن سالم يصّرح في في وسائل الإعلام التي يظهر بها بعد 2011: "إنّي محبٌّ لبورقيبة وأكنّ له كل التقدير والاحترام وليس لي تجاه شخصه كرها أو ضغينة".

ورغم مرضه وتقدمه في السنّ، فقد حافظ عمّ علي بن سالم على نشاطه الحقوقي والجمعيّاتي المألوف بمسقط رأسه ببنزرت فكان لا يبخل على كل من يقصد بيته من الصحفيّين والمؤرخين والباحثين في الشأن السياسي والحقوقي بحثا عن نصيحة أو شهادة شفوية حول مدينة بنزرت مسيرته أو حول محطة من محطات تاريخ تونس منذ الفترة الاستعمارية إلى سنة 2014. غير أنه منذ جائحة الكوفيد تعكّرت حالته ولازم البيت إلى أن وافاه الأجل المحتوم.

وسيقام موكب دفن الفقيد ظهر اليوم الجمعة 28 جويلية 2023 بمقبرة العين ببنزرت.

هذا وقد تحول أمس، السيّد والي بنزرت سمير عبد اللاوي بحضور ثلة من الإطارات الجهوية إلى منزل عميد الحقوقيين و المناضل علي بن سالم، حيث قدم واجب العزاء إلى كافة أفراد أسرته.
رحم الله الفقيد عمّ علي بن سالم بواسع رحمته وعظيم غفرانه ورزق أهله وذويه وأصدقائه جميل الصبر والسلوان.

عادل بن يوسف

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.