أخبار - 2023.07.05

حول بعض أطروحات الفكر الفلسفي الراهن من خلال مجلة المخاطبات

حول بعض أطروحات الفكر الفلسفي الراهن من خلال مجلة المخاطبات

بقلم كاهنة عباس - هي مجلة فلسفية محكمة، نشأت سنة 2012 أي منذ إحدى عشرة سنة، أسسها الباحث حمدي مليكة (وهو أستاذ جامعي يدرس الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان) ويترأس حاليا هيئة تحريرها، تتناول مقالاتها أربع محاور كبرى هي المنطق، الإبستمولوجيا، الفنون والتكنولوجيا، تصدر كل ثلاثة أشهر في ثلاث لغات هي الفرنسية والعربية والانقليزية، في نسخة إلكترونية متوفرة انطلاقا من منصة EBSCO الأمريكية التي هي أكبر بنك معلوماتي على المستوى الدولي.
يساهم فيها مجموعة من جامعيين وباحثين من شتى أنحاء العالم من أمريكا، مصر، كوريا الجنوبية، رومانيا، المغرب، قطر، إيطاليا، تونس، الجزائر، فرنسا وغيرها من البلدان.

ونظرا لتعدد مواضيع المجلة وتنوعها وكثرتها، سنكتفي برصد بعض مميزاتها مثل انفتاحها على شتى التيارات والاتجاهات الفلسفية المعاصرة،  نذكر منها بالخصوص الفلسفة التحليلية، التي انتشرت في أوائل القرن العشرين ببلدان مثل بريطانيا وأمريكيا ولم تحظ بالاهتمام الكافي إلا بداية من الثمانينيات في البلدان الأوروبية الأخرى مثل فرنسا حيث سيطرت ما سمي بالفلسفة القارية، كما اهتمت المجلة بدراسة بعض المواضيع الفلسفية الراهنة مثل مفهوم الوعي وما يحوم حوله من إشكاليات وأسئلة، نذكر منها: ارتباطه بنشاط الدماغ، تعدد مستوياته،علاقته بالواقع وبالمعرفة، دون الإغفال عما تطرحه المجلة من قراءات نقدية للفقه الاسلامي واعتنائها بدراسة الفنون والعلوم في الثقافة العربية الإسلامية، سعيا منها للتواصل مع المنحى التنويري الاصلاحي لهذه الثقافة. وهي المحاور الثلاثة التي اخترنا عرضها في هذا المقال لتقديم المجلة.

فقد خصص العدد 43 الصادر في شهر جويليا 2022 لأعمال ندوة دولية نظمت في 17 و18 فيفري 2022 من طرف قسم الفلسفة بكلية قرونوبل بفرنسا لتأويل الرسالة المنطقية الفلسفية للفيلسوف النمساوي لودوفيك  فيتجنشتاين بعنوان: "تأويل الرسالة الفلسفية المنطقية المواضيع، الإشكاليات، التحديات، لفلسفة فيتجنشتاين في مرحلتها الأولى "وذلك بمناسبة مرور مائة سنة على صدور الرسالة.

واحتوى العدد على الترجمة العربية لمقدمة الرسالة المحررة باللغة الانقليزية من طرف الفيلسوف البريطاني  برتراند راسل، بالرجوع إلى ترجمة الفيلسوف الفرنسي جيل غاستون غرانجي الصادرة باللغة الفرنسية، أنجزت من طرف الباحث المغربي لحسن الياسميني، كما تضمن العدد أيضا الترجمة العربية لنص الفيلسوف البريطاني بيتر ميكال ستيفان هاكير لمقال بعنوان: "النهج الانثروبولوجي والاثنولوجي عند فيتجنشتاين" أنجزها الباحث الأردني مروان محمود.

وتتمحور فلسفة فيجنشتاين حول العلاقة القائمة بين العالم واللغة للنظر في مدى تطابقها وما تمنحه من إمكانيات باعتبارها تشكل أسس الفكر الفلسفي.

لفهم تلك العلاقة لا بد من الرجوع إلى تعريف العالم باعتباره مجموعة من الوقائع بعضها مركبة (مشتملة على عدة وقائع) وأخرى ذرية أكثر بساطة تتكون من أشياء مترابطة، أما اللغة فهي نظام يتشكل من الألفاظ إما لوصف تلك الوقائع أو إمكانية وجودها، فتكتسب بذلك معنى ودلالة.

إلا أن التفكير بواسطة مفردات اللغة الطبيعية يطرح إشكالا لافتقادها إلى الدقة والوضوح، إذ تستعمل عبارة واحدة في أكثر من موضع وتتخذ أكثر من معنى، وفي هذا المضمار كتب الباحث المغربي عبد الرحيم بيدق لبيان فلسفة فيجنشتاين ما يلي:
 "فالكلمة الدالة في اللغة الهندوأروبية على الوجود تستعمل في اللغة الطبيعية واللغة الفلسفية أحيانا بوصفها رابطة وأحيانا أخرى باعتبارها دالة على مساواة وغيرها من الاستعمالات الأخرى التي أنزلت فيها منزلة الاسم أو الفعل أو الصفة ،بينما تستعمل علامات اللغة الرمزية بمعنى موحد لا اشتراك فيه وقد أنزلت في الاستعمال الفلسفي منزلة الاسم بل وأدت إلى ظهور مبحث فلسفي كبير هو مبحث الوجود حين أضيفت عليها الصيغة الاسمية ،بينما لا يمكن في اللغة المنطقية استعمال الكلمات باشتراك وألحق هذا الحرف بالمحمول في التحليل المنطقي المعاصر" (1).

لذلك التجأ فيتجنشتاين إلى المنطق باستعمال لغة رمزية تكون غايتها تحديد بناء اللغة الطبيعية وهيكلها المنطقي للكشف عن الروابط  الجامعة بين مفرداتها لمعرفة إن كانت مطابقة للواقع أم لا، تكون مهمتها الأساسية نفي واقعة ما أو إثبات صحتها ،كما سبق عرفناها من وجهة نظره. 

فاستعمل تلك اللغة الخاضعة للمنطق وللرياضيات لتمثل وضعية العالم، من خلال  صور منطقية بإمكانها رسم ما هو واقعي وخارجي، إذ يرى  فيتجنشتاين أن حدود المنطق هي حدود العالم، باعتباره اللغة المثلى لتمثله وتصوره، ليستنتج أن المسائل الفلسفية الميتافيزيقية التي سبق طرحها على امتداد تاريخ الفلسفة بواسطة اللغة الطبيعية كانت فاقدة لكل معنى لعدم وضوحها وانقطاعها عن الواقع. 

وقد بين هذه المسألة الفيلسوف برتراند راسل عند تقديمه للرسالة حين كتب: "يدافع السيد فيتجنشتاين عن فكرة أن كل ما هو فلسفي محض ينتمي إلى ما يمكن بيانه وإلى ما هو مشترك بين الواقعة والصورة المنطقية ويترتب عن هذا الرأي أن لاشيء يمكن أن يقال بشكل صحيح في الفلسفة، فكل قضية فلسفية هي معيبة من الناحية النحوية Gramaticalement  وأحسن ما يمكن أن ننتظر الحصول عليه من نقاش فلسفي ما ، هو أن نجعل الناس يرون أن النقاش  شيء خاطئ، فالفلسفة ليست علما طبيعيا (يجب أن تعني كلمة الفلسفة شيئا فوق أو تحت علوم الطبيعة وليس شيئا إلى جانبها) وهدف الفلسفة هو التوضيح الفلسفي للأفكار، فالفلسفة ليست مذهبا لكنها نشاطا ."(2)
أما الباحث المغربي ياسين إزي، فقد تناول بالدرس ضمن مقاله بعنوان "البنية المنطقية لمفهوم الوعي" بالعدد 42 لمجلة المخاطبات الصادر في شهر أفريل 2022 وانتهج مقاربة تحليلية تعتمد النظر في العلاقات القائمة بين العناصر المكونة لذلك المفهوم.

فعرف الوعي على أنه تجربة داخلية تعيشها الأنا لامتلاكها القدرة على إدراك نفسها بنفسها، استنادا إلى مقولة الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت حين انخرط في تجربة الشك في كل شيء إلا في كونه يفكر، أي في إدراكه لممارسة ملكة التفكير، فاعتبرها  حجة على وجوده، ولتوضيح تلك التجربة كتب الباحث ياسين إزي ما يلي: " فقد أدركت أني أفكر وأدركت أني موجود، والآن أدرك أني أدرك أني موجود وأني أفكر، كما لو أنني صعدت لما نظرت إليه، لذلك لم يعد مجرد إدراك ولكن انعكاسا لذلك الإدراك، ومن ذلك سأدرك أن لدي قابلية لإدراك تلك العلاقة." (3) لكي يستحضر التعريف السبينوزي للوعي في كتابه الايتقا: أنه انعكاس الفكرة على نفسها في النفس، ليسميها المعرفة المصاحبة كما ترشدنا على ذلك تركيبة الأصل اللاتيني لعبارة conscientia إذ هي مؤلفة من كلمتين هما: Con ومعناها المصاحب وScientia  ومعناها العلم والمعرفة، التي قوامها وحدة الأنا لقدرتها على أن تنظر إلى ما سبقها وأن تتصور ما سيلحقها أي بامتلاكها وحدة مستقرة ،تمكنها من تقييم الزمان المتدفق في معناه السيكولوجي.

ويبين الباحث كيف تمتد تلك المعرفة لتدرك أيضا وجود الآخر الذي يشبهها من عدة أوجه ولا يشبهها في نواحي أخرى، ليستنتج أن الوعي بالذات يؤدي بالضرورة إلى الاعتراف لها بحقوق لا مناص من منحها إلى الآخر حتى يصبح العيش المشترك ممكنا وأن وحدة الأنا وإدراكها لذاتها ثم للزمان ثم للآخر هي مصدر للتصورات والتمثلات الفلسفية.

لكن الباحث لم يكتف بدور الفلسفة في تعريف الوعي باعتبارها نشاطا يهدف إلى توضيح الأفكار حسب المنهج التحليلي، بل تناول أيضا ما وصل إليه العلم في خصوص هذه المسالة من أنه نتاج تراكم تاريخي للعلاقات المعقدة الرابطة بين الدماغ والجهاز العصبي، أدت إلى إدراك من نوع خاص هو الوعي، ثم يستند الى ما ذهبت إليه الأكاديمية الوطنية الامريكية للعلوم من أن الدماغ يخلق نماذج للتعلم واتخاذ القرارات والتذكر والإدراك حين ينتج صورة للمحيط وللبيئة أو أي معطى يتلقاه، لذلك يكون الوعي الصورة والنموذج لنشاط الدماغ حول نفسه(4)، ومعنى ذلك أن ما وصل إليه العلم يتقاطع رغم اختلاف المنهج والغاية مع ما ذهبت إليه الفلسفة من تحديد لمفهوم الوعي.

أما الباحث التونسي لعروسي لسمر، فقد أكد ضمن مقاله بعنوان: "آليات تأسيس الفكر الأصولي: الشافعي أنموذجا" ،المنشور بالعدد 42 من مجلة المخاطبات، على غياب الوعي التاريخي للفكر الاسلامي مشيرا إلى ضرورة مراجعة الموروث الديني لما يحيط به من قداسة وعلوية على حساب المعارف الاخرى مثل العلوم باعتبارها معارف محلية قاصرة وهو ما منح علم أصول الدين مكانة مهيمنة.

فقد سعى الشافعي إلى توسيع معنى النص المقدس كي ترتقي السنة إلى منزلة الكلام الإلهي ثم اعتبر الإجماع مصدرا من مصادر استنباط الاحكام الفقهية في النوازل التي لم ينص عليها القرآن ولا السنة وجعلهما مرجعا للقياس، بذلك يكون الشافعي رائدا من الرواد المؤسسين لمركزية النص، مما أدى إلى نتائج مهمة نذكر منها: أن منهجه لا يسمح للواقع التاريخي بالحضور إلا في شكل قياسات نصية، الاهتمام بآيات الأحكام على حساب آيات الإرشاد والإصلاح والتفكير، توسيع أهمية السنة لتضارع النص القرآني قداسة وترتقي إلى منزلة الوحي لتنتقل من الإسلام القرآني إلى إسلام الحديث، وهو ما قلص من دور العقل وجعل اجتهاده مقتصرا على تأويل النص، كما ضيق من دائرة الاختلاف ومن الاعتراف بتعددية تفاسير النص الديني وتطورها وارتباطها بسياقها الاجتماعي والتاريخي والسياسي، ليستنتج ارتباط مشروع الشافعي بالسلطة بوجه عام وبالنزعة المذهبية لانحيازه للمذهب السني ومناهضته للمذهب الاعتزالي، دون التأسيس لاتجاه علمي منهجي لقراءة النص الديني وهو اتجاه لا يقتصر على الشافعي بل يشمل الفكر الاسلامي بصفة عامة.

لذلك يمكن القول بأن المجلة تسعى إلى المساهمة في الحراك الفكري المعاصر بالاهتمام بأحدث المدارس الفلسفية ،متجاوزة بذلك تيار ما سمي بالفلسفة القارية دون أن تغفل عن الهاجس الثقافي العربي المتمثل في طرح الاشكاليات الكبرى المتعلقة بالثقافة العربية الاسلامية.

كاهنة عباس

(1) المخاطبات العدد 42 الصادر في شهر أفريل 2022، الصفحة 44، مقال الباحث المغربي عبد الرحيم بيدق بعنوان المنطقيات وتطبيقاتها العلمية والفلسفية.
(2) المخاطبات العدد 43 الصادر في جويليا 2022، الصفحة 52، مقال بعنوان برتراند راسل قارئا لكتاب فيجنشتاين: رسالة منطقية فلسفية للباحث لحسن ياسميني.
(3) المخاطبات العدد 42 الصادر في شهر أفريل 2022، الصفحة113، مقال بعنوان البنية المنطقية لمفهوم الوعي للباحث المغربي ياسين إزي.
(4) المخاطبات العدد 42 الصادر في شهر أفريل 2022، الصفحة119 ،مقال بعنوان البنية المنطقية لمفهوم الوعي للباحث المغربي ياسين إزي.


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.