أخبار - 2022.10.31

رافع بن عاشور في رثاء الشيخ عثمان بطيخ: أفول نجم ساطع

رافع بن عاشور في رثاء الشيخ عثمان بطيخ: أفول نجم ساطع

بانتقال فضيلة مفتي الجمهورية، سماحة الشّيخ عثمان بطّيخ (17 أفريل 1941 – 25 أكتوبر 2022) إلى الرفيق الأعلى، أفل نجم ساطع من علماء الزيتونة الذين أدوا الرسالة التربوية وحفظوا الأمانة العلمية وحافظوا على أسس المدرسة الزيتونية التونسية.

عرف الراحل الكريم بالسماحة وبالورع والتقوى ودماثة الأخلاق والبر بوالدته، مع التمسك بثوابت المدرسة التونسية الزيتونية، فسار على أعتاب مشائخه الميامين وساير مقتضيات عصره في شتى الوظائف التي شغلها في القضاء والإمامة والتدريس والفتيا.
استهل رحمه الله حياته الدراسية بالمدرسة الابتدائية العربية الفرنسية بتونس، ثم انخرط، بداية من سنة 1956، بالتعليم الشرعي الزيتوني بجامع صاحب الطابع ثم بالمعهد الثانوي الزيتوني ابن خلدون حيث تحصّل على شهادة الأهليّة ثم على شهادة التّحصيل العلمي سنة 1963. إلا أن همّته العلمية دفعته إلى مواصلة تعليمه العالي بالمدرسة العليا للحقوق التونسية حيث تتلمذ على ثلة من الأعلام، نخص بالذّكر منهم الشّيخ محمّد الفاضل ابن عاشور: فتخرّج سنة 1967، حاملاً للإجازة في الحقوق وهي الشهادة التي فتحت له إمكانية اجتياز بمناظرة الحاكميّة بنجاح واستهلال حياته المهنيّة كقاض عدلي بالمحكمة الابتدائية بتونس (من سنة 1968 إلى سنة 1971).

لكن لم يلبث أن استقال من القضاء لمواصلة الدراسة بالكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين والتطوّع لإمامة الصّلوات الخمس، وخاصة صلاة الصبح، بجامع الزيتونة المعمور حيث عين، سنة 2002، إماما ثالثا (إلى سنة 2010) وإماما خطيبا بجامع محرز بن خلف بتونس ثم بجامع العابدين بقرطاج. ونال تباعا الإجازة في الفقه والسياسة الشرعيّة (سنة 1972) ودكتوراه المرحلة الثالثة ودكتوراه الدولة (1982) فارتقى إلى أعلى رتبة بسلك التعليم العالي وعين أستاذا للتعليم العالي.

وفي سنة 2008، عين مفتيا للجمهورية التونسية خلفا لفضيلة الشّيخ المنعم المبرور كمال الدين جعيط الذي تولى الخطّة من 1998 إلى 2008، وهو من رشّحه لنيل هذا المنصب، فكان خير خلف لخير سلف إلى أن أقاله الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي من الفتيا سنة 2013. والجدير بالذكر أن الشّيخ عثمان بطّيخ أولى كل العناية وكل الحرص لجمع آثار سلفه وأستاذه الشّيخ كمال الدين جعيط من فتاوى ومقالات وبحوث وأشرف على ظهور كتاب "مختارات من آثار سماحة الشّيخ كمال الدين جعيط" الذي جمعه وحقّقه الأستاذ محمد العزيز الساحلي ونشرته دار سحنون للنشر والتوزيع. و مما جاء في المقدمة التي وشّح بها الشّيخ عثمان بطّيخ الكتاب "وقد سعدت بالتتلمذ إليه ثم تشرّفت بمواصلة الاتّصال به فيما بعد التّخرج من الزيتونة وبعدما أخذت عنه المشعل على رأس دار الإفتاء".

مع الشّيخ كمال الدين جعيط ببيته بالمرسى

وفي سنة 2015، عاد راحلنا للشؤون العامة إثر تعيينه وزيرا للشؤون الدينية في حكومة السيد الحبيب الصيد. ومن أبرز مآثره خلال فترة تولّيه الوزارة تحرير الجامع الأعظم من حسين العبيدي الذي نصب نفسه، بتواطؤ حكومة الترويكا، شيخا للجامع واستولى على إمامة صلاة الجمعة به فتم إخراج العبيدي بالقوة العامّة وإخلاء الفضاء التابع لجامع الزيتونة من محتلّه. إثر ذلك أعاد الشّيخ عثمان بطّيخ الأمور إلى نصابها ورجعت إمامة الجامع الأعظم لفضيلة الشّيخ محمد الشريف. كما حرّر الشّيخ الجامع الكبير بصفاقس من سطوة محمد العفاس وجامع اللخمي من تعسّف رضا الجوادي.

على أن الذين انقلب عليهم سحرهم لم يغفروا للوزير تخليص المساجد من المستولين عليها فكالوا له شتّى التّهم بسوء التصرف في المال العام وتجاوز القانون وقدّموا ضده عديد القضايا أمام المحاكم، لكن ذلك لم يثن شيخنا الراحل عن قراراته إذ كان واثقا من نفسه ومن نقاوة تدبيره لشؤون الوزارة.

وبمناسبة تحوير وزاري أسندت وزارة الشؤون الدينية إلى الأستاذ محمد خليل وعيّن في اليوم ذاته الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي - رحمه الله -الشّيخ عثمان بطّيخ، وللمرة الثانية، مفتيا للجمهورية ضاربا عرض الحائط بكل التّهم الموجّهة للشّيخ عثمان بطّيخ، ومؤكّدا ما يحظى به الشّيخ من مكانة علميّة ومن نزاهة. وقد بقي في منصبه كمفت للجمهورية التونسية من 2016 إلى أن لبّى داعي ربه تعالى راضيا مرضيّا يوم 25 أكتوبر 2022.

وقد كان الشّيخ عثمان بطّيخ- بّرد الله ثراه - حريصا على أداء وظيفته دون ضوضاء ولا هرج، ييسّر على من يقصده للدّخول في الإسلام ولا ينفّره أو يعسّر عليه. وحرص على تطوير إدارة الإفتاء بإصدار فتاوى على صفحة الفاسبوك التابعة لدار الإفتاء ونشر المجلة الفصلية "فتاوى تونسية" كل ثلاثة أشهر. وقد احتوت المجلّة على مقالات نفيسة من التّراث لأعلام الجامعة الزيتونيّة وعلى فتاوى قديمة وحديثة وعلى بحوث قيّمة في شتّى المجالات الشّرعيّة.

وامتازت فتاوى الشّيخ عثمان بطّيخ بالتمسّك بالأدلّة الواضحة الجليّة وبالاعتماد على الاجتهادات الصّحيحة وبدعوة مستفتيه الابتعاد عما يروّجه المتاجرون بالدّين من فتاوى لا أساس لها ولا منطق. من ذلك مثلا جوابه على سؤال حول صحّة عدم جواز إخراج زكاة الفطر نقدا، حيث جاء في جوابه "دعك مما يقوله المتعصّبون الذين يحلّلون ويحرّمون بلا علم ولا دليل على صحّة ما يفتون به والله يقول في حقّهم ﴿ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون﴾ (النحل 116)". وأفتى رحمه الله بعدم جواز جهاد النّكاح متصدّيا لشبكات تسفير التّونسيات لبؤر الإرهاب ودعى التونسيين للتلقيح ضد وباء كورونا وأفتى أن التلقيح لا يفسد الصوم بل بادر هو نفسه بتلقي التلقيىح في أول يوم من شهر رمضان المعظم.

وقد تشرفت بمعرفة الفقيد العزيز معرفة عميقة عمادها الاحترام والتقدير والأخوة والتقيت به به مرارا عديدة بالجامع الأحمدي بالمرسى أو بجامع العابدين بقرطاج او بمكتبه بديوان الإفتاء، خاصّة ليلة الشك في انتظار ثبوت أولي شهري رمضان وشوال مع ثلة من المشائخ والإخوة الأجلاء.

بديوان الإفتاء إثر الإعلان عن ثبوت أول شهر شوال 1440. من اليسار إلى اليمين: القاضي رشيد الصّبّاغ والشّيخ عفيف الصبابطي ورافع ابن عاشور والشّيخ عثمان بطّيخ والأستاذ محمد العزيز الساحلي والسيد البشير خالد

وكان لا يتخلف عن أي دعوة أوجهها إليه. ومما شرفني حضوره الحفل الذي أقيم على شرفي بكلية العلوم القانونية والسياسيّة والاجتماعية بتونس بمناسبة تكريم زملائي وطلبتي لي لبلوغي التقاعد يوم 16 جانفي 2016. كما تشرّفت بصحبته مرارا عديدة بمدينة الرباط بمناسبة الدروس الحسنية الرمضانية كان آخرها خلال شهر رمضان 1440/ ماي 2019.

بمقر إقامة سفير الجمهورية التونسية بالرباط سعادة السيد محمد بن عياد خلال شهر رمضان 1440 ماي 2019.

هذا غيض من فيض من سيرة المنعّم المبرور الشّيخ عثمان بطّيخ. وإزاء هذا الخطب الجلل وهذه الرزيّة العظمى استحضر أبياتا من قصيدة رثى بها الشّيخ العروسي المطوي – رحمه الله – العلامة الشّيخ معاوية التّميمي – رحمه الله – أراها تنطبق على شيخنا المرحوم عثمان بطّيخ:

أرى نورا تصاعد للعوالي *** ونبراسا يهدده احتجاب
أرى نسرا يطاول كل نجم *** له يعلو الأعاظم والصّعاب
فنم في المجد تحرسك المعالي ***ومن ربّ الوجود لك الثّواب

وبوفاة فضيلة الشّيخ عثمان بطّيخ يكون جيل من المشائخ الأجلاء قد انطفأ نهائيّا. برد الله ثراه وأسكنه فراديس جنانه مع الذين انعم الله عليهم من النبيئين والصدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقا.

رافع بن عاشور



 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
1 تعليق
التعليقات
Raouf Basti - 31-10-2022 20:51

مقال قيم و تأبين في مستوى علم من أعلام الزيتونة المتميزين سماحة المفتي تغمده الله بواسع رحمته و كريم حلمه و جعل مأواه فسيح جناته في أعلى عليين مع الصالحين و الشهداء و الصديقين.

X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.