الدكتور محمّد خليل: على هامش مائوية الشيخ الدكتور محمّد الحبيب ابن الخوجة

إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يوّرثوا مالا ولا ملكا، بل ورّثوا علما، فمن أخذ به فقد أخذ بحظّ كبير.

ولا يختلف اثنان في أنّ العلم رزق إلهي ينتفع به العالم وينفع به الإنسانيّة، وهو نور لا يؤتيه اللّه إلّا لمن علم بجدارته لحمله ونقله والانتفاع والنفع به.

إنّ الشيخ الدكتور محمّد الحبيب ابن الخوجة واحد ممن أنعم اللّه عليهم بهذا الرزق لحمل العلم الشرعي وتعليمه ونشره، وإبراز خصائصه وإيضاح مسائله.

وهي مهمّة خطيرة وجليلة، لا يقدر على تحمّلها وأدائها إلّا من عرف للعلم قدره، وللشرع قداسته، وللواجب قيمته، فيكرع من بحر العلوم، ويثابر في التحصيل إلى أن تتكوّن لديه ملكة الفهم والتمييز، والنقد والتحليل والترجيح، والاستنباط والاجتهاد.

ويمثّل الشيخ ابن الخوجة في هذا المجال صلة موصولة بسلسلة ذهبيّة من علماء تونس الّذين كانت لهم قدم راسخة في العلوم الشرعيّة، انتهت إلى شيخه الذي أخذ عنه العلم وهو الشيخ محمّد الفاضل ابن عاشور العالم البحر ابن العالم النحرير صاحب التحرير والتنوير الشيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور الّذي طالت باعه وعزّ صنوه.

الشيخ الدكتور محمّد الحبيب ابن الخوجة، الّذي تحتفل تونس هذه الأيّام بمائويته، هو علم من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، ممّن تفتخر بهم تونس لسعة علمه،وعلوّ كعبه في التدريس والفتوى، ولوسطيّة منهجه وانفتاحه على علوم العصر وعلى مناهج البحث الحديثة، وعلى التراث العالمي ونتاج الفكر الإنساني، فقد جمع بين الأصالة والمعاصرة، بين ارتباطه بالتراث وبما تشبع به في الزيتونة، وبين الحداثة التي لامس مظاهرها في فرنسا وعايش أبعادها الفكريّة والفلسفيّة في جامعة السوربون التي تخرّج منها بشهادة الدكتوراه في اللّغة والآداب العربيّة سنة 1964، ثمّ عاد إلى تونس ليتولّى التدريس في الجامعة التونسيّة، ثمّ إدارة الدّار التونسيّة للنشر، الّتي طوّر نشاطها، وأصدر خلال فترة توليه لها  مدة خمس سنوات ما يزيد عن مائتين وخمسين عنوانا، ممّا يدلّ على حسن إدارته وعلى غزارة علمه، وعلى معرفته بالتراث الّذي يستحق النّشر.

وما إن توفيّ المرحوم محمّد الفاضل ابن عاشور سنة 1970 حتّى عيّن خلفا له عميدا للكليّة الزيتونيّة للشريعة وأصول الدّين اعترافا بمكانته العلميّة، وانتقاء له دون غيره من جمهرة الدكاترة المدرسيّين والمشائخ الزيتونيين البارزين آنذاك. وقد شهدت هذه الكليّة أثناء تولّيه لعمادتها تحوّلا نوعيّا وتطوّرا في أساليب البحث وفي مناهج التدريس. ثم اختاره الزعيم الحبيب بورقيبة ليكون مفتيا للجمهوريّة، وهو منصب لا يتولاه إلّا من كان مشهودا له بالعلم والفضل والتقوى، وبرجاحة العقل، وامتلاك ناصية اللّغة، وذا إشعاع في الدّاخل والخارج، وهو ما توفّر عليه الشيخ الدكتور محمّد الحبيب ابن الخوجة الزيتوني السوربوني الّذي شغل منصب الإفتاء حوالي ثماني سنوات ليقع اختياره إثرها من منظمة المؤتمر الإسلامي ليكون أمينا عامّا للمجمع الفقهي الإسلامي الدولي بجدّة، وهو مؤسسة أكاديميّة عليا تجمع علماء وخبراء من مختلف بلدان العالم وفي مختلف الاختصاصات الشرعيّة واللغويّة والعلميّة لتنظر في مستجدات القضايا العارضة للأمّة الإسلاميّة، ولتحسم في النوازل الفقهيّة ذات الصلة بحياة المسلم في بعدها الديني التعبّدي، والواقعي المعيش في مختلف مستحدثاته، وفي خصائصه الاقتصاديّة والاجتماعيّة والطبيّة وغيرها.

وقد أشرف على هذا المجمع الرّائد حوالي ربع قرن أفاد فيها بعلمه، وببحوثه المستفيضة، وبفتاويه الجماعيّة الجامعة، وبمقررات تبلغ درجة الإجماع الّذي يعتبر مصدرا من مصادر التشريع.

لقد كان الشيخ رحمه اللّه لمعة في سماء المعارف الدينيّة، يتمتع ببلاغة نادرة وبحافظة قويّة، وبسرعة في الفهم، وعمق في التفكير، ودقّة في البحث، وقدرة على الارتجال والتبليغ، وبشخصيّة علميّة متميّزة وبحضور لافت. إذا تكلّم أمتع، وإذا فسّر أقنع، وإذا استعرض أطنب، وإذا حلّل تعمّق، وإذا قارن رجّح، الأمر الّذي أكسبه حظوة ومكانة، ورفعة قدر، وتبجيلا لدى المؤسسات والهيئات العلميّة والرسميّة في تونس وفي مختلف البلدان العربيّة والإسلاميّة، خاصة المغرب و كذلك الأردن، ومصر، والعراق، وإيران، والسعوديّة، حيث كانت له حظوة خاصّة لدى المرحوم الحسن الثاني الذي يحتفي به حفاوة خاصة كلّما شارك في الدروس الحسنيّة الرمضانيّة، فكان يستمع إلى محاضراته باهتمام شديد، ويستقبله ببشاشة وتكريم ممّا بوّأه عضويّة الأكاديميّة الملكيّة المغربيّة، وكذلك كان شأنه في الأردن، حيث حظي بمكانة خاصّة لدى الملك الحسين بن طلال وكان عضوا بالمجمع الملكي للبحوث، كما كان عضوا لمجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة وبالمجمع اللغوي ببغداد، أمينا عامّا لمجمع التقريب بين المذاهب بإيران، وعضو جائزة الملك فيصل العالميّة بالمملكة العربيّة السعوديّة، وغيرها من المهام والبلدان.

لقد كان له، رحمة اللّه عليه، إشعاع دوليّ، عربي وإسلامي، وصيت ذائع، وجهد مشهود يدلّ عليه ما تركه من تآليف في الأدب والتّاريخ، والفقه والأصول والحضارة، ومن بحوث ودراسات وفتاوى، ومحاضرات ومقالات تحكي مسيرة علميّة لجهبذ ترك بصمته في عصره فشرّف اسمه، وبلده وأمّته، ولغته ودينه، فهو رمز للعطاء والشموخ، وأهل لأن يكون رمزا ومثالا لمن تبعه لما تميّز به من جديّة ومثابرة وإخلاص، واتّباع للوسطيّة والاعتدال، وانخراط في الاجتهاد والتجديد، ونبذ للانغلاق والجمود، مع التمسّك بالثوابت في ظلّ الانفتاح والوعي بمقتضيات الحاضر.

وفي إطار اعتراف تونس بمكانة أعلامها الّذين أعلوا اسمها في المحافل الدوليّة وكانوا لها مفخرة بما أناروا به صورتها، فإنّها تنطلق في إحياء مائوية هذا العالم العلم التي تقع تحت  سامي إشراف سيادة رئيس الجمهوريّة، قيس سعيّد، تشريفا لصاحب الذكرى ووفاء من خضراء الأرض لأبنائها وإن كانوا تحت الأرض.

الدكتور محمّد خليل
وزير الشؤون الدّينيّة السّابق
رئيس الهيئة التحضيريّة لذكرى المائويّة