هي، أو الحياة كما تبدو خلف ستار الفراق
بقلم كاهنة عباس - لا شك أن للصورة مكانة خاصة في الشعر الحديث ،فمن خلالها يتشكل التشبيه والاستعارة، ومنها ينبعث الرمز، بها تنتقل الى المتلقي أحاسيس الشاعر وتجربته الفريدة.
والمقصود بالصورة في هذا الإطار، ليس تلك المرئية التي تلتقطها العين مباشرة ولا التي تنقلها عدسة الكاميرا، فتحدث لدى المتلقي أثرها الحسي والنفسي والعقلي، بل المقصود بها، ذلك التشييد النابع من الخيال الذي يقوم على اللغة ،كأداة للوصف، لخلق مشهد أو التعبير عن موقف، تستعيدهما الذاكرة، مع ما يتركانه في المكان والزمان من آثار.
و ديوان الشعر بعنوان "هي، " الصادر باللغة الفرنسية، عن دار كونتراست للنشر خلال شهر أفريل 2022، من الحجم المتوسط 139 صفحة، هو من باكورة أعمال حمة الحناشي، الصحفي في المجال الثقافي والناقد والناشط في الأوساط الفنية.
يتميز شعره بتعدد وظائف الصورة ومعانيها ،سواء كانت حسية أم رمزية أو تاريخية أو تجريدية أو معنوية وبتداخل أنماطها المختلفة إما كليا أو نسبيا، وإخضاعها لإيقاع متفاوت الحركية والأوزان، لتصبح قادرة على خلق الأجواء التي عاشها الشاعر.
وينقسم الديوان إلى ستة أجزاء تناولت عدة المواضيع، نذكر منها : الفراق، الزمن، الإبداع في شتى تجلياته رسما كان أو موسيقى أو شعرا.
لذلك تختص قصائد حمة الحناشي بذلك التلازم بين الإيقاع بتحولاته المختلفة والصورة بأبعادها المتعددة، إذ لا تعتمد القصيدة في ديوان "هي ،" على حضور الذات الشاعرة في مواجهتها للعالم كما تغنى بها الشعر الرومانسي، بل على نظرة جمالية متعددة المرجعيات، يحيلنا بعضها إلى الفن التشكيلي بألوانه وأشكاله المختلفة وبعضها الآخر إلى الأوزان الموسيقية وخاصة منها الموسيقى الكلاسيكية الغربية وأخرى إلى الأساطير القديمة بتنوع مصادرها، وأخرى إلى إمكانيات اللغة وما تمنحه من أدوات بلاغية مثل الاستعارة والتشبيه، فيتخذ الوصف إيقاعا داخليا تختلف حركيته وسرعته وتحولاته من قصيدة إلى أخرى، بل ومن بيت إلى آخر.
تبرز قيمة الإيقاع وأهميته في الديوان، من أول وهلة من خلال العنوان، الذي جاء بضمير الغائب المؤنث: هي يليه فاصل، للإشارة إلى لحظة قصيرة من السكون الوقتي، ويعود الضمير إلى الراحلة والدة الشاعر، سعيا منه إلى تخليد ذكراها بأن أهدى إليها الديوان، أما الفاصل فهو يوحي إلينا بمرحلة ما بعد رحيلها، أي بزمنية معنية ابتدعها الشاعر ووضع قواعدها من خلال التحكم في التنقيط وخلق محطات من السكون والصمت، تواترت إثرها الأبيات الواحدة تلو الأخرى، داخل القصيدة، لتشيد عالمه الشعري.
لم تكتب عبارة "هي" بحروف الكبرى ،طبق ما تقتضيه قواعد اللغة الفرنسية، والرأي عندنا، أن " هي" جزء لا يتجزأ من ذات الشاعر بما تحمله من واجدان وذاكرة، فلم تنفصل عنه، لذلك لم يكن بحاجة إلى تعريفها.
و إذا ما أدركنا الدلالات التي يتضمنها العنوان، علمنا أن العالم الذي سيصفه لنا الشاعر دون حاجته إلى الإفصاح عن حضور ذاته الشاعرة، هو عالم نابع من وجدانه، إلا أنه غريب عنه في نفس الآونة.
فقد كان الشاعر يرى العالم من منظاره جمالي الذاتي وهو يعلم أنه لم يكتشف بعد أسراره و لا خفاياه ،لذلك كان يستعين بأدوات فنية: منها القطع الموسيقية و الفن التشكيلي والأساطير وبعض الأحداث التاريخية ولقاءات مع بعض الشخصيات الفنية، قصد قراءته واكتشافه من جديد عسى أن يتبين الجانب الخفي منه.
وفي رحلته تلك، أفلح الشاعر في أن يخلق لنفسه "طريقة ما" لإدراك العالم، من خلال وصفه الدقيق لتفاصيل الأشياء والموجودات ومنحها دلالات مغايرة لمعانيها المألوفة وذكر بعض الأعمال الفنية باعتبارها مرجعيات مثل :موسيقى موزار وصوت مغنية الاوبرا الامريكية بربرا هندريكس، كذكر بعض الشعراء والأدباء من بينهم: صالح ستاستي، سيفيرو ساردوي، روني شار، الروائي باسوا وروايته بعنوان التوتر، والأديب عبد الوهاب المؤدب.
فما يجمع بينها، ليست فترة زمنية محددة ولا ثقافة أو اتجاه فني أو جمالي معين، بل هو عنصر آخر أشمل وأعمق: الإنسان حيثما كان، وعلاقته باللغة وبالعالم وبالموسيقى وهي عناصر مترابطة يحيل بعضها إلى بعض.
وتندرج قولة الشاعر روني شار، في هذا السياق، التي أوردها الشاعر في الجزء الخامس من ديوانه بعنوان "على امتداد الفصول" وهي التالية: "الكلمات التي تبرز لنا فجأة، تعرف عنا، ما نجهله عنها."(1) إذ أنها ترشدنا كيف يمكن للغة الشعرية أن تكشف لنا عن خفايا أنفسنا وما لا نعرفه عنها، حين نشرع في استعمالها خارج إطارها التواصلي الاجتماعي، لنجعلها أداة للتعبير عن الذات.
لذلك كان الشاعر يلتقي في بعض القصائد بلحظة جمعته بشاعر أو أديب ما، قد تكون لحظة تصوف مثل تلك التي جمعته بالكاتب عبد الوهاب المؤدب، أو لحظة إدراكه الذاتي بالزمن مثل تلك التي جمعته بالشاعر صالح ستاتي، أو لحظة تأمله لجمال فراشة سميت "كليمات" وقدرتها على مواجهة الفضاء، المياه، العواصف والبرق ،مثل تلك التي جمعته بالروائي الكوبي سيفيرو ساردوي(2)، مما مكنه من تجاوز الحنين إلى الماضي، ليتعلق بالحاضر بكل ما يحمله من تفاصيل ، أن يكون متصلا بمشاعره الآنية، ويبدو لنا ذلك من خلال عدة قصائد، من بينها قصيدته بعنوان " الفاصل والأسنان الأمامية"، إذ يشبه الشاعر الحياة بفاصل قصير، ليصف لنا رغبته في التهامها قضما بالأسنان وتجاوز مرارة الحنين، حتى يولد الفجر وينجلي الليل(3)، .ففراق الأحبة وخاصة الأم، رغم ما تركه من فراغ وحزن، لم يكن سوى فاصل لإعادة تأمل العالم ومساءلته جماليا وفنيا من جديد.
لذلك تميز الديوان بحركية مستمرة بين الصورة والإيقاع، لخلق لزمنية داخلية خاصة بكل قصيدة، لا تدعي الانتماء لا إلى الماضي ولا إلى المستقبل ،بل تبحث باستمرار عن حاضر ممكن، من خلال استعمال الشاعر للغة دقيقة وثرية ،متعددة المرجعيات، قادرة على الحديث عن نفسها بنفسها.
كاهنة عباس
(1) وردت قولة الشاعر الفرنسي روني شار، بالجزء الخامس من الديوان، بالصفحة 101 وقد قمنا بترجمتها من الفرنسية إلى العربية .
(2) جاءت قصيدة " كليمات 2 " بالجزء الثالث من الديوان ،الصفحة 70.
(3) جاءت قصيدة بعنوان "الفاصل والأسنان الأمامية "، بالجزء الخامس من الديوان، الصفحة 104.
- اكتب تعليق
- تعليق