محمد فريد بن تنفوس: محمد الباجي حمدة كان من أبرز محافظي البنك المركزي وأنجحهم
فقدت تونس وفقد القطاع البنكي أحد اهم رموزه ورجاله الابرار برحيل رجل الدولة الوطني المرحوم الباجي حمدة. رجل من طينة الكبار عرف بدماثة أخلاقه وشهامته وكفاءته المهنية وثقافته الواسعة.
عرفته كمحافظ للبنك المركزي وعملت تحت امراته لسنوات عديدة وافتخر بتتلمذي على يده ومدرسته... كنت محظوظا بثقته في شخصي... لتولد من رحم العلاقة المهنية التي سادها دوما الاحترام والتقدير المتبادل صداقة متينة ممزوجة بمشاعر عميقة ترتقي الى علاقة الابن بابيه...
يشهد الجميع بان المرحوم الباجي حمدة كان من أبرز وانجح المحافظين والمسؤولين الذين تعاقبوا على البنك المركزي مثل المرحوم الهادي نويرة والمرحوم علي الزواوي والمدير العام السابق السيد حمادي بوصبيع...
ويذكر انه تقلد هذا المنصب كمحافظ، في أصعب الفترات التي مرت بها تونس، لمدة 11 سنة من سنة 1990 الى 2001, إضافة الى سنتين كنائب للمحافظ من سنة 1988 الى 1990. وقد اعانه في هذه المهمة نواب للمحافظ، جلهم من خيرة إطارات البنك المركزي والذين، إضافة الى معرفتهم لدواليب معهد الإصدار، تمرسوا على دواليب العمل البنكي التجاري وذلك بعد تراسهم في فترات مختلفة الإدارة العامة لبنوك تجارية او تنموية عمومية تونسية....
ولعل من أسباب نجاح سي الباجي رحمه الله في هذه المهمة، إضافة الى ثقافته الموسوعية وتكوينه الاقتصادي المتين وسعة اطلاعه القانوني، هو معرفته العميقة للقطاع البنكي حيث مارس مهنة المصرفي منذ تخرجه من الجامعة في أعرق البنوك التجارية العمومية التونسية الا وهو البنك الوطني الفلاحي وتدرج في المسؤوليات بكل تألق وتميز مما بواه تقلد اهم اداراتها ليتوج برئاسة ادارتها العامة. كما تراس خلال مساره المهني المتميز الإدارة العامة لبنوك تجارية عمومية أخرى في تونس والخارج. وبذلك يكون قد سبر اغوار عالم البنوك ونواميسه وكواليسه... وهو الأدرى بنقاط قوته وضعفه.
وقد ذكر لي بان تقلده المهام العليا لإدارة القروض في البنك الوطني الفلاحي، التي ساهمت في خلق النسيج الصناعي والسياحي والفلاحي التونسي ومولت دواليب الاقتصاد، مكنه من التعرف بعمق على هذا النسيج حيث كان ينتقل في زيارات ميدانية للمؤسسات الممولة من البنك في جميع انحاء البلاد ويعاين إنجازاتها ومشاغلها. كما حافظ على هذا المنهج عند رئاسته الإدارة العامة للبنوك التجارية.
وواصل هذا التمشي بقربه للمؤسسات التونسية بعد توليه محافظة البنك المركزي حيث استمر في الزيارات الميدانية وفي اتصالاته المكثفة للاطلاع والاستماع الي مشاغل الفاعلين الاقتصاديين.
هذا الالمام عن قرب للمؤسسات التونسية كان حافزا ودافعا لملائمة تراتيب ومناشير البنك المركزي لمتطلبات القطاعات الاقتصادية بما يضمن استعدادات حقيقية لمواكبة تطورها ومساعدتها على مجابهة الصعوبات التي تعترضها سواء كانت داخلية او خارجية.
سي الباجي حمدة رحمه الله كان دائما حريصا على دعم وجود المؤسسات الاقتصادية التونسية وديمومتها وتطويرها وعصرنتها. ففي ذلك يكمن سر اقلاع الاقتصاد الوطني...
كما ساعدت المرحوم تجربته في إدارة البنوك التجارية للقيام بنجاح في إعادة هيكلة وعصرنة النظام البنكي والمالي التونسي وتدعيم قدراته المالية ومؤهلاته وامواله الذاتية، وذلك بتدرج وبدون قطيعة من خلال رصد استراتيجية واضحة وعقلانية وموضوعية.
كان الفقيد رائدا ومربيا أمّن بالشباب ودافع عن أفكارهم وساند العديد من الإطارات من البنك المركزي او البنوك التجارية، منهم كاتب هذه السطور، في تحمل مسؤوليات عليا في البنوك التونسية وفي أبرز المؤسسات المالية. سي الباجي حمدة كان مرشدي وتتلمذت عليه وتعلمت منه الجدية والصرامة وفنيات المهنة البنكية وكانت مسيرته أحسن بوصلة ومثال احتذيت به في كل المسؤوليات التي تقلدتها.
كان مسؤولا مؤمنا بإمكانيات تونس وكفاءة رجالها ونساءها وفاعليها الاقتصاديين لذلك عمل دوما على تسهيل اعمالهم وتطوير مشاريعهم هدفه الوحيد تطوير البلاد وقاد في سنة 1992، بشجاعة، أعمق برنامج، منذ 1976 والى الان، لتطوير وتحرير قوانين وتراتيب الصرف والتجارة الخارجية مما ادي الي تحرير العمليات الجارية ودفع الطاقات لمزيد كسب الأسواق الخارجية. كما كان متميزا في قيادة السياسة النقدية وتطويرها وعصرنتها.
الى جانب اشعاعه المؤثر على المستوى الوطني كان حضوره الدولي دائما متميزا ولافتا سواء في اجتماعات صندوق النقد الدولي او البنك العالمي او مع الممولين العالميين وكلمته مسموعة في دفاعه على تونس ومصالحها حيث لم يدخر اي جهد في رفع راية الوطن وخدمته.
لقد كان سي الباجي رحمه الله شخصية فذة محافظا بدون تطرف ومنفتحا على المستقبل وعلى العصر ومحبا للحياة ومتشبعا بالقيم الإنسانية العليا يحب الخير لغيره ولا يعرف الحسد والغيرة والخبث يدافع علي الحق ويصدع به ولا يخاف لومة لائم.
سي الباجي كان شغوفا بالتاريخ ودروسه وبالقراءة ومتابعة المستجدات العالمية قي الميدان الاقتصادي والسياسي من خلال جليسه الدائم الكتاب وكذلك من خلال صحيفة الفيقارو الفرنسية وكراسها الاقتصادي.
كنت أتمنى ان ينظم في رحاب البنك الام اربعينية الفقيد ولكن يمكن تدارك ذلك في ذكرى مرور السنة الأولى لوفاته وتكون مناسبة أيضا لأطلاق اسم المرحوم على احدى قاعات هذا الصرح الشامخ البنك المركزي التونسي....
مهما دونت وبلغت عني الكلمات لا يمكن أن نوفي المرحوم حقه.
رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فراديس الجنة...
محمد فريد بن تنفوس
- اكتب تعليق
- تعليق