أخبار - 2022.03.09

المهدي الجندوبي: المسرح التونسي او الجميلة التي أصابها هوس القبح

المهدي الجندوبي: المسرح التونسي او الجميلة التي أصابها هوس القبح

لا أعلم كيف حصل والدي على تذكرتين مطلع الستينات من القرن الماضي و لم تكن عنده عادة الذهاب الى المسرح فهو "بو عايلة" و مصروفه محدود و هوايته الوحيدة التي كنت أعرفها عنه في المنزل او في العمل عندما يخف الشغل مساء، هي أن يفتح المصحف و يقرا جهرا ما تيسر من القرآن الكريم، و أرجح أن التذاكر وصلته الى مكان عمله هدية أو اشتراها "ماخذة بالخاطر" من أحد المسؤولين الجهويين عندما كانت التذاكر  تباع "بالحشمة" و بأسعار زهيدة في مواقع العمل لإنجاح العروض و التشجيع على الثقافة داخل الجمهورية.

و كم كنت محظوظا وقتها ان اختارني من ضمن 15 نفرا من ابنائه لمرافقته لعرض مسرحية "ام عباس" و بطلتها الزهرة فايزة و اذكر الى اليوم الخيمة التي نصبت على ركح مسرح مدينة باجة العامرة في صالة نسميها نحن ابناء البلد،"صالة الأفراح" فيها خشبة و ستار و تقنيات اضاءة و تستعمل للاجتماعات السياسية و لبعض العروض و حتى العروسات و هي على ملك البلدية.

لست رجل مسرح و ان حظيت من السنة الأولى مباشرة بعد الابتدائي، بعضوية نادي المسرح يوم الجمعة مساء في ليسي باجة مطلع الستينات تحت ادارة الاستاذ  علية التونسي اﻟﺬي اختصر لنا مسرحية كاليغولا، و لم أكتب يوما سطرا لنقد مسرحية، لكني حضرت ثلاثة لقاءات جمعت مسرحيين بعد الثورة في "ابن رشيق" تحت ادارة الأستاذ حمادي المزي و لقاءات في فضاء "الفتح" في باب سويقة تحت ادارة الممثل جمال العروي و مؤسس هذا الفضاء، و آخرها مطلع مارس 2022، جلستين من ندوة جمعية تطوير النقد المسرحي و تزامنت مع عروض لأربع مسرحيات من انتاج مركز الفنون الدرامية بالقيروان الذي يديره المخرج حمادي الوهايبي.

الحيرة مبدعة و المازوشية محبطة

و في كل هذه   اللقاءات سمعت  أصواتا حائرة تطرح ألف سؤال و سؤال حول مشاكل المهنة و صعوبة ظروف العمل و قلة الامكانيات و لمست عدم الرضا بما يعرض و صرامة الحكم على ما ينجز و  قد يذهب البعض الى مواقف مثل "ليس لدينا مسرح" او "ليس لدينا نقد مسرحي" او ضاع "المسرح الراقي و غلب التهريج الرخيص" و غيرها من الأحكام التي تصدر من أهل المهنة خاصة اذا تحزبوا لمذاهبهم الفنية و الاخراجية، و جلهم غاضب و بعضهم محبط و كلهم شغوف و متعلق شديد التعلق بمهنة أرهقته هواجسها.

و أنا أستمع الى هذا الخطاب "المازوشي"الذي يجعلك تكاد تلتذ ببغض من تحب، أستعرض في مخيلتي لحظات متعة لا توصف و أنا جالس في المسرح البلدي بالعاصمة اﻟﺬي يفتح لك أجنحة الخيال بمجرد دخوله و مشاهدة رسوم ملهمات الفنون السابحة في الفضاء muses، أو في صالة دار الثقافة ابن الرشيق أو أحيانا واقفا أعلى درج في مسرح قرطاج ثم في قاعة الفن الرابع أو التياترو بالمشتل أو الحمراء بنهج الجزيرة أو بفضاء الارتيستو في نهج دمشق، و حديثا بصالة الاوبرا أو مسرح الجهات بالمدينة الثقافية الشادلي القليبي بالعاصمة.

بعد أم عباس في باجة مطلع الستينات شاهدت و أنا طالب مطلع السبعينات "الكريطة" للمين النهدي و اصدقاؤه و كل مكان يسمح بالجلوس في مسرح قرطاج تم احتلاله بمن سبقنا و بقيت مع رفيقتي واقفا. و شاهدت "الزير سالم" لمنصف السويسي و "نون" المستوحاة كما قيل لنا من كتاب طبيبة أعصاب عملت بمستشفى الرازي، لمسرح فاميليا من اخراج الأستاذ فاضل الجعايبي كما شاهدت له ﻣﻨﺫ سنوات قليلة في 2018، مسرحية "عنف" و هي حسب ذوقي المتواضع، ابداع خالص و شاءت الصدفة ان رأيته و أنا أغادر القاعة فصافحته عفويا و لا أعرفه و لا هو يعرفني و قلت له: حضرت الآن الى « un chef d’ouvre » . كما شاهدت له قبلها، "الخوف" و لم يكن لها على نفسي الوقع الذي أحدثته "العنف" لأنها سبحت في تجريدات تجاوزت ادراكي و استطعت مع "العنف" أن أمسك بحبل سردي و ان كان رهيفا خفيا، سمح لي أن أتلقى مأساة كل هذه الشخصيات التي دمرتها الحياة و هو حسب فهمي العنف الأقصى و الصامت الذي يمارسه المجتمع ضد الأفراد. و أبدعت الممثلة جليلة بكار في أداء دور قل فيه الكلام و حتى الحركة فكانت تعبيرات وجهها و حركاتها القليلة المتباطئة، تكاد تكون الرسالة كلها.

استمتعت بمشاهدة من ضمن ما شاهدته بمسرحية "حدّث" (بالشدة على حرف الدال)، و نسيت تاريخ عرضها حوالي 20 سنة مضت، و هي تحفة من الجمال لم استمع فيها الى جملة نص مسرحي واحدة لأن محمد ادريس مخرجها كان يرغب في انجاز مسرحية محمود المسعدي، " حدث ابو هريرة قال" و لم يحصل على موافقة صاحبها فقرر ان يلغي النص فابدع بالحركات و الموسيقى و الاضاءة و اذكر الى اليوم الكسوة البيضاء التي لبسها الممثل صلاح المصدق في اروع أدواره الصامتة. كما شاهدت سنة 2003 لمحمد ادريس "مراد الثالث" للكاتب الحبيب بولعراس في اخراج ساحر رغم صغر ركح قاعة الفن الرابع و أظنه أضاف مساحة ركحية وقتية تقتحم فضاء المشاهدين.

كم مسرحية جميلة و منعشة حظيت بمشاهدتها

غبت عن الوطن اول عشرية في مطلع هذا القرن السعيد و سمعت عن مسرحيات مثل خمسون لم أشاهدها و قبيل الثورة اذكر "وان مان شاو" بن يغلان سنة 2010، حول "الحرقة" و فيه شخوص لمسؤولين لا مبالين بالمواطنين و مشاغلهم و هو أفضل تجسيم لحكم يحتضر قبل ان يجهز عليه بعد أشهر قليلة، البوعزيزي رحمه الله، الذي اشعل النار في جسده فاحترقت بها البلاد و العباد لاحقا. و في الوان "مان شو" شاهدت المكي و زكية في الكوليزي في 2018 و القاعة تغص بالمشاهدين، و لطفي العبدلي في عرض صيفي في مسرح الهواء الطلق في نابل و كان يغص بالمتفرجين ووجيهة الجندوبي في "العفشة" ثم  في "مدام كنزة" لمبدع النص المنصف ذويب.

شاهدت المسرحية التاريخية باللغة العربية الفصحى، "الرهيب" للمخرج، منير العرقي 4 مرات متتالية و أتمنى مشاهدتها مرة خامسة و استأت بصدق لإيقافها و هي في اوج نجاحها و كنت أتخيل نجاحها عربيا لو أتيحت لها فسحة زمنية اضافية لأني أعرف بحكم المعاشرة ذوق المثقفين العرب خاصة و أن المسرحية التي تم اقتباسها في لغة عربية سلسة و جميلة، من كتاب الكاتب عبد القادر اللطيفي.

اجهل ظروف قرار انهاء عروض "الرهيب"و لا أستطيع تقييم رجاحته و أهل مكة أدرى بشعابها، لكني أذكر أني دعوت لها ابن اخي مهندس اعلامية فاعجب بها و لم يكن على ما اعلم من رواد المسرح، و شجعت زوجين من اصدقائي و الزوجة أستاذة تاريخ و حرصت على الاستماع الى رايها و كانت سعيدة و معجبة بل شكرتني على تشجيعهما على الذهاب اليها، و تطرح المسرحية قضية السلطة و الصراع القاتل بين القادة و مهادنة علية القوم لكل حاكم، و أبدع  مصدق في دور الوزير.

شاهدت 3 مرات مسرحية" الهربة" للممثل و المخرج، غازي الزغباني و مستعد لمشاهدتها مرة اخرى رغم خروجها في شكل فلم، في مسرحه الضيق théâtre de poche الأرتيستو بنهج دمشق، الذي يتسع لبضع عشرات المشاهدين لا اكثر، و قبلها شاهدته في مسرحية وان مان شاو، بطلها "ملاكم" يروي قصة حياته و بصفة اخص علاقته المعقدة مع والده  كما شاهدته في مسرحية شديدة التجريد و الصعوبة للكاتب العالمي سامويلبيكيت، في "انتظار غودو"، تحت عنوان "الموعد" و كم سعدت أن يكون في الكرسي أمامي الممثل لمين النهدي و ليست لي به سابق معرفة خارج الركح أو شاشة التلفزة، و تشجعت فهمست في اذنه "الأستاذ لمين سعيد أن أجلس معك الآن و كنت شاهدتك في الكريطة و أنا واقف في اعلى درج من مسرح قرطاج في السبعينات".

الممثل جمال المداني  كنت اعرفه في ادوار ثانوية في بعض المسلسلات و كذلك السيدة ليلى الشابي، لكنني انبهرت بأدائهما في واحدة من اصعب المسرحيات العالمية لجون بول سارتر فائقة التجريد و التفلسف و هي مسرحية Huis clos، اقتبسها باللغة العامية و أخرجها أستاذ المسرح جمال ساسي تحت عنوان "بورقة"  و عرضت في قاعة من قاعات السنيما بنهج ابن خلدون الذي يستحق وحده من ينجز فلما وثائقيا عن تاريخه الثقافي، و مع الأسف كما غيرها من المسرحيات المبدعة لم تعمر طويلا. و مثل هذه المسرحيات تحتاج الى نسخة بالعربية الفصحى و أجازف مسبقا بتوقع نجاح باهر على المستوى العربي.

شاهدت في مسرح الحمراء مسرحية أظنها ال"غيلان "Monstranum’s، للكاتبة و الممثلة ليلى طوبال و كان كل الممثلين يتحركون كامل العرض على كراسي متنقلة و أخرجها الراحل عز الدين قنون باعث هذا الفضاء الذي شاهدت فيه الممثلة ليلى طوبال في اروع تجلياتها. و في نفس المسرح منذ بضعة سنوات في 2018 ذهبت مرتين لمشاهدة عرض "الملك لير"  Le Roi Learلشكسبير أخرجها أستاذ المسرح فتحي العكاري و اختار ان تكون كل الفرقة من النساء و رغبت مشاهدتها مرة ثالثة لصعوبتها و جمال اخراجها و أذكر أن من جلس امامي بمحض الصدفة في احدى العروض، الأستاذ المخرج فاضل الجعايبي و رفيقة حياته الممثلة و الكاتبة المسرحية جليلة البكار، و لا أخفي عنكم كم شعرت بفخر دفين و صامت بهذه الجيرة الظرفية و الاستثنائية.
و حظيت في احدى مهرجانات قرطاج أظنه قبل الأخير بمشاهدة مسرحية شبان هواة من انتاج ادارة السجون و شاهدت اخر العرض السيدة الفاضلة هاوية المسرح و باعثة فضاء "التياترو" مع رفيق عمرها المخرج و الممثل توفيق الجبالي منذ ثلاثة عقود، زينب فرحات تصعد الى الخشبة و تحيي الممثلين السجناء ما أروع هذه الوقفة و هذا التواضع و هذا الايمان بالفن للفن سواء كان الممثل نجما او سجينا. طيب الله ثراها. و قبلها ببضعة سنوات شاهدت في نفس قاعة ابن خلدون عروضا مسرحية طوال اسبوع، لفرقة من هواة المسرح بمدينة باجة و أظن عدد الحاضرين اقل من الممثلين الهواة و لم يمنع ذلك ان كل من على الركح تفانى في الأداء.

بعض طلبتي في سن 23 سنة لم يشاهد مسرحية واحدة خارج التلفزة

دخلت يوما في شهر أكتوبر سنة 2010 على مكتب مدير دار الثقافة ابن رشيق و كانت عندي قصاصة خبر تقول ان الدار تنظم اسبوعا تحت عنوان في دروب المسرح التونسي، تقدم فيه عدة عروض أنجزت على طوال العشرية و اقترحت على المدير أن يحضر طلبتي في معهد الصحافة بعض العروض و رجوت منه تسهيل مقابلاتهم مع الممثلين لا جراء تمارين تطبيقه في التحرير الصحفي.

و فاجأني المدير الأستاذ حمادي المزي عندما قال لي عندك دعوة مفتوحة مجانية لكل طلبتك لكل العروض و خصني بمفاجأة اخرى عندما انتهى العرض الأول و سمعته ينادي طلبة معهد الصحافة لا تغادوا القاعة و جمعهم في الصف الأول قائلا عندكم نصف ساعة تحدثوا مع الممثلين و اطرحوا اسئلتكم و فعلا بقي الممثلون بعرقهم نصف ساعة اضافية في اروع درس في الصحافة لم اشرف عليه على طوال اربعة عقود لأن سي حمادي "افتك" مني الدور و قام بالمهمة  ووزع الكلمة و استحث من خجل من طلابي، و احتفظ الى اليوم بالصور لهذه اللحظة التي تجسمت فيها في ارقى اشكالها و ببساطة و عفوية عقلية التعاون بين مؤسستين حكوميتين المعهد و دار الثقافة. و علمت في حديثي مع طلبتي و هم في سن 22 و 23 سنة، ان بعضهم لم يشاهد مسرحية خارج شاشة التلفزة و أن العرض الذي حضروه في هذا الأسبوع هو اول "عرض حي" لمسرحية في حياتهم.

لست في دور من يقدم صورة مكتملة، أمينة و موضوعية حول الحركة المسرحية التونسية لأني لا أملك الكفاءة لذلك و لأن متابعاتي كانت تحكمها زاوية المتعة التي يتيحها "وقت الفراغ" و عن قصد حاولت أكتب هذه الشهادة من وحي الذاكرة بالاستعانة بملف شخصي أحتفظ فيه منذ سنوات قليلة من باب الترف، التذاكر التي اقتنيتها و لا أخفي أنني ذهبت أحيانا  مضطرا الى "قوقل" لتدقيق بعض الأسماء.

و كم مسرحيات أخرى لم أذكرها مثل "المغروم يجدد" التي شاهدتها مرتين و أمني نفسي بثالثة متى تتاح الفرصة، لكاتبها حبيب بالهادي، التي جمعت برشاقة و خفة روح ممتعة بين الموسيقى و الأغنية التونسية و التمثيل لأن موضوعها مغامرات فنانين و صراعاتهم، تقع في صالة عروض فنية أو كاباريه مهدد بالغلق في الستينات.

كذلك المسرحية الساحرة في نصها و اخراجها "منطق الطير" التي شاهدتها في صالة الأوبرا بالمدينة الثقافية في مارس 2021 ، و مسرحية "حين رايتك" للمخرج صالح الفالح (انتاج المسرح الوطني 16/17)، التي تطرح بأسلوب طريف و جذاب مسالة اللقاء الحميمي بين المرأة و الرجل في نطاق بحث علمي اجتماعي حول الحب يشرف عليه أستاذ جامعي مع طلبته لكن ينقلب السحر على الساحر فتتحول الأسئلة العلمية الباردة الموجهة الى مجتمع البحث الى أسئلة ذاتية حارقة ومحيرة تهز أركان أسرة الأستاذ و تضعه في مواجهة مع نفسه كزوج و حبيب.

كم سعدت بحضور مسرحية "السّقيفة" سنة 2014 بصالة الريو على ما أظن، و هي لكاتبها بوكثير دومة و من إخراج حافظ خليفة وتمثيل  حمّادي المزّي والمنجي بن ابراهيم وكمال العلاوي وصابرين السّبوعي وثريا البوغانمي و تناولت في لغة عربية مبسطة و جميلة اشكاليات شرعية السلطة في لحظة انتقالها من المقدس الى الدنيوي، و الجدل الذي حير الصحابة فور وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم. و تطول القائمة لكن الذاكرة دائما مقصرة حتى مع جميل الذكريات.

كلكم "نجحتم أم فشلتم" تستحقون أن أقف مصفقا

أحببت هذه المسرحيات منذ شاهدت" أم عباس" رفقة والدي، بكل أنماطها و مدارسها الاخراجية و تقنياتها و أنا اليوم أستمتع و أضحك مثل الطفل عندما أشاهد اكثر من مرة مسلسل "شوفلي حل" مثل ملايين التونسيين، و أبحث أحيانا في اليوتوب عن بعض حلقات "الحاج كلوف" كما استمتع بالمسلسل الاذاعي لمحمد الماي "البانكة العريانة" الذي تبثه الاذاعة الوطنية (التي فتحت أعيننا منذ الصبى، على فن التمثيل) و تجري احداثه في الوسط الثقافي و السياسي التونسي في الثلاثينات من القرن الماضي. و كم أضحكتني بعض سكاتشات برنامج "ديما لباس" التلفزي و أذكر العربي المازني و  زميلته هناء شعشوع.

لم أغادر يوما مسرحية تونسية شاهدتها و لم يرافقني شعور بالامتنان لكل هذا الشغل الجميل الذي يرتقي بعضه الى أعلى مستويات ما شاهدته في مسارح باريس أو مونريال في كندا او الخليج حيث اقمت 10 سنوات. و أروع ما في هذا الجمال أنهم يصنعونه من اوجاعهم و من حيرتهم و من ضنك حياة بعضهم و قلة الأموال المرصودة لهذا الفن بالذات لأن المسرحية الواحدة قد تحظى بدعم بضعة ملايين بينما الفلم الواحد يحصل على مئات الملايين و تلك قصة اشكالية اخرى و لن أحدثكم عن مليارات فرق كرة القدم ف"كل واحد و قسمو" في هذه الدنيا.

و كم مسرحية "لم افهمها" لأني "ابحث عن قصة" فلا اجدها لأن خيوطها تجاوزت قدرتي على التجريد، و كم مسرحية  "لم استمتع بها" لأسباب عدة، لكني لم اشعر يوما أن ما دفعته من مال و ما خصصته من وقت لحضور العرض، ضاع مني لأن من اشتغل على الركح أو في الكواليس استخف بحضوري. كلهم أرى الجهد ينهكهم، كلهم يحاولون بأقصى ما يتاح لهم أن يمتعوني أنا و غيري من المشاهدين أو يعلموني أو يرغبون في تحريك شيء ما داخلي و قد ينجحون او يفشلون، لكنهم كلهم يستحقون أن اقف لهم و أصفق مقتنعا  بأدائهم. تعلمت من الخليجيين هذه العبارة الجميلة عندما يريدون شكرك فهم يقولون لك:" ما قصرت". فانتم "ما قصرتم" أهل هذه المهنة في تونس، بكل تخصصاتها من نراه على الركح و من لا نراه من جنود الخفاء.
الى كل الممثلين و المخرجين و جنود ما وراء الستار الذين جعلوا حياتي أجمل، أرفع اليكم ملاحظات متفرج "ساذج"  naïf لعلها تعينكم على "هم الزمان": في نهاية التحليل كما يقول ماركس en dernière analyse، الست أنا و ملايين المتفرجين مثلي هدفكم الأسمىو كذلك المواطنين الذين تحلمون بجرهم الى قاعات المسرح و افتكتهم منكم المسلسلات التركية، أليست كتبكم و علمكم و مهنيتكم و خيالكم و تقنياتكم و تجهيزاتكم  و سخاء عطائكم، وسيلة للوصول الى عقولنا و قلوبنا؟

تجديد مسرحي أم نمطية جديدة؟

هل أنا ذوقي راق عندما أنبهر بمسرحية "العنف" نصا و اخراجا و تمثيلا، و أقل حسا عندما أعجب بمسرحية "الرهيب" و غبيا عندما أفتن طفلا ب"ام عباس" و أرتاح شيخا  مع "شوفلي حل" نهاية يوم اقضيه و انا مرهق بعشرات الصفحات من المطالعة كنت التهمتها كامل النهار، أو  أعجب بسكاتش هناء شعشوع في برنامج ديما لاباس حيث ابدعت بخفة روح و مرح و طرحت بوسائل بسيطة اشكالية العنصرية الكامنة عبر عقدة "اللون الأكحل و التوانسة؟

انتصرت بعد عناء دام عقود مدرسة التجديد في المسرح و تميزت تونس بمنتجات المسرح الحديث و التجريبي مواكبة أرقى التجارب العالمية،  فلم يعد هناك ستار يرفع أو ينزل بين الفصول و لا هناك دقات تعلن انطلاق المسرحية و لا استراحة في منتصف المسرحية.

كماغيبت القصة البسيطة anecdote التي نمسك بها نحن المتفرجون مطمئنون بحبالها كأنها شبكة أمان filet de sécurité، في تعقيدات مجردة تداخلت فيها الأحداث و غاب الزمان و المكان و احيانا الديكور أو هو ايضا ذهب الى اقصى حدود الرمزية فلم نعد نرى جدران منازل و لا شبابيك غرف، بل مؤطرات و مكعبات و ما اكثرها في العديد من المسرحيات التونسية. و ذهب حرصكم على محو كل شكل تقليدي الى الغاء تقديم الفريق في آخر العرض. ألا ترون ان في ذلك ظلما لكل العاملين في المسرحية و تبخيسا لعنائهم فاصبحنا نعرف المخرج و لا نسمع اسم الكاتب و لا مصمم الديكور و لا الممثلين حسب عادة عريقة انتم ادرى بها.

هذه طبعا كلها اجتهادات أنتم أدرى بها و هي ثمرة تطورات عالمية تعملون ضمن سياقاتها، لكن صدقوني كم مرة يأتي من يرغب في مشاهدتكم بكل حماس و يخرج حائرا من امره يكاد يستحي أن يقول لك "ما فهمت شيء" و خاصة اذا افرطتم في التجريد و ضيعتم قصدا حبل السردية التقليدية التي تربينا عليها منذ قصص الأطفال، و أحيانا ينظر اليك رفيقك في السهرية و يبتسم "من حمقه" لأن شهاداته الجامعية لم تسعفه لفهمكم، و طبعا لن تراه مرة اخرى "يعاود صنعته" و يشتري تذكرة ليستمتع بما يفهم و على قدر فهمه. اليس لهؤلاء حق في مسرح يسعدهم؟

المخرج المسرحي أو مفارقة الطبيب و الفقيه

المريض لا يجادل الطبيب في علمه و المهندس لا يشرح حلوله الفنية و تقنياته عندما يبني جسرا، لأن النتيجة سنستفيد منها نحن البسطاء من غير حاجة لعلم الطب او علم الهندسة. فهل الكاتب و المخرج المسرحي يعملان حسب نموذج عمل الطبيب أو المهندس أم هما أقرب للفقيه الذي يقضي العمر في تفسير الدين و يتابع كل المذاهب الفلسفية و يجادلها من منظور ايمانه و عقله و يكتب آلاف الصفحات لكنه لا ينسى ان الدين للجميع: العلماء كما العجائز. كذلك المسرح فكيف يمكن التوفيق بين الحرص الشرعي على التطوير و السمو بالفن الى ارقى أشكاله و حتى الرغبة في "ارباك" المتلقي و حثه على التفكير خارج "منطقة أمانه"، من غير أن يضيع"خيط الأمان" و الفهم و الادراك، الذي يربطني أنا المشاهد البسيط بعلمكم و فنكم و تجاربكم و هواجسكم النبيلة؟

لماذا لا نحافظ على تنوع المدارس و المذاهب المسرحية  و حتى ان لزم الأمر على مستويات من المسرح و قديما تحدث العرب عن "طبقات الشعراء" و يمكن ان نتحدث عن "طبقات من المسرح"، فحسب علمي في فرنسا و غيرها من بلدان العالم، هناك مسرح تجريدي و تجريبي، لكنهيتعايش مع مسرح هزلي و شعبي و لم يندثر  théâtre de boulevard و هو نمط تحاول حسب اطلاعي المحدود فرقة مدينة تونس المحافظة عليه في مسرحية مثل "المدك" و بعدها "كوشمار"(2017) و غيرها لكن يظهر ان التيار يكاد يكون جرفهم تماما و المعركة خسروها لأن اجيالا من الممثلين الشباب تربوا على نمط من المسرح المجرد و التجريبي و هو مثلهم الأعلى.

على سبيل المثال، العديد من المسرحيات و بقطع النظر عن المخرج و عن الموضوع الذي سنكتشفه لاحقا، اصبحت لها مقدمة نمطية في شكل مشهد افتتاحي نرى فيه اشخاصا يمشون يمينا و شمالا و بصفة شبه روبوتية، و يعبرون الركح ثم يعودون و هم في صمت تحت صخب الموسيقى و الله كم مرة شاهدتها و تذكرت كيف كان الشاعر في الجاهلية ينطلق بصفة شبه موجبة بالبكاء على الأطلال و هو نمط شعري شبه مفروض وقتها.

رواد المسرح الجديد التونسي ثاروا في السبعينات على النمطية الكلاسيكية و لكن النتيجة التي قد تكون تجاوزتهم، هي ظهور نمطية جديدة تكاد تكون خانقة بدورها. و قد يتبرأ رواد المسرح الجديد و مبدعوه في تونس من تبعات "نجاحهم المفرط"، و يروى أن ماركس عندما اطلع على بعض الكتابات النضالية المبسطة التي كررت نظرياته و كرستها في نفس الوقت في عقول الآلاف من الشباب، قال مازحا "اذا كانت هذه الماركسية فانا لست ماركسيا".

أكثر من أي وقت يجب الحرص على المحافظة على تنوع المدارس الفنية و نعدد الأشكال المسرحية، و من الطبيعي أن ينخرط المبدعون كأفراد كل في مدرسته المفضلة و يمارسون فنهم بما يرونه أفضل الأساليب لكن هل يحق لفنان عندما يتحول الى صاحب قرار على راس مؤسسة وطنية أن يتجاهل المدارس الأخرى سواء كانت تقليدية أو حديثة، و هل يحق لوزارة الثقافة التي توزع الدعم، تحت تأثير لجان تحمل رؤى فنية أن تفرض بصفة واعية أو غير واعية مدرسة أو مذهبا فنيا دون آخر؟ فعامة الجمهور مثلي، لا يهتمون كثيرا بصدام العباقرة و لا يفهمون اشكاليات جدلهم، لكنهم يسعدون بكل ما يعرض و يمتعهم و هم أيضا متعددون و متنوعون في أذواقهم و مستوياتهم التعليمية و في خبراتهم السابقة في مجال التلقي المسرحي.

يسكنكم عادة هاجس التجديد و تمقتون التكرار و تسمونه اجترارا و هذا طبيعي عند كل فنان كما كل عالم و العبارة السحرية المتداولة هي "الاضافة". لكن للتكرار أيضا وظيفته الثقافية و بصفة أخص في العروض "الحية" التي تحتاج الى حضور مباشر من الجمهور. فالتكرار يسمح بتوسيع دائرة المتعرضين المستفيدين بأعمالكم، و كم مسرحية تونسية قتلت قبل الوقت و بقي رواجها لا يتجاوز المئات نتيجة هاجس التجديد و الخوف من السقوط في الاجترار. كذلك لا يجب أن ننسى أن الجمهور بحكم الطبيعة يتجدد و كل سنة هناك آلاف الشباب الذي يمكن أن يلتحق بصالات العرض و هو خالي الذهن من التجارب السابقة. فكيف يمكن أن نجد معادلة فاضلة بين التجديد الذي يضيف و يفتح الأفق و بين التكرار الذي يعمم الفائدة و يسمح لمن لم يشاهد عرضا بحكم السن أو نتيجة موانع موضوعية أخرى، أن يشاهده لاحقا؟

أرجعوا لنا الفصحى و ان قليلا

فحتى اللغة العربية الفصحى على سبيل المثال و يمكن ان نجد أمثلة أخرى على هيمنة النمطية الجديدة، غابت أو هي تكاد تصبح استثناء، بدعوى القرب من الشعب فهل الكاتب المسرحي و المخرج و الممثل الفرنسي او الأمريكي ترك الفرنسية أو الانجليزية الفصيحة، ليقترب من شعبه؟

طبعا هناك تجارب عربية أدبية في دمج العامية ضمن الفصحى نجدها عند نجيب محفوظ و في تونس عند البشير خريف الذي خاض معركة إعلاء قيمة العامية قائلا: " انك لو رجعت قليلا الى الكتب القديمة...لوجدتها أقرب الى لغتنا العامية منها الى "الفصحى"... " (مجلة الفكر، العدد 10، 1959). و من الطبيعي أن نخاطب المجتمع بلغة كل يوم، لكن لماذا الغلو و الرضاء بشبه الغاء العربية من المسرح رغم ان تلاميذنا يدرسون بها في المدارس و اداراتنا تكتب بها التقارير و المطبوعات و التلفزة تعرض بها يوميا أخبار الناس؟ التجديد المنتصر عندما يضرب بالضربة القاضية خصم الأمس الا يتحول بدوره الى محافظة جديدة بالفعل.

المهدي الجندوبي
مشاهد مسرحي
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.