حامد الزغل في أربعنيّة عبد المجيد شاكر
سيداتي سادتي
يشرفني أن أشارك معكم في أربعينية الفقيد عبد المجيد شاكر، صديقي ورفيـقي في الدراسة، وعنصر ممتاز ضمن جيل من المراهقين والشبان عاشوا الاستعمار وظلمه، وأقدموا على مقاومته إلى أن أطاحوا به، ثم اندفعوا في معارك الجلاء إلى أن أخرجوا جند الاحتلال والمعمرين الأجانب، و ساهموا في بناء دولة على أسس صحيحة، و في بعث مجتمع يصبو إلى النور والتقدم.
انخرط (عبد المجيد) في الكشافة و عمره ثلاثة عشر سنة. وكان قائد طليعة في عامه الثالث من التعليم الثانوي. ثـم وصل إلى سن حتم انتقاله إلى قسم التجوال، حيث أصبح قائد فريق جوالة. ثم أُسندت إليه في الإقليم قيادة قسم التجوال.
ولـم تدم مهمته هذه إلا شهرين أو ثلاثة. فقد أعلمه قائد الإقليم وأعلمني معه أننا كُلفنا بمسؤوليات جديدة تحت قيادة التوفيق السلامي -النمر-. فذهبنا إليه بدار أسرته حيث أبقى مكتبه. و وجدناه مع (الحبيب الجديدي)، وهو شاب في أواخر العقد الثاني من عمره، هادئ الطبع، لكن نشاطه الكشفي تناقص لأنه ابتلي بمرض السل.
و لما تحلق أربعتنا حول مكتب القائد، قال: "اجتمعنا في القيادة العامة و بحثنا الوضع في تونس. وأجمعنا على أن الاستقلال لن يتحقق بدون عمل إيجابي، وأن على جمعيتنا أن تؤدي واجبها في هذا المجال. و اتفقنا على أن نشكل فروعا سرية أسميناها "التجوال الأعلى." ثـم أضاف قائلا: "لقد اصطفيتكم أنتم الثلاثة، بعد أن أيقنت أنكم مؤمنون بالقضية الوطنية، ومستعدون من أجلها للإقدام على المخاطر. فهل أنتم موافقون لنشكل معا أول دورية "التجوال الأعلى؟" فأجبنا معا ودون تردد: "نـعم ."
و عند ذلك أعلمنا أننا كُـلّفنا بإصدار جريدة سرية سنعمل على طبعها و توزيعها، ونشارك في تحرير مقالاتها ونُسميها "الكفاح". ثم أخرج من خزانته طبقا مستطيل الشكل، مملوءًا بقماش مساحته متساوية مع مساحة الطبق وارتفاعه. وأخرج أيضا عمودا من المطاط، يدور حول محور من حديد. وقال: "هذه مطبعتنا! بـها سنطبع الأوراق الواحدة بعد الأخرى". ولاحظنا عدم وجود راقنة. فقال: "ستعوضونها أنتم. والأمر في غاية السهولة لأن عمل الراقنة ينحصر في إحداث ثقب صغيرة في شكل حروف على ورقة "الستنسيل". فيمكنكم الثقب بواسطة دبّوس (مسّاك) صغير". ثم أضاف: "ها أنتم مزودون بالأجهزة اللازمة للرقن والطبع والسحب، وبمقالات العدد الأول، ولم يبق إلا الإنجاز."
وأخذ كل واحد منا مساكا وستنسيلا لرقن صفحة من صفحات "الكفاح" الأربع. ولم نكن بارعين في الغرز في هذا العدد الأول، فكانت حركاتنا بطيئة وغير منتظمة. و كنا نمضي وقتا طويلا لنقش كلمة واحدة. ذلك أن حرفا بسيطا كالألف يستدعي تغريز الدبوس خمس مرات. فكانت الثقوب في الستنسيلات غير متساوية البعد والعمق.
وانتهت عمليات الغرز والسحب بعد مدة تجاوزت الأسبوع، أمضيتها مع (عبد المجيد) بين حضور ساعات الدراسة في المعهد، وبين العمل في مقر نشاطنا السري إلى ساعة متأخرة من نهار كل يوم. ولم يعد لنا وقت لمراجعة دروسنا. وكم كان فرحنا ظاهرا على وجوهنا، لما تم طبع العدد الأول من "الكفاح" في ألف نسخة. ولم يبق إلا تحديد طرق التوزيع. فأعلمنا (النمر) أنه سيقع في يوم واحد في كامل التراب التونسي، انطلاقا من أقاليم الجمعية الأربعة: تونس وسوسة وصفاقس، وقابس، حتى يجهل المستعمر المدينة التي تطبع فيها الجريدة. فقسمنا النسخ المسحوبة على أربعة أجزاء، وخصصنا لكل من العاصمة وصفاقس ثلاثمائة نسخة، ولكل من سوسة وقابس مائتي نسخة. وانطلق تفريق العدد الأول مساء يوم الخميس 28 فيفري. و كانت مسؤولية (عبد المجيد) وضع الظروف المعدة لوسط البلاد التونسية وجنوبها في صناديق البريد المنتشرة في المدينة وضواحيها.
وبعد أسابيع قليلة، طبعنا العدد الثاني ووقع توزيعه بالطريقة التي تم بها توزيع العدد الأول. واكتسبنا بإنجاز العددين الأولين خبرة واسعة في غرز "الستنسيلات" وطبع الصفحات. فأحضرنا "الكفاح" رقم 3 بسرعة. وبعده بالتوالي الأعداد الرابع والخامس والسادس والسابع مع الزيادة في النسخ المسحوبة إذ رفعناها إلى ألفي نسخة.
وصادفت عمليات نقب سنتسيلات العدد الثامن وسحبه قرب موعد امتحاناتنا أنا وعبد المجيد. فأُضيف إلى مجموعتنا الكشافان محسن القلال و يوسف الجديدي. و قد شاركا عـلى أحسن وجه في إعداد وتوزيع العددين الثامن والتاسع. وعند ذلك تقرر تعويضي و(عبد المجيد) بهما لنتفرغ للدراسة.
و كنت مرتاحا لهذا القرار. فسآخذ نصيبا من الراحة وأهتم بدراستي. واختار عبد المجيد مع الدراسة الرجوع إلى مسؤوليته كمساعد إقليم في قسم التجوال. وبقي يعمل بهذه الصفة إلى أن تحول إلى تونس، حيث أصبح في الجمعية الكشفية قائد قسم التجوال، بالإضافة إلى دراسته الجامعية وعمله كقيِّـم في معهد خزندار الثانوي. وسهلت له مسؤوليته الكشفية الجديدة السهر على خلايا التجوال الأعلى السرية، والاتصال بإدارة الحزب، وبـها الطيب المهيري. فتوطدت العلاقات بينهما.
ولما صدرت من الحكومة الفرنسية مذكرة 15 ديسمبر 1951، مؤكدة فيها أبدية ازدواج السيادة التونسية الفرنسية في بلادنا، أخذ عبد المجيد ينظم اجتماعات مع الشباب من مختلف التيارات، يحثهم فيها على التظاهر ومعارضة الموقف الفرنسي. وازداد تواتر نشاطه منذ 18 جانفي 1952. فنظم مع الطيب المهيري اجتماعا في مدرسة صاحب الطابع ضم الطلبة وممثلي كل المعاهد الثانوية في البلاد التونسية في 26 فيفري 1952. فكان اجتماعا كبيرا اعتـبـره الحاضرون مولد اتحاد الطلبة. لكن أُعلن للصحافة أن الاجتماع أحدث "لـجنة تنسيق أعمال الطلبة"، وكلف عبد المجيد برئاستها. وكان خطابه عنيفا وحثه التلاميذ والطلبة على المقاومة واضحا. فرأى من الضروري أن يختفي حتى لا يقبض عليه. لكن أعوان الأمن اكتشفوه في 28 أفريل، وزُجَّ به في السجن.
وفي أواسط سنة 1954، أدركت فرنسا أن سياسة القمع لم تكن مجدية، فعينت مقيما عاما جديدا حاول إحداث جو من التهدئة، بالإفراج عن عدد من رجالات الحزب المبعدين، وإطلاق سراح بعض المسجونين. وكان من بينهم عبد المجيد. فقرر استئناف دراسته، وشجعته إدارة الحزب على ذلك. فسافر إلى مرسيليا حيث أصبح طالبا في كلية الحقوق.
و ظن أنه سيتفرغ للدراسة. لكن الأحداث تسارعت في تونس. ففي 31 جويلية، أعلنت الحكومة الفرنسية اعترافها بالحكم الذاتي للدولة التونسية. وشُكِّـلت عند ذلك حكومة تونسية جديدة، كان من بين أعضائها المنجي سليم. فعوضه في إدارة الحزب الطيب المهيري، الذي طلب من عبد المجيد أن يستعد لرئاسة الاتحاد العام للطلبة التونسيين. وفعلا ترأس عبد المجيد الجلسة الافتتاحية للـمؤتمر الثالث للاتحاد، وتـم انتخابه رئيسا للمنظمة الطلابية في 30 جويلية 1955.
وباشر عبد المجيد مسؤوليته في اتحاد الطلبة، وساعد في نفس الوقت الطيب المهيري في إدارة الحزب. وإثر استقلال تونس في 20 مارس 1956، أُسنِدت للطيب المهيري وزارة الداخلية وسُـمِّي عبد المجيد مديرا للحزب.
رحـمـه اللـه
حامـد الـزغـل
- اكتب تعليق
- تعليق