الأستاذ عبد السلام القلال - تونـس أمام مصيـرها: لا مناص من التضحية وشدّ الأحزمة
حضرة السيّدة رئيسة الحكومة نجلاء بودن رمضان،
كل متابع لتجارب البلدان الآسيوية وتطور اقتصادياتها في آخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين يتأكد له أن لا مخرج من الأزمة الخانقة التي تعيشها تونس اليوم، إلا بالتضحية وبذل الجهد والاعتماد على أنفسنا وعلى إمكانيتنا الذاتية، مع الأسف لم يبق لنا خيار، ما عسانا أن نفعل وقد أشرفت بلادنا على الإفلاس لِما أصبحت عليه من ضعف في الإنتاج وعجز في الميزانيّة وانخرام في التوازنات الكبرى وانخفاض قيمة الدينار، ومؤشرات النمو، والمديونية بلغت أقصاها، وغاب الاستثمار، وانعدم الإنتاج، وتوقفت العديد من الشركات عن نشاطها، واستفحلت البطالة، واهتز الامن والاستقرار، وانسدّت الآفاق زد على ذلك تبعات جائحة الكورونا.
وأمام هذا الوضع وفي غياب مساعدات هامة من طرف البلدان الشقيقة والصديقة أو المؤسسات الدوليّة، لا مفرّ من تفجير طاقاتنا والاعتماد على أنفسنا لمواجهة ما يتربّص بنا من مخاطر داهمة، المعركة أصبحت معركة مصير ووجود، ولا مناص من أخذ مصيرنا بأيدينا، نعم في إمكاننا الخروج من أزمتنا والحفاظ على كياننا وسيادتنا إذا ما توحّدنا وقبلنا بالتضحية والانكباب على العمل وتحلّينا بالإرادة والجرأة للقيام بالإصلاحات الضروريّة التي تفرضها المرحلة الصعبة التي تمر بها بلادنا.
كنا قبل الهبّة الشعبيّة يوم 25 جويلية 2021، في طريق مسدود، وكان الوضع في حالة انفجار نزل الشعب إلى الشارع في كل الجهات ليعبّر عن غضبه، ورفضه الأوضاع التي أصبح عليها نتيجة المنظومة السياسيّة التي تحكم البلاد منذ سنة 2011، فكانت انتفاضة ثانية كادت تؤدّي إلى حرب أهليّة، تلقفها رئيس الدولة قيّس سعيّد وحوّلها إلى منعرج تاريخي ومفصلي في اتجاه ما يريده الشعب، أي حل مجلس نواب الشعب وتغيير المنظومة السياسيّة فهل هي فاتحة عهد جديد؟ هذا ما نتمنّاه، لكن الطريق مليئة بالأشواك وخوفنا أن نجد البلاد من جديد لا قدّر الله في طريق مسدود.
اضطلاع الدولة بمسؤوليّاتها
الآن وقد تكوّنت حكومة الكفاءات، فرجاؤنا أن لا تبقى هذه الحكومة في مستوى الشعارات والوعود التي لا طائل من ورائها وأن تسرع بوضع خارطة طريق واضحة المعالم محدودة المراحل والآليات لإجراء الإصلاحات الضروريّة وضبط الأولويّات، للنهوض بالاقتصاد ومواجهة المشاكل الاجتماعيّة، وأن تعمل على فتح حوار جادّ ومسؤول مع المنظمات الدوليّة والدول الصديقة والشقيقة لشدّ أزرنا في هذه المرحلة الصعبة.
وفي انتظار إجراء الإصلاحات الموجعة والتي لها أولويّة قصوى، على الحكومة أن تسعى إلى تكوين حزام دعم ومساندة من كل مكوّنات المجتمع المدني من أحزاب ومنظمات وجمعيات على أساس حوار دائم ومتواصل قصد تشريكهم في التصوّرات الكبرى، مع اتصال مباشر بالشعب من خلال الخطاب المقنع والنافذ لتوعيته وتعبئته من أجل تفهم الإصلاح وقبوله وتحليه بالصبر أمام ضيق العيش، المواطن في حاجة إلى سالة طمأنة ومصداقيّة لإرجاع الثقة في الدولة.
وهي أيضا مدعوّة للضغط على نفقات الميزانيّة، وفرض التقشّف على الإدارة والشركات العموميّة وتطهيرها من العناصر المفسدة وغير الكفأة، وتحفيزها على المزيد من الإنتاج والانتاجيّة، وتوجيه كل إمكانيات الدولة والخواص إلى الاستثمار لأنّه المفتاح الوحيد للتنمية والتشغيل، وكذلك مقاومة الفساد، والإرهاب، والجرائم المنظمة، والاقتصاد الموازي، والمضاربة، والاحتكار، من أجل تحقيق الاستقرار الأمني والسلم الاجتماعي وخلق مناخ يشجّع رجال الأعمال على الاستثمار في الداخل واستقطاب المستثمرين الأجانب.
مناخ الاستثمار
تنقية المناخ يتطلب تطبيق القانون على الجميع، إيقاف الإضرابات العشوائية، منع الاعتصامات، وقطع الطرقات، والصد عن العمل، والاحتجاجات غير المبرّرة، كما يجب في هذا الصدد الضرب بقوة على كل من يسعى وتسول له نفسه الابتزاز بتعطيل المرافق العامّة وغلق المؤسسات الاقتصادية بما في ذلك الحوض المنجمي وحقول البترول وميناء رادس.
المطلوب إذا وبسرعة، تحريك عجلة الإنتاج بالخصوص في مواطن ثرواتنا الطبيعيّة بالتوعية والاقناع وإن لزم الأمر بأي وسيلة كانت، فليس من حق أي جهة من جهات الجمهوريّة وأي فئة من فئات المجتمع أن تأخذ الشعب رهينة خدمة لمصالها الخاصة والضيقة مهما كان وضعها ووزنها، ومن الضروري تطوير القوانين المكبّلة للمبادرات الخاصّة والعامّة وفي مقدمتها قانون الشغل الذي تجاوزه الزمن، وضرورة اعتماد مفهوم جديد لعلاقة المؤجّر بأجيره وتقنين حق الإضراب والضرب على أيدي العابثين داخل النقابات.
دور الدولة في التنمية
على الدولة أن ترجع إلى دورها بالاعتماد على كفاءات عالية خاصّة في الجهات الأقل نموّ ومساعدتها على إعداد المشاريع وإنجازها وخلق الظروف الملائمة لتثبيت المواطنين في بيئتهم لخدمة الأرض ووضع حدّ للنزوح نحو المدن، وعليها أيضا أن تتفهم المواطن وأن تكون في خدمته، وذلك بالتخفيــف من العوائق والتعطيلات الإداريّة وأن تهيّء له المرافق الأساسيّة في كل المجالات وفي أحسن مستوى ممكن.
وكذلك وضع حدّ للتضخم وارتفاع الأسعار والحفاظ على المقدرة الشرائيّة للمواطن، والتصدّي للتوريد العشوائي، وحماية أصحاب المصانع والفلاحين من المهرّبين، والمضاربين، والمحتكرين، وذلك بتشجيعهم على الإنتاج لسدّ حاجيات السوق الداخليّة والتصدير إلى الخارج، وهذا يستدعي تنظيم مسالك التوزيع وتطويرها والسهر من خلال لجان جهويّة تبعث للغرض، على تنفيذ القرارات الصارمة من أجل استقرار الأسعار، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار كلفة الإنتاج وهامش الرّبح المستحّقة من جميع الأطراف المنتجين والوسطاء.
وفي اعتقادنا أن مجهود الدولة في هذه المرحلة الصعبة لا يكفي وحده للتغلب على الصعوبات التي نعيشها فمن الضروري تشريك الشعب من خلال منظماته وجمعياته ومختلف مؤسساته، لمعاضدة مجهودات الحكومة ومساعدتها في كل ما تقوم به من أجل الإصلاح ومواجهة المشاكل الاجتماعيّة.
التضحية والاعتماد على الذات
نعتقد اليوم أنه لا ملاذ لتونس وانقاذها من الوضع الذي تردّت فيه إلا بالتضحية والعمل الجاد بنشر ثقافة العمل ونبذ عقلية الكسل والتواكل، والتقشّف وشد الأحزمة لخلق الثروة في مستوى الدولة والأفراد، ويتعيّن من أجل ذلك الضغط على نفقات الدولة والمؤسسات العموميّة وحسن التصرّف فيها وإيقاف اللجوء إلى التداين، وتعزيز طاقات الصناعات الوطنيّة بدفع التصدير وترشيد التوريد والتشجيع على الادخار والاستثمار وتخصيص القسط الأوفر من الميزانيّة إلى الاستثمار.
يتعيّن إلى جانب هذا التوجّه إقرار سلم اجتماعيّة لمدة زمنيّة معيّنة يقع الاتفاق عليها، تقتضي الإقلاع عن طلب الزيادة في الأجور التي تأكّد عدم نجاعتها وتأثيرها السلبي والغير مجدي على القدرة الشرائيّة للمواطن، والقبول بالتخفيض فيها إن اقتضى الحال ويكون ذلك من باب المساهمة في التضحية من أجل انقاذ الوطن وتنمية الاقتصاد والتعبير عن شعور المواطنة والتضامن مع من لا شغل لهم والذين انتفضوا من أجله ولم يظفروا به منذ عشر سنوات، كان على الدولة أن توجه اهتماماتها و امكانياتها، كأولوية قصوى، لما لا شغل و لا مردود لهم.
وهذا ما يجب على الإتحاد العام التونسي للشغل أن يعيه، ومن الحكمة إقناع منظوريه وأعوانه إلى تفهم صعوبة المرحلة وأن يتحلوا بالروح الوطنية، باعتبار أن الإتحاد هو أكثر من منظمة مهنيّة، بل هو أيضا وقبل كل شيء منظمة وطنية، وهذا ما أراده لها مؤسسها وزعيمها فرحات حشاد، والتي لعبت دورا هاما في الظروف العصيبة التي مرت بها تونس زمن الاستعمار.
ولكم أسوة في الدور الذي لعبه اتحاد فرحات حشاد في قيادة الحركة الوطنية عند إيقاف وسجن زعماء الحزب الحر الدستوري، ترك المطلبيّة جانبا وسخّر النقابات لما هو أهمّ، وما كان يعبّر عنه " بالكرامة قبل الخبز" وضحى بحياته مع العديد من المناضلين النقابيين من أجل تحرير تونس من براثن الاستعمار، علينا إذن تحميل التضحية على الجميع من أجل إنقاذ تونس من سوء الحوكمة والفساد وعقلية النهم و الابتزاز ووضعها على الطريق الصحيح، ما أحوجنا اليوم في هذه الظروف العصيبة لفكر حشّاد ووطنيّته لانتشال تونس من الوضع الكارثي الذي تردّت فيه.
لابدّ من التذكير في هذا السياق لما كان اتحاد الشغل في مقدمة معركة التخلف في الستينات زمن التقشف والحرمان من أجل بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها و تنمية الاقتصاد في مختلف المجالات و الجهات، توجه الرئيس الحبيب بورقيبة إلى ممثلي العمال في مؤتمرهم المنعقد 1965 قائلا:
"إن الدولة تشرككم في مسؤولية قيادة الأمة، فأنتم جنود منها ولستم طرفا مقابلا لا همّ له إلاّ تقديم المطالب....، إنّ على كل فرد أن يساهم في مجهود الإنقاذ، لكن المساهمة تتطلب التفاني و الإقبال على العمل بشغف و حماس، كحماس من ناضلوا في سبيل التحرير و تحملوا المصائب و تعرضوا للرّصاص.....، فالعمل الذي ينتظركم، هو رفع مستوى العامل حتى لا يكون كالأجنبي الذي يعتبر الدّولة طرفا مقابلا و يقصر همّه على أن ينتزع منها أكثر ما يمكن من المنافع الشّخصية."
اقتسام التضحية
من الطبيعي أن لا يتحمل التضحية، التي ستفرض نفسها، فئة من المجتمع أي الطبقة الشغيلة.
وحدها، من باب العدل والمصير المشترك أن تساهم كل المنظمات وكل فئات المجتمع في مجهود الإنقاذ. أليس من باب العدل أن تتولى منظمة الأعراف، الاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة كمنظمة وطنيّة قامت بدورها في المعركة من أجل الاستقلال وبناء الدولة، دعوة منظوريها وبالخصوص الشركات الكبرى في القطاع المالي والصناعي، وأصحاب الثروات من رجال الأعمال، لتخصيص نسبة مئوية من مرابيحها ودخلها السنوي لمدّة معيّنة يقع الاتفاق عليها، على أن لا تقل قيمتها على قيمة ما سيخصم من الأجور إذا لم يكن أكثر، حتى تكون التضحية من الجميع سواسية.
ونفس الشيء بالنسبة لاتحاد الفلاحين الذي هو أيضا لعب دورا هاما في مقاومة الاستعمار، عليه أن يدعو منظوريه من المؤسسات الفلاحيّة وكبار الفلاحين للتضحية كل حسب طاقته من أجل إنقاذ تونس، وربّما نحتاج إلى المزيد فندعو إن لزم الأمر الشركات المتوسطة والصغرى وكافة الأجراء وكل من له دخل قارّ بتخصيص نسبة معقولة يقع الاتفاق عليها من دخله كمساهمة في المجهود الوطني من أجل التخفيف من عجز الميزانيّة والاستثمار في البنية التحتيّة وتحسين المرافق الأساسيّة بالخصوص التعليم والصحة والنقل.
لا يفوتنا القول بأن الاعتماد على الذات يفرض احترام شعبنا من الدول الصديقة والشقيقة والمؤسسات الماليّة الدوليّة، ويدفعها للمزيد من المساعدة والتضامن مع تونس التي هي في حاجة في هذه الظروف العصيبة، إلى جانب تضحيات أبناءها، من الدعم الخارجي لتمويل مشاريعها وتنمية اقتصادها والحفاظ على كيانها وسيادتها. ربما يتراءى للبعض هذا المقترح هو من ضرب الخيال ومن باب المستحيل تحقيقه، جوابي لهم " أن هذا هو ثمن الواجب دفعه لإنقاذ تونس في أسرع وقت."
الأمل في الإنقاذ
فبهذه الروح وبهذه العقليّة بنينا دولة قويّة ومهابة بعد الاستقلال وهي في حاجة اليوم إلى إنقاذها وبناءها من جديد، ويؤلمنا نحن جيل الاستقلال، الذي ساهم في بناء هذه الدولة، أن نراها تتهاوى دون أن تكون لنا القدرة على إنقاذها وقد بلغنا من العمر عتيّا، أملنا أن يتولى شباب اليوم في منظماته وأحزابه وجمعياته وحراكه مع حكومتكم بالخصوص، عملية الإنقاذ التي انطلقت بعد هبّة يوم 25 جويلية 2021 ونجحوا في رفع التحدّي وكسب الرهان بإعادة الدولة لهيبتها والبلاد لازدهارها ومناعتها.
وعندها تكون تونس قد أخذت مصيرها بيدها ويعود لها بريقها وإشعاعها الذي عرفته زمن الاستقلال.
الأستاذ عبد السلام القلال
مناضل من جيل الاستقلال
- اكتب تعليق
- تعليق