نضال المكي: من أجل منصّة تونسيّة للوصول الحرّ
لن تستطيع تونس ولا غيرها من الدول العربيّة لعب أيّ دور حقيقي وفاعل – كدول لا كمجتمعات- على الساحتين الإقليميّة والدوليّة وهي دول تابعة سياسيا، مفلسة اقتصاديّا ومدمّرة مجتمعيّا برواسب الجمود الفكريّة.
إذ لا يمكن لدولة أن تكون وازنة سياسيا على المستوى الإقليمي أو الدولي وهي فاقدة لقرارها الوطني مرتهنة للحكومات الأجنبيّة والجهات المانحة. ولا يمكن لدول تابعة سياسيّا أن تطوّر اقتصادها الوطني ولا تكون مجرّد سوق لهذا البلد أو ذاك وتعيش تبعيّة غذائيّة وطاقيّة وفي غيرهما من الميادين .ولا يمكن لدول أن تشهد ظهور سياسيّين وطنيّين بحقّ تهمّهم سيادة البلد واستقلال قراره وتكون لهم القدرة على إيجاد حلول للأزمات الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية ولهم رؤية للدولة والمجتمع ومشاكلهما ومستقبلهما والحال أنّ التعليم في جميع مستوياته متردّي حتّى لا نقول أنّه وقع تدميره بشكل شبه كامل بطريقة يصعب الاعتقاد أنّها ليست قصديّة.
وبالتالي يكون حال المنظومة التعليميّة خير شاهد على حال البلاد وعلى الأزمة الشاملة التي تتخبّط فيها. وليس صدفة أنّ العصرنة السريعة التي شهدتها تونس بعد الإستقلال (وإن لم يقع استكمالها للأسف فيما بعد) إنّما تفسّر بمراهنة دولة الإستقلال على التعليم من الإبتدائي إلى الجامعي مرورا بالثانوي. وهذا الخيار هو الذي وفّر للدولة الحديثة الكوادر الضروريّة لاستكمال بناء المدرسة التونسيّة ومنظومة الصحّة التونسيّة (التي جعلتنا نصدّر أطبّائنا اليوم) والبنية التحتيّة والنواة الأولى للصناعات التونسيّة.
فاكتساب التأثير السياسي والوزن الإقتصادي رهينان بإصلاح المنظومة التعليميّة وهذا ليس سرّا نفشيه ولا خلاف عليه. والسؤال الحقيقي هو كيف نحقّق النهوض بالتعليم والبحث والحال أنّ الدولة التي من المفروض أن تضع رؤية لذلك ومؤسّسات وترصد الإعتمادات الماليّة مفلسة أو تكاد والعديد من المسؤولين في الحكومة لا يحتكمون على رؤى ولا استراتيجيّات ولا حتّى على ثقافة عامّة بسيطة.
لامناص للمجتمع هنا وتحديدا "المجتمع العلمي والتعليمي" من أكاديميّين ومدرّسين في كلّ مستويات التعليم وطلبة وتلاميذ من التعويل على أنفسهم وخاصّة على ما تتيحه العولمة وثورة تكنولوجيات المعلومات والإتصال من آفاق تكاد تكون لا متناهية في مجال الوصول إلى المعلومة ومناهج التعليم والتفكير والبحث والإنتاج الفكري في كلّ الحقول الفكريّة من علوم إنسانيّة واجتماعية إلى العلوم الصحيحة وفي مختلف الفنون وغير ذلك.
فمع تطوّر الإنترنات كوسيلة لنشر الأبحاث العلميّة ومن ثمّ للبحث في حدّ ذاته ظهرت نظريّة الوصول الحرّ (Open access) والتي تنادي بإلغاء الحدود والتضييقات على نشر الأبحاث العلميّة لما تسبّبه تلك الحدود والتضييقات (خاصّة التقييد المتعلّق بمقابل مالي يدفع للوصول للأبحاث) من عرقلة لتقدّم العلوم عبر عزل مجتمعات ودوائر البحث عن بعضها البعض وخاصّة لما تتسبّب فيه تلك القيود من مزيد تعميق الهوّة العلميّة بين الدول المتقدّمة والدول النامية وكما بيّنا أعلاه فإنّ التخلّف العلمي يترجم حتما تخلّفا على جميع مستويات الحياة والإجتماع البشريّ.
ورغم أنّ نظريّة الوصول الحرّ تطوّرت بشكل كبير في الدول الغربيّة إلاّ أنّ العلم بوجودها والتمرّن على أساليبها والإستفادة ممّا توفّره من فرص عظيمة لا يزال محدودا للغاية في تونس وسائر الدول العربيّة. وهذا راجع أساسا إلى أنّ صنّاع القرار في المنظومة التعليميّة في حالة غيبوبة وانقطاع تامّ عن المتغيّرات والتطوّرات السريعة التي تشهدها منظومات التعليم والبحث والتعاون الدولي وبين المجتمعات العلمية في الدول المتقدّمة. ونحن نهدف من وراء هذا المقال البسيط لا فقط إلى التنبيه إلى أهمّية الوصول الحرّ في التقليص من الهوّة المعرفيّة التي تفصلنا عن المجتمعات المتقدّمة بل إلى الدعوة إلى مأسسة الجهد التونسي في هذا المجال عبر تجميع الأكاديميّين والطلبة حول منصّة تونسيّة للوصول الحرّ تشمل مختلف مجالات العلوم. وسيمكّن بناء هذه المنصّة لا فقط من التعريف بالباحثين التونسيّين وإنتاجهم الفكريّ بل أيضا من ربط علاقات بمختلف مجتمعات البحث العالميّة والإستفادة من الكمّ اللامتناهي من الأبحاث المتوفّرة بشكل مجّاني وبما يسمح لنا على الأقلّ من الحدّ من السرعة التي تتوسّع بها الهوّة بين مجتمعات إنتاج المعرفة ومجتمعات التبعيّة المعرفيّة والإستهلاك الصرف. كما أنّ الأساتذة والباحثين والطلبة التونسيّين العاملين أو الدارسين في الدول المتقدّمة يمكن أن يلعبوا دورا كبيرا في التعريف بالمفهوم وبالمنصّات والمواقع التي تقوم على فلسفة الوصول الحرّ وما يمكن أن توفّره من إمكانيّات.
فمع فوضى المكتبات الجامعيّة وتفقير العديد منها وتدميرها الممنهج (ندرة الإعتمادات، منظومات توثيق فاشلة ومتخلّفة، إتلاف الكتب والمراجع وسرقات بالجملة ...) ومع عدم توفّر الجامعات على الإعتمادات الكافية لتمكين الأساتذة والطلبة من الوصول بمقابل لكبرى الدوريّات العالميّة التي تنشر فيها آخر وأهمّ الأبحاث العلمية يصبح اللجوء إلى منصّات الوصول الحرّ المجاني الحلّ الأفضل لا فقط لتمكين الطلبة والباحثين الشبّان من المراجع الضروريّة لإعداد أعمالهم البحثيّة بل أيضا (وربّما خاصّة) لتمكين الأساتذة أنفسهم من تحديث معارفهم ومحاضراتهم ومسايرة النسق السريع لتطوّر البحث العلمي كلّ في مجاله. وهذا لا يعني البتّة العزوف عن اقتناء المراجع الأساسيّة لإثراء أرصدة المكتبات فالهدف من المنصّة هو دعم المنظومة الموجودة وتحسينها وسدّ ثغراتها لا الحلول محلّها. كما أنّه لا يعني الإستغناء عن البعثات العلميّة للطلبة (وهي نادرة في تونس ولا تجد الإهتمام الذي هي به جديرة على أهميّتها القصوى) أو استدعاء الأساتذة الأجانب لتونس وإرسال الأساتذة التونسيّين للخارج لما في ذلك من إثراء لتجربتهم عبر الحوار الفكريّ مع نظرائهم.
إنّ قولنا بأنّه لا يجب التعويل على الدولة في بعث هذه المنصّة التونسيّة لا يعني إقصاء المؤسّسات الحكوميّة من المشاركة في هذا المشروع. وإنّما المقصود أنّ المبادرة وطرح الفكرة لا يجب أن ينتظر إشارة - قد لا تأتي- من الحكومة بل ينبغي أن يكون من قبل أكاديميّين ومراكز بحث ولكنّ الإنشاء العملي للمنصّة يجب أن يكون بشراكة مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وخاصّة مع الجامعات فهي التي لها من الموارد البشريّة ما يلزم للتعريف بأهمّية الدور الذي تلعبه هذه المبادرة وهي التي تملك المؤهّلات المعرفيّة والتقنيّة لبعثها وإطلاقها.
ومن المهمّ الإشارة هنا أنّه توجد على شبكات التواصل الإجتماعي مجموعات عديدة تونسيّة وعلى المستوى العربي والإفريقي تجمع أساتذة وطلبة وباحثين في مختلف المجالات تعمل وفق نظريّة الوصول الحرّ. بما يعني أنّ المفهوم بدأ يأخذ طريقه نحو الإنتشار في المجتمع العلمي التونسي وأنّ أهمّ أطرافه (الطلبة والأساتذة) خبروا المفهوم وقواعده ولمسوا ما يمكن أن يوفّره من فرص كبيرة لجسر الهوّة التي تفصلنا عن المجتمعات المتقدّمة علميّا. ولم يبق إلاّ أن تقع مأسسة هذه المبادرات وتوحيد أهمّها لخلق المنصّة التي ندعو لها لعلّها تساعد في إصلاح ما أفسدناه منذ عقود وتساهم في بعث روح جديدة في الجامعة التونسيّة وبقيّة المؤسّسات التعليميّة وذلك هو الشرط الأوّل والأساسيّ لبناء مجتمع عصريّ ودولة متقدّمة منيعة تفرض احترامها واحترام القيم الإنسانيّة التي تتشارك فيها مع المجتمع الدوليّ.
نضال المكي
باحث في القانون، جامعة لافال كندا
- اكتب تعليق
- تعليق