الاتّفاقية الإيرانية الصينية للتعاون الاستراتيجي: بعض المعاني والتأثيرات المتوقَّعة
بقلم: محمد إبراهيم الحصايري
• "مع حلول الذكرى الخمسين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، تشهد العلاقات الصينية الايرانية انطلاقة تاريخية جديدة. والصّين مستعدّة للعمل مع إيران على فتح آفاق جديدة للتعاون من أجل مصلحة الشعبين وخدمة للسلام والتنمية في العالم. ومهما تَكُن التغيرات التي قد تطرأ على الوضع الدولي والإقليمي، فإنّ الصين ستحافظ، بكل ثبات، على سياساتها الودية تجاه إيران": وانغ يي، وزير الشؤون الخارجية الصيني.
• "إننا نشكر الصين التي كانت صديقة في الأوقات الصعبة، على مواقفها وأعمالها القيّمة في فترة العقوبات القاسية ضد إيران... يجب على واشنطن أن تأخذ على محمل الجد عودتها إلى الاتفاق النووي الإيراني، ورفع جميع العقوبات أحادية الجانب والعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة مثلما تم إبرامها في فيينا سنة 2015": محمد جواد ظريف، وزير الشؤون الخارجية الإيراني.
• "إن الاتفاق الذي أبرمته الصين مع إيران لمدة 25 سنة يؤشر إلى تحول في الاستراتيجية الصينية في الشرق الأوسط، في الوقت الذي تتدهور فيه علاقاتها مع الولايات المتحدة، وهو يعلن عن بداية تغيّر أساسي في علاقات الصين مع إيران ومع المنطقة": هوا ليمينغ، سفير الصين السابق بطهران (1991-1995).
هذه بعض التقييمات التي اخترتها من بين تقييمات عديدة أخرى أجمعت كلّها على التأكيد على أهمية "اتفاق التعاون الاستراتيجي لمدة 25 سنة" الذي وقعته إيران والصين في 27 مارس 2021 في طهران.
وهذا الاتفاق الذي جاء كثمرة لخمس سنوات من المفاوضات التي أعقبت زيارة الرئيس شي جين بينغ إلى طهران في جانفي 2016، والذي ينظر إليه على أنه تجسيم فعلي لعلاقات قائمة على مبدأ "أربح وتربح" (gagnant-gagnant) يكتسي أهمية كبيرة بالنسبة إلى إيران كما بالنسبة إلى الصين.
إنه مهمّ بالنسبة إلى إيران لأربعة أسباب على الأقل:
• أوّلا، لأنّه سيسمح لها بتعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع الصين التي تعتبر شريكها التجاري الأكبر وأحد مستوردي نفطها الخام الرئيسِيِّين، فهو سيمنح انتعاشة جديدة للاقتصاد الإيراني الذي تضرر، بشدّة، من فترة طويلة من العقوبات الأمريكية التي تفاقمت منذ سنة 2018 بسبب سياسة "الضغط الأقصى" التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب من جانب واحد على العالم بهدف تدمير إيران اقتصاديا وزعزعة استقرارها من الداخل. وبالفعل فإنّه من المُبَرْمَج أن تقوم الصين، في إطاره، باستثمار 400 مليار دولار في إيران على امتداد السنوات الخمس والعشرين المقبلة، وأن يتم تنفيذ عشرات المشاريع التي تغطي مجموعة واسعة من المجالات الاقتصادية والثقافية والأمنية والعسكرية.
• ثانيا، لأنّه سيمكّنها من تعزيز تعاونها العسكري، بصورة هيكلية، مع الصين التي ينبغي التذكير بأنها كانت أكبر مزوديها بالأسلحة منذ الثمانينات، أي منذ حرب الثماني سنوات بينها وبين العراق. وما يزال جزء كبير من تجهيزات إيران العسكرية حتى اليوم متأتيا من المُجَمَّعِ الصناعي العسكري الصيني، وذلك بالرغم من الضغوط الأميركية. وسيتجسم التعزيز في رفع مستوى التعاون بين قوات البلدين المسلّحة، في مجالات تكوين الموارد البشرية، ومكافحة الإرهاب، وتبادل الوفود والمعلومات، والتدريبات العسكرية المشتركة، والبحوث الدفاعية والمعدات والتكنولوجيا.
• إلى ذلك، فإنّه سيتيح لها الاستفادة من دعم الصين فيما يتعلق بالمسألة النووية. وفي هذا الإطار تجدر الملاحظة أنّ المادة الأخيرة من الإعلان المشترك حول الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين إيران والصين التي صدرت بمناسبة زيارة الرئيس الصيني إلى طهران في جانفي 2016 تشير إلى التزام البلدين بخطة العمل الشاملة المشتركة، وتطبيقها من قبل جميع الأطراف الموقّعة. والدعم الصيني لإيران في هذا المجال ثمين لأن الصين التي ساعدت في التوصل إلى الاتفاق، لم تتردد في إظهار دعمها لطهران في مواجهة الخطوة أحادية الجانب التي اتخذها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، عندما قرر سنة 2018 سحب الولايات المتحدة من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات على إيران.
• رابعا وأخيرا، لأنّه سيسمح لها بالمشاركة بفعالية أكبر في مشروع "طريق الحرير وحزامه"، وأن تصبح شريكا أساسيا في هذا المشروع الذي سيكون له تأثير كبير على آسيا والعالم بأسره في السنوات المقبلة. وعلاوة على ذلك، فإنّ إيران التي تستفيد، بَعْدُ، من تطوير البنية التحتية للنقل في آسيا، من المُنْتَظَر أن تحصل على 35 مليار دولار من القروض التي ستمنحها الصين لها لكي تطور بنيتها التحتية الداخلية ولكي تكون أوثق ارتباطا بهذا المشروع.
وفي المقابل، وعلى غرار إيران، فإنّ أهمية الاتفاق بالنسبة إلى الصين تعود، هي أيضا، إلى أربعة أسباب هي التالية
• أوّلا، لأنّه سيمكّنها على المدى الطويل، من تأمين تزوّدها بجزء هام من احتياجاتها من الطاقة التي تعتبرها مسألة أمن قومي. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ الصين، وهي أكبر مستورد للنفط والغاز الإيرانيَّيْن، لا ترى في إيران دولة غنية بهذه الموارد الحيوية لاقتصادها فحسب، بل هي أيضا وقبل كل شيء إحدى الدول القليلة التي تملك أن تقول "لا" للأميركيين وأن تتبنى مواقف مستقلة بشأن شراكاتها مع بلدان العالم الأخرى.
هذا بالإضافة إلى أن كلفة وارداتها من النفط والغاز من إيران، ستكون، وفقا لبعض المصادر، أرخص بنسبة 30 ٪ من أسعار السوق، كما إن سداد الفاتورة سيلتفّ على الدولار الأمريكي.
• ثانيا، سيسمح لها بتوسيع صادراتها إلى إيران التي تمثل، بعدد سكانها الذي سيبلغ 100 مليون نسمة في غضون السنوات القليلة القادمة، شريكا مستقرا وموثوقا به لا سيما بالنسبة إلى منتجاتها المصنَّعَة.
• ثالثا، لأنها ستفتح لها بوابة مثالية على منطقة الشرق الأوسط التي يزداد اهتمامها بها أكثر فأكثر...
• رابعا، لأنه يضمن لها التزاما إيرانيا حازما وفعّالا بمشروع "طريق الحرير وحزامه"، في وقت يتزايد فيه عداء واشنطن لها ولمشروعها الطموح. والصينيون الذين يبدو أنهم يزدادون حذرا من التجارة البحرية وحدها، يعطون، خاصة بعد حادثة قناة السويس الأخيرة، أهمية أكبر من أي وقت مضى لممرات التجارة البرية، ولربط طريق الحرير عبر أوراسيا (Eurasie). وحتى يتحقق ذلك ولكي يتسنى لهم تقريب شرق آسيا وغربها من بعضهما البعض، فإنهم بحاجة إلى دور إيران الذي لا غنى عنه، خاصة وأن الإيرانيين يتمتعون بنفوذ كبير بين حلفائهم في الهندو كوش (l’Hindu Kush) وآسيا الوسطى والخليج والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط.
ويبقى بعد هذا كلّه أن نلاحظ أنّ الاتفاق يكتسي علاوة على أهميته بالنسبة إلى إيران والصين، بعدا أوسع بما له من مَعَانٍ مخصوصة وما سيترتب عليه من تأثيرات سواء على المستوى الإقليمي أو على المستوى الدولي.
وبالفعل فإنّ الاتفاق يعني، في المقام الأول، أن الزمن الذي كانت فيه الصين تتوخى الحذر في تعزيز علاقاتها مع إيران لتجنب استعداء واشنطن قد ولّى، فمن خلال التوقيع عليه، يبدو أن البلدين المعروفين بمعارضتهما للهيمنة الأميركية يدشّنان، في الواقع، بداية عهد جديد لا يهتم كثيرا بما تفكر فيه الولايات المتحدة، ولا بالقيود الأحادية والتعسفية التي تفرضها.
وأكثر من ذلك، وبالنظر إلى التغيرات في العلاقات الصينية الأمريكية خلال السنوات وخاصة خلال الأشهر الأخيرة، يبدو أن الصين مصمّمة ليس فقط على مواجهة ضغوط الولايات المتحدة المتزايدة، وإنما على تحدي واشنطن في معسكرها ذاته.
وفي هذا الصدد، فإنّه من المهم أن نشير إلى أنّ وزير الخارجية الصيني قام، طيلة أسبوع كامل، قبل زيارته لإيران بجولة في ست دول في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك المملكة العربية السعودية وتركيا.
ويعتقد البعض أن هذه الجولة تتنزّل في سياق المواجهة الحالية مع الولايات المتحدة، والجهود المستمرة التي يبذلها الرئيس جو بايدن لبناء جبهة موحَّدَة مع حلفائه في أوروبا وآسيا. فردًّا على ذلك، كثفت الصين من جانبها تحركاتها من أجل حشد الدعم العالمي، بما في ذلك دعم البلدان التي يُنْظَرُ إليها تقليديا على أنها جزء من منطقة نفوذ واشنطن.
وفي هذا السياق، لم يكن من قبيل المصادفة أن الوزير وانغ يي قال للرئيس الإيراني حسن روحاني إن "الوقت حان لكي نفكّر بجدية في العواقب السلبية للتدخل الخارجي في شؤون المنطقة، ونناقش معا السبل الفعّلة للحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليميين على المدى الطويل".
وبشكل أوضح قال سفير الصين السابق في الرياض، وو سيكي، لصحيفة شنغهاي أوبزرفر إن زيارة وانغ يي تهدف إلى تأمين دور أكبر للصين في الشؤون الإقليمية، بما في ذلك دور الوسيط بين إيران والمملكة العربية السعودية.
ولهذا السبب يعتقد بعض المحللين أن الاتفاق الصيني الإيراني استراتيجي بامتياز، ويبدو أنه يعلن عن ميلاد نموذج جيو-سياسي جديد في العلاقات الدولية والإقليمية. وهو إذ يأتي على خلفية التوترات بين موسكو وبكين وطهران من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، لا سيما منذ وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض في جانفي 2021، فإنّه من غير المُستبعَد أن يعجّل بإنشاء محور، بالقوة إن لم يكن بالفعل، بين روسيا والصين وإيران من شأنه أن يسهم في ظهور النظام الدولي متعدّد الأقطاب المنشود.
ولكن وفي الانتظار، فإنّ التعاون الأوسع والأعمق بين هذا "الثلاثي" سيكون كافيا لتغيير قواعد اللعبة وتغيير المشهد الاستراتيجي ليس فقط في الشرق الأوسط، ولكن أيضا في آسيا. ومما يزيد من احتمال هذا الأمر، أن الشراكة الصينية الإيرانية تقوم على رؤية استراتيجية مشتركة تطمح إلى إبعاد الولايات المتحدة عن الخليج، قدر الإمكان، لا سيما وأن مضيق هرمز الذي يمر منه خُمُسُ إمدادات الطاقة في العالم، حيويّ لكلا البلدين، وخاصة بالنسبة إلى الصين، حيث أن نصف إمداداتها من الطاقة تمر عبر هذا الممر البحري الذي لا يزال موضع توتر بين الولايات المتحدة وإيران ودول أخرى مُشَاطِئَة.
وقد يكون هذا هو السبب، من بين أمور أخرى، في أن الاتفاق الصيني الإيراني يشكّل مصدر قلق بالغ لبعض دول الخليج العربية، وإسرائيل والولايات المتحدة التي ينبغي التذكير بأنها تشعر أصلا بالقلق الشّديد إزاء "التهديد" الإيراني في المنطقة، بالنظر إلى تزايد نفوذ طهران في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فضلا عن دعمها للفلسطينيين.
ومما يفسّر هذا القلق الشديد أيضا، أن الولايات المتحدة والدول الحليفة يمكن أن تفقد قسما كبيرا من سطوتها، فضلا عن قدرتها على الضغط على طهران التي تشكل، من ناحية أخرى، مصدر انشغال بسبب نفوذها في أفغانستان التي قررت واشنطن منذ أيام الانسحاب منها في 11 سبتمبر 2021...
وخلاصة القول هي أنّه مع التغيير في قواعد اللعبة في آسيا الوسطى، وخاصة في الشرق الأوسط، وفي منطقة الخليج حيث توشك الصين على أن تصبح أحد اللاعبين المركزيِّين، سيكون من المتوقَّع أن نشهد استقطابا جديدا من شأنه أن يؤدي إلى تحالفات جديدة، وتشكُّلاَتٍ جديدة، وتطوّرات جيو-ستراتيجية جديدة يمكن أن تتمخّض عن ميلاد توازنات استراتيجية إقليمية ودولية جديدة.
ونحن نأمل ألاّ يكون المخاض عسيرا، وأن تتم الولادة دون الكثير من المعاناة والآلام.
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق