هيكل بن محفوظ: في القائد الأعلى للقوات المسلحة…
للتنويه فقط: كتبت هذه الخواطر في الفترة بين 10 و12 جانفي 2021.
بعيدا عن كل سجال قانوني أو جدل سياسي، تداول في الأيام الأخيرة (تاريخ كتابة هذه الخواطر) مصطلح "القائد الأعلى للقوات المسلحة" في إشارة صريحة إلى الفصل 77 من الدستور التونسي. وهذه عبارة متداولة في عديد الدساتير الحديثة والمقارنة (في ما لا يقل عن 170 دستور)، وإن كانت تحتاج إلى تدقيق لما لها من رمزية سياسية وأبعاد قانونية و مؤسساتية محددة بذاتها.
والغموض الذي يكتنف هذه العبارة ليس بجديد، بل هي كانت مصدر خلافات منذ أن تضمنت أولى الدساتير المكتوبة، وفي مقدمتها دستور الولايات المتحدة الأمريكية لعام 1787، بندا ينص على صفة القائد العام للقوات المسلحة (أنظر المادة الثانية، القسم الثاني من دستور الولايات المتحدة الأمريكية). وهو ما حدا بالقاضي جاكسون في قضية مصادرة الصلب (Youngstown Sheet & Tube Co ضد سوير (1952))، القول: "أدت هذه الكلمات الغامضة إلى إثارة بعض الخلافات الأكثر إلحاحًا في تاريخنا الدستوري" مع الرؤساء في نقاط مختلفة بدعوى أنها "تمنح السلطة لفعل أي شيء، في أي مكان، يمكن القيام به بجيش أو ببحرية".
وفي تونس، تضمن الدستور أحكاما مختلفة تتعلق بالأمن والدفاع جاءت في صلب تنظيم العلاقات المدنية - العسكرية ولغاية بسط سيطرة ورقابة السلطات المدنية المنتخبة ديمقراطيا على السلطة العسكرية بما يضمن التبعية لها وحيادها والقيام بدورها حسب ما يضبطه الدستور. ومع اعتبار الطبيعة المختلطة للنظام السياسي التونسي، فإن الدستور يسند لرئيس الجمهورية صلاحية القيادة العليا للقوات المسلحة إلى جانب صلاحيات أخرى في مجالات الدفاع الوطني والأمن القومي، في حين يعود لرئيس الحكومة الجهاز التنفيذي للدولة بما فيها أجهزة الأمن وإنفاذ القانون. ويقوم توزيع الصلاحيات بين رأسي السلطة التنفيذية في مجالات الأمن القومي والدفاع والعلاقات الخارجية على مبدأ التشاور بينهما في اتخاذ القرار، مع سهر رئيس الحكومة على تنفيذ السياسات العامة ذات الصلة. لكن لهذا المفهوم بعد مؤسساتي أو عضوي يحتاج إلى تدقيق طالما أن موضوع "القوات المسلحة" هو محل اختلاف في الفهم والتأويل، ولما في ذلك من تأثير على مجالات تدخل لكل السلطات الدستورية ورسم حدود لها.
وعلى الرغم من أن الفصل 77 من الدستور ينص صراحة على أن يتولى رئيس الجمهورية "القيادة العليا للقوات المسلحة"، بما تمنح هذه العبارة للرئيس سلطات دستورية على القوات المسلحة، فإن الإطار الدستوري ترك عديد الأسئلة المركزية أو المعقدة غامضة ودون إجابة أحيانا. ناهيك أن بعض المفاهيم غير واضحة واحيانا متداخلة المعاني والأبعاد (أمن وطني - أمن داخلي - أمن عام - أمن قومي). ثم أن تولي رئيس الجمهورية القيادة العليا للقوات المسلحة ينطوي على مجموعة من الصلاحيات، فيها ما يمارسها إما حصريا أو بالاشتراك مع البرلمان أو حتى مع الحكومة، وفيها ما هو رمزي أو برتوكولي. ويبقى السؤال الرئيسي الذي هو محور الجدل اليوم هو معرفة ما إذ يتولى رئيس الجمهورية القيادة العليا لجميع القوات المسلحة للدولة أم القوات العسكرية فقط.
هذا السؤال وغيره من التساؤلات الاخرى يستدعي تحديد ماهية صفة "القائد الاعلى للقوات المسلحة" والغرض من تضمينها بالدستور وأبعادها القانونية والعملية في علاقة بإدارة قطاع الأمن والدفاع في نظام ديمقراطي يقوم على مبدأ الفصل بين السلط والتعاون بينها وعلى تبعية السلطة العسكرية للسلطات المدنية. ويكتسي تحديد مكونات هذه الصفة الدستورية تحديد مفهوم القوات المسلحة من خلال الدستور أولا، وعلى ضوء القوانين والانظمة القانونية الخاصة بمختلف القوات النظامية الساهرة على حفظ الأمن وحماية الأفراد وإنفاذ القانون في الدولة ثانيا.
هذه الخواطر تنطلق من سياق دستوري وسياسي جديد ومحدد أسسه دستور 27 جانفي 2014 يختلف عما سبقه ويقتضي مراجعة جوهرية بما فيها المفاهيم والأدوار والأنظمة القانونية القائمة اليوم حتى تصبح موائمة لمقتضيات نظام ديمقراطي يهدف إلى إرساء مقومات النجاعة والحياد والمشروعية والمسئولية عن الأعمال والتصرفات.
I- "القائد الأعلى" في الدستور التونسي
عادة ما يُحدَّدُ من خلال هذه صفة "القائد الأعلى للقوات المسلحة" السلطة التي يعود لها بشكل نهائي ممارسة "الرقابة المطلقة" على القوات المسلحة للدولة (ولئن كنا في تونس نفضل استعمال عبارة « الإشراف »). وبحسب الأنظمة السياسية، عادة ما يكون هذا الدور مناط لرئيس الدولة أو رئيس الحكومة. قد يكون هذا دورا شرفيا، أو قد ينطوي على سلطة صنع القرار واتخاذه.
1) ماهية الصفة
يضبط الفصل 77 من دستور 27 جانفي 2014 صلاحيات رئيس الجمهورية بوصفه رئيس الدولة وممثلا لها، ويسند له على هذا الأساس صفة ودور القائد الأعلى للقوات المسلحة. ولهذه المادة هدفين اثنين على الأقل:
• الهدف الأول هو ضمان علوية السلطة المدنية على السلطة العسكرية، وعلى هذا النحو تخضع القوات المسلحة بجميع مكوناتها للرقابة المدنية والمساءلة الديمقراطية. وكان هذا الترتيب منطلق مفهوم الرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة وأساسها.
• أمّا الهدف الثاني فهو يضع الإشراف المدني على القوات المسلحة، الذي هو أحد أهم أسس الانظمة الديمقراطية إلى جانب علوية القانون، في يد شخص واحد أو بالأحرى سلطة واحدة وذلك عملا بمبدأ وحدة القيادة (Unité de la chaîne de commandement).
والمقصود من التحديد النصي باعتبار الرئيس القائد الأعلى للقوات المسلحة، ضمان أن هذا "الضابط الأعلى"، وليس غيره، سيكون مسؤولاً في النهاية عن أداء هذا الدور، مهما كان الأمر.
وتدخل قيادة القوات المسلحة في مجال الاختصاص العسكري لرئيس الجمهورية إذ يتولى بحكم الفصل 77 من الدستور "ضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي". وهو الذي يتولى القيادة العليا للقوات المسلحة، أي أنه لديه حرية التصرف فيها. وهذا ينطوي بدوره على إقرار سلطته في استخدام القوة المسلحة وفي إدارة القوات المسلحة. لذلك فهو قائد حرب. فهو الذي يعلن الحرب ويبرم السلم، ويرسل القوات المسلحة إلى الخارج ويأذن بنشرها خارج أرض الوطن، كما أنه يأذن باستخدام القوات المسلحة لحماية المنشآت الحيوية ويستدعي العسكريين من قوات الاحتياط في الحالات المحددة بالقانون المتعلق بالخدمة الوطنية. وهو الذي يترأس مجلس الامن القومي والمجلس الاعلى للجيوش، كما يترأس وجوبا مجلس الوزراء كلما تعلق الأمر بالتداول في مجالات الدفاع، والعلاقات الخارجية، والأمن القومي. وبالمثل، فهو يتصرف في هيئة الأركان العامة (ولو أن المصطلح غير مستخدم في تونس) من حيث التعيين والتوجيه والإشراف. على هذا النحو، فإنه يحدد المبادئ التوجيهية للتخطيط للسياسة الدفاعية (الردع، انتشار القوات، وما إلى ذلك)، والعمليات الخارجية، وما إلى ذلك في علاقة بمكافحة الإرهاب أو غيرها من تهديدات الأمن القومي. كل هذه الصلاحيات هي مؤطرة دستوريا وقانونيا ولها ضوابط محددة لا يمكن التنصل منها.
ويبرز من خلال طالع الفقرة الثانية من الفصل 77 ("كما يتولّى:") أن الاختصاصات التي يمارسها رئيس الجمهورية في مجالات الدفاع والامن القومي، وإن كانت من صميم صلاحياته، فهي لم تسند له بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة وإنما بوصفه يمارس السلطة التنفيذية إلى جانب الحكومة التي يرأسها رئيس الحكومة (الفصل 71 من الدستور)، وأساسا باعتباره رئيس الدولة، ورمز وحدتها الدولة، والضامن لاستقلالها واستمراريتها، والساهر على احترام الدستور (الفصل 72).
ولتحقيق هذه الغاية، فإن الفصل 77 من الدستور، على الأقل فيما يتعلق بصلاحيات معينة، لا يخول تفويض القيادة النهائية للقوات المسلحة. . . لأي شخص آخر غير الرئيس، مع مراعاة حالة التعذر الوقتي المنصوص عليها بالفصل 83 من الدستور، حيث يجوز في هذه الحالة لا غير لرئيس الجمهورية تفويض صلاحياته لرئيس الحكومة لمدة لا تزيد عن ثلاثين يومًا قابلة للتجديد مرة واحدة. وهنا وفي هذه الحالة بالذات، يجدر التساؤل عن إمكانية تفويض صفة "القائد الأعلى" في صورة ما إذا كانت لا تنطوي بالضرورة على دور معين بذاته. أما إن كانت تنطوي على صلاحيات محددة بذاتها، فهذا يحتاج إلى تحديد مكونات هذه الصفة وضبط دلالتها ومجالاتها.
2) مكونات الصفة
تستدعي صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة الوقوف عند أهم الخصائص والأهداف الرئيسية التي ترمز لها هذه الوظيفة، إلى جانب السلطات التي يمارسها رئيس الجمهورية في قيادة العمليات العسكرية.
• العلوية: تُسند لرئيس الجمهورية القيادة العليا للقوات المسلحة،وليست العامة أو المشتركة لأركان الجيش. وهذا يعني أن المبدأ يمنع حرفيا على أي جهة أو سلطة، بما فيها السلطة التشريعية، إسناد هذه الصفة إلى شخص آخر غير الرئيس ووضعه على رأس التسلسل الهرمي للقوات المسلحة التونسية بدلا عنه. هذا يفترض كذلك عدم جواز عزل مكونات من القوات المسلحة عن إشراف الرئيس أو التدخل في الدور الإشرافي للرئيس بشكل تُحَوًلُ فيه صفة القائد الأعلى إلى "عنوان فارغ".
• الحماية: بموجب الدستور، فإن الرئيس بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، هو القائد العسكري الأعلى المكلف بمسؤولية حماية الدولة والدفاع عنها، وهو ما يفرضه منطق الفصل 77 من الدستور حيث أن دور "حماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية" هو من صميم صلاحيات رئيس الجمهورية، باعتباره الضامن لاستقلال الدولة واستمراريتها.
• القرار: المقصود بالقيادة العليا أن رئيس الجمهورية هو الذي يتولى صنع القرار السياسي العسكري، إما بصفة حصرية أو بالاشتراك مع البرلمان أو رئيس الحكومة. فهو الذييتولى التصرف في الجيش، وعلى هذا النحو لديه المبادرة باتخاذ القرارات العسكرية الهامة وتسيير العمليات العسكرية. هكذا، فإن بند القائد الأعلى يكرس سلطة الرئيس ليس فقط على "قيادة القوات"، ولكن أيضًا على "تسيير العمليات". ومن وجهة نظر توزيع الصلاحيات بين مختلف السلطات في الدولة، فإن بند القائد الأعلى "يمنح سلطات حرب جوهرية واسعة للرئيس"؛ فهو المختص دون غيره بإعلان الحرب وإبرام السلم، كما أن قرار اللجوء إلى التدابير الاستثنائية وإعلانها ينفرد به أساسا رئيس الجمهورية عملا بأحكام الفصل 80 من الدستور.
• التعيين: تسند هذه الصفة لرئيس الجمهورية سلطة التعيين والإعفاء في الوظائف العسكرية العليا طبقا لما يقتضيه الفصل 78 من الدستور. وعلى هذا الأساس صدر القانون عدد 32 لسنة 2015 مؤرخ في 17 أوت 2015 يتعلق بضبط الوظائف العليا طبقا لأحكام الفصل 78 من الدستور، وتضمن الفصل الثالث قائمة تفصيلية للوظائف العليا العسكرية والمتعلقة بالأمن القومي (علما وان هذا الربط الاخير فيه توسع في فهم أحكام الفصل 77 من الدستور)، والتي من أبرزها (على سبيل الذكر فقط): رئيس أركان الجيوش لدى الوزير المكلف بالدفاع الوطني، المتفقد العام للقوات المسلحة، رؤساء أركان الجيوش الثلاث، المدير العام لوكالة الاستخبارات والأمن للدفاع، الضباط القادة، إلخ. رغم تحفظنا على دستورية الفصل 6 من نفس القانون. في المقابل فإن التعيينات والإعفاءات في الوظائف العسكرية العليا التي يختص بها رئيس الجمهورية لا تشمل الوظائف الأمنية العليا سواء في أسلاك قوات الأمن الداخلي أو الديوانة التي تُعَدُّ من اختصاصات رئيس الحكومة. وهذا التمييز سيكون أساسيا في تعريف مفهوم القوات المسلحة لاحقا.
• المسؤولية: كنتيجة لمبدأ العلوية، فإن رئيس الجمهورية يتحمل رأسا تبعات الخيارات والقرارات السياسية التي يتخذها في المجال العسكري، مثل قرار إنزال الجيش أو استخدام القوة المميتة في الحالات الاستثنائية. فعندما يوافق مثلا مجلس نواب الشعب على العمليات العسكرية (مثل إعلان الحرب)، فإن الرئيس يكون بالضرورة مسؤولاً عن هذا القرار.
غير أن السؤال الأكثر صعوبة هو مقدار السلطة التي يمنحها الفصل 77 للرئيس، كسلطة مقاومة الإرهاب، والإذن بإجلاء المواطنين التونسيين العالقين بالخارج، وإرسال قوات إلى الخارج، على الرغم من أن هذه السلطة مقيدة بأحكام أخرى من الدستور، ومن قبل القانون الدولي أيضا. في المقابل، لا تخول صفة القائد الأعلى صلاحيات مطلقة لرئيس الجمهورية، فهي لا تجيز له الاستيلاء على الممتلكات والمكاسب لتمويل مجهود الحرب مثلا، كما لا تخول له تتبع المدنيين في مناطق العمليات العسكرية، ولا تمتد عموما إلى التدخل في حقوق وواجبات المواطنين والمواطنات، على الأقل خارج ساحة القتال.
يبقى تحديد مفهوم القوات المسلحة التي يتولى رئيس الجمهورية قيادتها العليا وذلك بالرجوع إلى نص الدستور أولا، ثم قراءتها على ضوء مكونات مختلف القوات الحاملة للسلاح وخصائصها القانونية والهيكلية والوظيفية.
II- القوات المسلحة في الدستور والقانون التونسي
القوات المسلحة هي مؤسسات تنشئها الدولة في المقام الأول لأغراض الدفاع الوطني، لمكافحة التهديدات الخارجية ومنع النزاعات الداخلية. تعتمد التركيبة المحددة للقوات المسلحة على التعريف القانوني المعمول به في كل بلد. وفي تونس، أشار الدستور في الفصل 17 إلى القوات المسلحة إلى جانب قوات الأمن الداخلي من خلال تأكيد مبدأ احتكار الدولة لإنشاء الأجهزة الحاملة للسلاح والتي يجوز لها شرعيا اللجوء إلى وسائل الإكراه المادي بما فيها استخدام القوة المميتة (force létale).
ويميز الدستور التونسي بشكل واضح وصريح بين القوات المسلحة وقوات الأمن الداخلي (الفصل 17 - فصل 77). كما يفرق الدستور، بين القوات المسلحة المتمثلة في الجيش الوطني وبين قوات الأمن الداخلي والديوانة، عندما نص بالفصل 65 فقرة ثانية أنه: «تتخذ شكل قوانين أساسية النصوص المتعلقة بالمسائل التالية:
• تنظيم الجيش الوطني،
• تنظيم قوات الأمن الداخلي والديوانة،… »
لذلك من المهم الفصل بين مختلف أصناف القوات العسكرية والأمنية، وقوات الديوانة كذلك، لاختلاف هذه التنظيمات من حيث تركيبتها ومهامها وأدوارها وقيادتها وأنظمتها القانونية كذلك.
1) التعريف الدستوري للقوات المسلحة
لم يعرف الدستور القوات المسلحة بشكل مباشر، وذلك على خلاف قوات الأمن الداخلي. ويعزى ذلك بالأساس إلى عدم اعتماد مصطلح موحد للدلالة على المؤسسة العسكرية. في المقابل أعطى الدستور تعريفا للجيش الوطني من ضمن الفصل 18 الذي نص على ما يلي:
"الجيش الوطنيجيش جمهوري وهوقوة عسكرية مسلحةقائمة على الانضباط، مؤلفة ومنظمة هيكليا طبق القانون،ويضطلع بواجب الدفاع عن الوطن واستقلاله ووحدة ترابه، وهو ملزم بالحياد التام. ويدعم الجيش الوطني السلطات المدنية وفق ما يضبطه القانون."
وما يهم في هذا التعريف، هو التأكيد على خاصيتين رئيسيتين تشترك فيها معظم القوات المسلحة النظامية في العالم: التنظيم العسكري المسلح ودور الدفاع الوطني.
وعندما نشير في تونس أو غيرها اصطلاحا إلى "القوات المسلحة" فهذا يعني بالأساس "المؤسسة العسكرية" التي تتمثل مهمتها الأساسية في الحفاظ على حالة الاستعداد تحسباً للحرب، فضلاً عن جميع وظائف الدعم التي تقدمها للسلطات المدنية. لذلك فإن القوات المسلحة هي أولا وقبل كل شيء القوات العسكرية المسلحة المكونة للجيش الوطني، والمتمثلة أساسا في جيش البر وجيش البحر وجيش الطيران، والاستخبارات العسكرية أيضا. والجيش الوطني بمختلف أركانه وهياكله وتشكيلاته يعرف أيضا بأسم "القوات المسلحة التونسية".
ويتعزز هذا الفهم من خلال ربط مهام الجيش الوطني المحددة بالفصل 18 المذكور بمفهومين آخرين وردا بالفصل 77 من الدستور وهما: الدفاع الوطني والأمن القومي. غير أنه حري بالإشارة أيضا أن هذا الفصل الأخير أورد فهما للأمن القومي باعتباره يتعلق "بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية"، لكنه في المقابل لم يحدد مضمون الدفاع الوطني. ومع ذلك فإن هذا المفهوم الأخير يتجلى من خلال الفصل 18 ايضا الذي حدد دور القوات المسلحة في الدفاع عن حوزة الوطن واستقلاله ووحدة ترابه، وهو دور يختلف تماما عن الدور الذي تقوم به قوات الأمني الداخلي أو بالأحرى القوات غير العسكرية الحاملة للسلاح.
وما يدعم هذا الفهم هو أن الفصل 19 من الدستور لم يسند بدوره صفة "المسلحة" لقوات الأمن الداخلي عندما حدد دورها (فصل 19: "الأمن الوطني أمن جمهوري، قواته مكلفة بحفظ الأمن والنظام العام وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات وإنفاذ القانون، في كنف احترام الحريات وفي إطار الحياد التامّ".). مع الاشارة أيضا إلى قصور هذا الفصل من حيث الصياغة لعدم دقته الاصطلاحية ("أمن وطني")، في حين أن المقصود هي "قوات الأمن الوطني". وفي اختلاف الألفاظ الدستوري عدم التزام واضعي الدستور بمفهوم ومصطلح موحدين جامعيين لكافة قوات الأمن الداخلي والديوانة وحتى الأمن الرئاسي. ومرد هذا اللغط غياب التدقيق في منظومة النصوص التشريعية والترتيبية الناظمة لمختلف القوات والأسلاك الحاملة للسلاح أثناء وضع الدستور. وكان على المشرع الدستوري دراسة هذه الأنظمة الخاصة والاستئناس بها تفاديا للوقوع في هذا النوع من القصور أو الخلط بين المفاهيم والمؤسسات والذي بات يفتح الباب على مصراعيه أمام قراءات لا يتحملها نص الدستور.
لذلك، فإن المعيار القانوني الأساسي لتعريف القوات المسلحة وتمييزها عن سائر القوات النظامية الأخرى من شرطة وأمن وطني، وحرس وطني، وسجون وإصلاح، وحماية مدنية، و ديوانة، وأمن رئاسي، هو المعيار الوظيفي، أي الدور الذي تضطلع به وطبيعة المهام التي تقوم بها: إن كانت عسكرية أو مدنية.
2) القوات الحاملة للسلاح غير القوات المسلحة
كنا قد أشرنا في دراسة سابقة مخصصة للغرض، غياب وحدة المصطلحات وتداخلها في نص الدستور وبين مختلف أحكامه وبقية النصوص القانونية التشريعية والترتيبية الناظمة لأصناف قوات الأمن الأخرى، إذ تارة يعرف النص قوات الأمن الوطني ويحدد دورها ومبادئ تنظيمها ويخصها بالفصل 19 من الدستور، وتارة أخرى يشير بالفصلين 36 و 65 فقرة ثانية المشار إليه أعلاه إلى "قوات الأمن الداخلي والديوانة » من دون تعريفها، رغم أنه تشكل نظاميا أصنافا قانونية مختلفة عن قوات الأمن الوطني المنصوص عليها بالفصل 19 من الدستور.
وبصرف النظر عن هذا الخلط اللغوي، فإن العنصر الرئيسي في التعريف الدستوري لقوات الأمن الوطني لتمييزها عن القوات العسكرية هو عدم التنصيص على أنها قوات مسلحة، رغم أنها نظاميا هي قوات حاملة للسلاح.
وفي اعتقادنا هذا المعطى رئيسي للتمييز بين القوات المسلحة النظامية (forces armées régulières) التي يكون هدفها الرئيسي هو الدفاع عن الوطن، والقوى الامنية التي تشمل الفئات الرسمية للقوات الساهرة على حفظ الأمن والنظام العام والمكلفة بإنفاذ القانون، والتي، وفقًا للتشريع الوطني التونس، غير مدرجة بشكل عام في القوات المسلحة: مقدمو خدمات الأمن الداخلي التابعون للدولة (مثل الشرطة والحرس الوطني والديوانة والسجون والإصلاح)، وبصرف النظر عن تفويض القانون لهذه الأجهزة المدنية إمكانية حمل السلاح واستخدامه لأداء مهامها.
ولعل هذا الفرق هو الذي حدى بواضعي النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب تسمية اللجنة التشريعية المعنية بشؤون القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى بـ « لجنة تنظيم الإدارةوشؤون القوات الحاملة للسلاح »، وحتى لا يُستثنى من ذلك الديوانة والأمن الرئاسي - اللذان لا ينتميان لأسلاك قوات الأمن الداخلي تبعا للتعريف الوارد بقانون 1982.
يبقى أن قوات الأمن الوطني تنتمي نظاميا لقوات الأمن الداخلي بحكم الفصل 4 من القانون عدد 70 لسنة 1982 مؤرخ في 6 أوت 1982 يتعلق بضبط القانون الأساسي العام لقوات الأمن الداخلي والذي ينص على ما يلي: "تتكون قوات الأمن الداخلي من أعوان الأمن الوطني والشرطة الوطنية وأعوان الحرس الوطني وأعوان الحماية المدنية وأعوان السجون والإصلاح".
كما ينص الفصل 3 من نفس القانون أنه "يقع استعمال الأسلحة من قبل أعوان قوات الأمن الداخلي طبقا للتشريع الجاري به العمل …" دون أن يسند لمختلف أسلاكها صفة القوة المسلحة. فالنص يميز بشكل واضح وصريح بين الصفة النظامية لهذه القوات وبين الوسائل المادية والقانونية التي تستعملها في أداء مهامها.
وتضيف القوانين الأساسية الخاصة بكل سلك تابع لقوات الأمن الداخلي، من ذلك الفصل 2 من الأمر عدد 1160 لسنة 2006 مؤرخ في 13 أفريل 2006 يتعلق بضبط النظام الأساسي الخاص بأعوان سلك الأمن الوطني والشرطة الوطنية، والفصل 2 من الأمر عدد 1162 لسنة 2006 مؤرخ في 13 أفريل 2006 يتعلق بضبط النظام الأساسي الخاص بأعوان سلك الحرس الوطني، تعريف هذه الأسلاك بكونها "قوة عمومية مدنية مسلحة".
فأجهزة الأمن الرسمية، ولئن كانت حاملة للسلاح، فهي تبقى مدنية أي غير عسكرية وذلك على عكس الجيش الوطني. هذا المشترك أي "قوة مسلحة" بين مختلف القوات، هو الذي يطرح مجددا إشكالية ما إذا كان مفهوم القوات المسلحة يؤخذ في الدستور في مفهومه الضيق أم في مفهومه الواسع؟ تكمن الإجابة في الفصل 77 ذاته وحسب المعنى الذي حددناه سابقا للقوات المسلحة، بحيث لا يمارس مبدئيا رئيس الجمهورية القيادة العليا إلا على القوات المسلحة العسكرية؛ ينضاف إليها قوات الأمن الرئاسي لا بوصفها حاملة للسلاح وإنما بحكم تبعيتها نظاميا لرئاسة الجمهورية.
ومع ذلك تبقى المنظومة التشريعية النافذة تجيز لرئيس الجمهورية توجيه أذون أوامر لقوات الأمن الداخلي، إذ ينص الفصل 2 من قانون سنة 1982- نقح بمقتضى القانون عدد 58 لسنة 2000 المؤرخ في 13 جوان 2000 – على ما يلي:
"يرجع أعوان قوات الأمن الداخلي بالنظر إلى وزير الداخلية تحت سامي سلطة رئيس الجمهورية الذي يأذنهم ويأمرهم مباشرة أو عن طريق الوزير الأول أو وزير الداخلية، (…)".
وهذا يرتب نتيجة مباشرة وغير مباشرة في نفس الوقت في علاقة بخضوع مختلف أسلاك قوات الأمن الداخلي لرئيس الجمهورية بوصفه قائدا أعلى للقوات المسلحة: أولا، سلطة التعيين، ثانيا، سلطة الأمر والتوجيه.
لكن لا يمكن قراءة هذا النص القانوني بمعزل عن النظام الدستوري والسياق السياسي السائد آنذاك، إذ أن دستور غرة جوان 1959 لا ينص فقط على أن رئيس الجمهورية هو القائد الاعلى للقوات المسلحة، بل أنه وبعد تعديل 1988 لم يعد الوزير الاول يتصرف في دواليب الادارة وفي القوة العامة، بما ركز نهائيا الصبغة الرئاسوية لنظام الحكم في تونس، حيث أصبح رئيس الجمهوري هو رئيس الجهاز التنفيذي الذي يأتمر بأوامره ويخضع لتعليماته المباشرة ويطبق توجهاته واختياراته في كافة المجالات.
بيد أن دستور 2014 غيّرَ من موازين القوى و أصبح رئيس الحكومة هو الذي يضبط السياسة العامة للدولة، مع مراعاة مقتضيات الفصل 77 من الدستور فيما يتعلق بمجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي، ولكنه هو الذي يسهر على تنفيذها، بمعنى أنه هو الذي أصبح يتحكم في الجهاز التنفيذي للدولة وفي الادارة والقوة العامة غير العسكرية. ثم والاهم، لا يمكن لرئيس الحكومة ولا حتى لوزير الداخلية أن يأتمر بأوامر رئيس الجمهورية.
والمعطى السياسي هام جدا لوضع الفصل 77 في سياقه الدستوري والسياسي الصحيح، ومن ثمة قراءة النصوص القانونية قراءة سليمة. إذ لابد من التذكير في هذا الخضم بأسباب تخلي المشرع الدستوري عن المقترح المضمن بالفصل 71 من مسودة مشروع الدستورفي نسخة 14 ديسمبر 2012، والذي ارتأى آنذاك أن يسند إلى رئيس الجمهورية اختصاص "القيادة العليا للقوات المسلحة وقوات الأمن الوطني". غير أن رأي الأغلبية في الهيئة المشتركة للصياغة والتنسيق اعتبر أن " الأمن خارجا عن صلاحيات رئيس الجمهورية". وجاءت المسودات اللاحقة من مشروع الدستور خالية من الاشارة إلى سلطة رئيس الجمهورية على قوات الأمن الوطني، وأقرت في المقابل القيادة العامة على القوات المسلحة أي المؤسسة العسكرية لا غير. وهذا يعكس نية السلطة التأسيسية منذ المراحل الأولى في صياغة دستور 2014 على أن القوات المدنية الحاملة للسلاح لا تخضع للقيادة العليا لرئيس الجمهورية على معنى الفصل 77.
ختاما، لا ننسى أن القوات المسلحة تتكون من نساء ورجال مدربين ومرخصين للتعامل مع السلاح وفق الدستور. وبشكل عام، فإن أهم دور لهم هو الدفاع عن الوطن، لكن يمكنهم أيضًا الانخراط في المحافظة على الأمن الداخلي، ومساعدة الناس في حالات الطوارئ أو حتى القيام بأعمال عدائية. ولا ننسى كذلك بأن القوات المسلحة هي مختلف التنظيمات والموارد العسكرية التي تخصصها الدولة لتنفيذ سياستها الدفاعية. وأن هذه السياسة الدفاعيية تهدف في جميع الأحوال إلى الحماية "ضد كل أشكال العدوان والأمن وكامل التراب الوطني وحماية الحياة السياسية". وأن هذا الدور من مهام وزير الدفاع وذلك تحت سلطة رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة، وذلك وفقا لمقتضيات الفصل الأول من الأمر عدد 75-671 المؤرخ في 25 سبتمبر 1975 يتعلق بتحديد صلاحيات وزير الدفاع الوطني. وأن صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة مرتبطة بمجال الدفاع الوطني وبمهام القوات المسلحة العسكرية بالأساس.
ثم أن التمييز بين التنظيمات العسكرية والمدنية وشبه العسكرية ليس واضحًا دائمًا وقد تم طمسه من خلال الاستخدامات المختلفة لهذه الكلمات اعتمادًا على السياق. لكن تتميز المنظمات العسكرية بشكل أساسي عن التنظيمات المدنية بالخصائص التالية:
• العمل الذي يرتكز بشكل أساسي على استخدام القوة المسلحة في وقت الحرب ولمكافحة التهديدات الخارجية للأمن القومي؛
• أفراد مسلحون يرتدون الزي الرسمي وهم هدف مشروع للهجمات ويقبلون بإمكانية قتل وتلقي الموت أثناء أداء واجباتهم؛
• الانضباط الصارم، بما في ذلك سلطة إصدار أوامر للموظفين بالمخاطرة بحياتهم؛
• هيكل مركزي وتسلسل هرمي للقيادة؛
• العزلة النسبية عن الثقافة والمجتمع المدني؛
فالفارق بين المؤسسات المسلحة العسكرية والمدنية هو في الأساس مسألة درجة، حيث قد تظهر المؤسسات المدنية بعض الخصائص المذكورة أعلاه، ولكن ليست كلها قوات مسلحة بالمعنى الوظيفي والهيكلي وخاصة الدستوري للكلمة.
هيكل بن محفوظ
أستاذ القانون العام
- اكتب تعليق
- تعليق