تونس: الفساد والأمن القومي
بقلم العميد محمد رشدي بالعيد - أصبح الفساد في تونس سواء كان كبيرا أو صغيرا معضلة مقلقة ترهق البلاد، يصعب حلها، فلم تهتد كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة إلى طريقة مثلى للحد منه. فتحول الفساد إلى آفة تتحكم في مفاصل الدولة عبر طبقة من الفاسدين. فهو اليوم، موضع إدانة داخلية وخارجية حيث أضر بكيان الدولة وهياكلها وبمواطنيها. كما عطل مجهودات التنمية. فلم يعد بالإمكان بناء تنمية حقيقية دون محاربة الفساد واقتلاع جذوره المترامية في عمق جسد الدولة، ودون التصدي لعصابات الفاسدين الذين تحولوا لطابور خامس ينخر جسد هذا الوطن العليل سواء كان ذلك بشكل سري أو علني لتحقيق أولويات ومكاسب ذاتية وجماعية، بدلا من تحقيق منفعة للصالح العام.
تقمص الفساد دور المخرب بتوظيف أنشطة هدامة ممنهجة ومقننة يستخدمها الطابور الخامس لاستنزاف مقدرات البلاد لحساب بعض الفئات المنضوية تحت قبة دولة الفاسدين العميقة. لهذا يتعين إدراج الفساد والفاسدين على رأس أولويات الأمن القومي التونسي، لأن آفة الفساد تمهد الظروف المناسبة لخلق بيئة اجتماعية مناوئة للنظام القائم بسبب تفشي الفقر والحرمان بين المواطنين. وتمهد الطريق لنمو النزاعات الداخلية والإقليمية. يغذي الفساد الفقر وعدم المساواة والشعور بالظلم والقهر ويشوه منظومة القيم الأخلاقية والتعليم وبيع الذمم وإرساء المنافسة غير شريفة ويرفع منسوب البطالة بانعدام فرص التشغيل ويقوض فرص التنمية وخلق الثروة ويغذي الجريمة المنظمة والتهريب والتهرب الضريبي لرأس المال ويشجع على هدر المال العام.
أما في المجال الأمني، يغذي الفساد العمليات الإرهابية ويزيد من فرص التجسس وبيع الذمم للخصوم والتخريب المادي والمعنوي ويهدد تماسك الوحدات الأمنية والعسكرية بتقليص مواردها وإشغالها بأنشطة خارجة عن اختصاصها مما يؤثر على مجهوداتها الرامية لحماية أمن وسيادة الوطن وتحويل وجهتها وحيادها إلى المعترك السياسي لكونهما يحظيان بالثقة العامة ويمثلان رمز السيادة الوطنية.
من خلال أنشطته الهدامة، يسعى الطابور الخامس إلى تحويل البلاد لدولة هشة تسير بخطى حثيثة نحو الانحدار إلى مصير مجهول بتوخي ممارسات مشينة متنوعة لتدمير البلاد، منها تدني الخدمات العامة وهشاشة البنية التحتية بسبب اعتماد آليات الغش والتزوير وتفشي الرشوة والتحيل والتقاعس واللامبالاة وابتزاز رؤساء الأموال والمستثمرين واختلاس المال العام في مشاريع وهمية أو مبتذلة وجعل من المحاباة والمحسوبية والولاءات معيارا أساسيا في التعيينات للقيادة والتوظيف والترقيات. وغيبت آليات الشفافية والتدقيق والمحاسبة والمساءلة و المآخذة في مجال الرقابة، مع تغيير الأوليات العامة لفائدة المصلحة الخاصة.
وفي هذا الإطار، تعمل الطبقة السياسية الفاسدة على إرساء "النظام الكليتوقراطي" أي حكم اللصوص، وهو نظام يعمل على تغليب المصلحة الفردية على المصلحة العامة. وهو أسلوب حكم جوهره الفساد واللصوصية ونهب الثروات العامة بوسائل ملتوية يتم شرعنتها لتصبح مستباحة قانونيا. و دأب بعض المسؤولين على تكليف لجان جوفاء بمهمة التحقيق لتمييع الملفات والقضايا المرفوعة بشبهة الفساد لا تفضي لنتائج ملموسة، عوضا عن إحالتها إلى القضاء للبت فيها. يهدف هذا النظام إلى الاستيلاء على الدولة بتوظيف وسائل شرعية تفتقد للشفافية والمساءلة الحقيقية.
لقد رفع الستار على جملة من الفضائح ببوابات ومعابر التوريد، فتجلت للعيان صفقات مشبوهة تمثلت في حافلات للنقل العمومي مستعملة وقطع غيار مشبوهة المصدر وتهريب للأثارومواد غذائية غير قابلة للاستهلاك وقمح مسرطن ونفايات ملوثة... وما خفي كان أعظم...
أدت "تكلفة الفساد" إلى هبوط معدلات التنمية والاستثمار بسبب تقلص منسوب الثقة لدى المستثمرين وتخلي سلطة الدولة على القطاعات الإستراتيجية التي تمول البلاد كالفسفاط والطاقة لفائدة جماعات مسيسة موازية للدولة ترفع شعارات مطلبية انفصالية تحت "غطاء مطاطي" التنمية الجهوية مما أفقد البلاد أسواقها الدولية وزاد من أوجاع شعبها. تحول الفساد إلى واقع يومي معاش، يتقبله المواطن بصدر رحب، دأب على التعاطي معه لقضاء شؤونه الخاصة. فقد استشرى الفساد في شرايين الإدارة ومجتمع الأعمال الذي اختلط بالسياسة فلم يعد يلتزم بمعايير القانون ومبادئ القيم وقواعد السلوك وحسن التصرف وأخلاق المهنة مما جعل مفهوم الحوكمة الرشيدة غير قابل للتطبيق.
مكن "النظام الكليبتوقراطي" طبقة الفاسدين من حماية وحصانة من قبل بعض الحكومات المتعاقبة بسبب هيمنة بعض الأحزاب النافذة ضمن المشهد السياسي العام والتي تعمل لحساب لوبيات تمول نشاطهم السياسي المبتذل الذي مادته الأساسية التمتع بالامتيازات الوظيفية المجحفة وخدمة مصالحهم الذاتية.
في الأثناء، يتصارع ممثلو الشعب داخل حلبة البرلمان حول قضايا جانبية لا تخدم انشغالات المواطنين الأولية، على غرار الميراث وحقوق المثليين...
وفي غياب هيبة الدولة،هناك اليوم من يعبث وسط الساحة الداخلية والخارجية للبلاد وجعلها مفتوحة ومستباحة. فالعامل الخارجي أصبح واقعا وحاضرا بقوة بيننا بحسب الوقائع على الميدان.
نحن نبحث عن كيفية إرساء ورشة من الحكماء لإنقاذ البلاد وتطهيرها من حالة الفوضى والإفلاس والتسول التي نحن عليها اليوم، نبحث عن ورشة فاعلة وجريئة لتحرير البوابات والمعابر من هيمنة المفسدين، نبحث عن ورشة من الإصلاحيين تقوم ببناء مؤسسات وطنية شفافة تخضع للتدقيق والمساءلة والمآخذة القانونية لردع المفسدين.
وبناء على ما تقدم، نحن اليوم في حاجة ماسة لبناء وعي جماعي اجتماعي وطني يعبر عن نفسه وعن قيمه النبيلة ومبادئه الأخلاقية لمجابهة آفة الفساد وشبكة المفسدين وإسقاط منظومة الكليتوقراطيين وطابورها الخامس من أجل حماية أمننا القومي ودفع عجلة التنمية المستدامة. نحن اليوم في حاجة إلى عقد اجتماعي جديد ومنوال اقتصادي جديد تحت إشراف طبقة سياسية جديدة تؤمن بإدارة التغيير والاستشراف.
وللحديث بقية.
العميد متقاعد محمد رشدي بالعيد
مركز البحوث والدراسات الأمنية
- اكتب تعليق
- تعليق