حامد الزغل يقد م كتاب محمد التريكي " المرحلة الحاسمة"
زامله منذ أيام الشباب ورافقه في الحركة الكشفية والطلابية وتابع مسيرته الطويلة وعملا سويّا تحت قيادة بورقيبة ضمن جميل الاستقلال لإرساء الجمهورية ولبناء الدولة الحديثة.
الأستاذ حامد الزغل هو خير من يقدم كتاب رفيق دربه الأستاذ محمد التريكي، الوالي السابق والقائد العام للكشافة التونسية، الذي نشره تحت عنوان "المرحلة الخامسة".
"عرفت محمد التريكي كشافا بسيطا وهو فتى، وعرفته قائدا عاما للكشافة التونسية وهو في سن الأربعين. وبين الفترتين تقابلنا مرارا وخاصة لما آواني في بيته وهو طالب وأنا الكاتب العام للاتحاد العام لطلبة تونس.
كان دوما فكها ضحوكا، وأحيانا مشاكسا سليط اللسان، لا يتورع من توجيه الانتقادات اللاذعة دون أن تفارقه الابتسامة.
يقول عن نفسه إنه يرنو إلى الحرية الفكرية والمذهبية، ويتعصب للتربية الحرة، ولا يستنكف من الذين يناصبون العداء لحزبه، محاولا تفهم أوضاعهم واتجاهاتهم. كان هذا ديدنه سواء كان في الكشافة أو في جامع الزيتونة، أو طالبا في معهدي الحقوق والإدارة، أو عضوا في شعبة باب سويقة الدستورية. لذلك كان يبدو للبعض غير واضح في مواقفه السياسية. لكنه في الحقيقة واضح الفكر والعمل في إبعادهما المتنوعة.
يظهر ذلك من خلال الكتاب الذي أتحفنا به. فهو يمثل شهادة شخصية صادقة، وصورة حية واضحة، عن معركة حاسمة شاملة رائعة، خاضتها إرادة تونسية ضد الاستعمار والتخلف والظلام، ومن أجل الإنسان الحر، قادها حزب كونه الزعيم بورقيبة، فحقق أهدافه في الاستقلال التام والدولة الحديثة وفي تغيير عميق ومتواصل لمجتمعنا التونسي.
لقد استرعت انتباهي خاصة في هذا الكتاب المهمة التي تولاها محمد التريكي في خطة معتمد فوال في الجهات الغربية من الجمهورية، سواء في الكاف إبان حرب تحرير الجزائر أو في باجة لتعميم التعاضد أو في القصرين وقفصة محترما القطاعات الثلاثة. كان قبل ذلك موظفا ساميا في وزارة الداخلية، وراء مكتب فخم يتعامل مع الأوراق والتقارير، وإذا به يتحول إلى مسؤول جهوي يصارع التخلف الذهني، متصلا بالواقع اليومي ومتحاككا مع الناس في سعيهم وبؤسهم وكدحهم من جهة، ويجابه في نفس الوقت مشاكل المهاجرين والمجاهدين الجزائريين من جهة أخرى.
كان اللاجئون الأشقياء يعدون بالآلاف قرب الحدود، حتى أنهم في بعض المناطق أكثر من التونسيين. وكانت هناك أيضا مراكز للجيش الجزائري استقرت في ضيعات ومبان حكومية سلمت لهم، ويعتبرها المجاهدون بمثابة قواعد عسكرية محرمة على غيرهم. وهذا لا ينسجم مع موقف المسؤولين التونسيين في المستوى الوطني الذين يتمسكون بسيادة الدولة الناشئة. لكن محمد التريكي أخذ بالاعتبار وضعية أشقائنا. فقد فروا من ديارهم، تاركين أهلهم وأموالهم وأراضيهم، وحاملين معهم نفسية متصلبة ثائرة لا تخضع للنظام. فكان عليه الاهتداء في كل مرة إلى حل أو حيلة بين موقفين متناقضين.
أراد يوما وهو معتمد أن يدخل ثكنة تكوين الإطارات الجزائرية. لكنه يعلم أنها مغلقة على غير المقيمين فيها حتى وإن كانوا مسؤولين تونسيين. فركب سيارة «لندروفر»، وعوض أن يتجه إلى الثكنة من الطريق، توجه إليها من خلفها. فصعد الجبل، وتقدم في مسالك صعبة حتى أشرف على المركز. ولما قاربه ترصده بعض الجنود الجزائريين الحراس، فحاصروا السيارة محاولين إيقافها، لكنه واصل السير، والجنود تتكاثر من حوله مهددين إياه بإطلاق النار. وكان يجيب بلطف أنه يريد العبور إلى الطريق العام، لأنه توغل في الجبل، ولا مخرج منه إلا إذا اخترق كامل الثكنة. وهذا ما كان يريد.
وحدث أن طائرة عسكرية فرنسية اخترقت الحدود في مهمة استطلاع وتصوير على مستوى منخفض، فتلقفتها رشاشات الجيش التونسي ومدافعة، وشارك المجاهدون الجزائريون برميها بالقذائف. فسقطت الطائرة وألقى الطيار نفسه بمظلته، فأسرع الجزائريون للقبض عليه وحملوه إلى مركزهم ورفضوا في بادئ الأمر تسليمه إلى السلطة الجهوية، رغم أن الحكومة التونسية مسؤولة على حياته بمقتضى القوانين الدولية والقواعد الأساسية التي تستوجبها سيادة الدولة. وقد وصل الأمر إلى ازمة حقيقية بين التونسيين والجزائريين. وأمام إصرار الحكومة التونسية على موقفها، قبل الجيش الجزائري في آخر الأمر تسليم الطيار الفرنسي إلى المسؤولين التونسيين عن طريق الحكومة المؤقتة للثورة الجزائرية.
سقت هنا مثالين عن العلاقة بين المسؤولين الجهويين التونسيين وبين المجاهدين الجزائريين، وهما يكشفان تنوع الحالات التي تستدعي من الوالي تصرفا خاصا في كل حالة، مع حرصه الدائم على مساعدة إخواننا في كفاحهم ضد الاستعمار.
لكن التعامل مع الأشقاء لم يشغل الوالي عن مهمته الأساسية وهي التنمية الجهوية ومصارعة التخلف الذي يتمثل خاصة في تشبث عامة المواطنين بعادات ومعتقدات توارثوها منذ قرون.
التخلف، وما أدراك ما هو. يقول عنه محمد التريكي إنه «عصي على الأنظار، لا تدركه الأبصار وهو يدرك من يشاء وكيف يشاء، تسللا أو اجتياحا للعقول والبصائر والقلوب وحتى الأمعاء». لكن بلاغة محمد التريكي لا تخفي عنه مظاهر التخلف الواضحة أمامه في كل لحظة وحين. إنه يراها في المواطن الذي يرغب عن شغل بينما تظل أرضه الخصبة بورا لعدم اهتمامه بها، أو الذي يقبل العمل في حظائر مقاومة التخلف لكنه يأبي الانضباط ولا يدرك أن هذه الحظائر ترمي إلى تنمية الجهة للخروج بها تدريجيا من الفقر والفاقة.
كان التخلف بكل أنواعه واضحا أمام محمد التريكي الوالي، لكنه لم يشاهده بنفس المنظار عندما كان موظفا ساميا في وزارة الداخلية، أو عندما كان عضوا في لجنة التعليم في مؤتمر صفاقس سنة 1955. كان يكتفي في هذه اللجنة بالتوصية بتعميم التعليم ومجانيته، معتقدا أنه يكفي لتحقيق ذلك تخصيص نسبة كافية من ميزانية الدولة لفائدة التعليم. لم يكن محمد التريكي الحاضر في مؤتمر صفاقس يرى ما رآه محمد التريكي الوالي : معاناة المعلم الوحيد في مدرسة صغيرة نائية، لا يجد قريبا منه المتجر الذي يشتري منه المواد الضرورية لطعامه، أو أتعاب الطفل الصغير جدا الذي يقطع العديد من الكيلومترات للوصول من كوخه إلى مدرسته.
ويضيف الوالي كاتبا : « كنت أمشي مع زوجتي بالطريق ذات أمسية. وداهمنا المغرب بظلامه وشدة برده وصقيعه، فإذا بولد صغير عار من الثياب أو يكاد جالس القرفصاء تحت ضوء عمود كهرباء البلدية الباهت، منكبا على كراسه والقلم بيمينه، وهو يحاول ويجهد نفسه ليكتب، فلا يقدر على ذلك إلا بعسر شديد. وتبين بسؤاله واستدراجه للحديث أنه بصدد إتمام واجباته المدرسية، مستفيدا من إنارة الطريق التي لا يجدها في منزله».
وقبل هذا العناء، - عناء المعلم المرابط في مدرسة بنيت في مفترق مسالك ريفية، بعيدة كل البعد عن المساكن والمتاجر. وعناء الطفل الحريص على أداء فروضه المدرسية رغم فقدان النور الكهربائي في منزله، - وجدنا حماسا عجيبا وتجاوبا شعبيا منعشا، يجسمهما المواطن الجاهل الفقير حافي القدمين، وهو يتبرع بأجرة يوم، يضاف إليها عمله تطوعا يوما كاملا، مساهما بحماس واعتزاز في بناء مدرسة، حيث ستتعلم ابنته وأبناء جيرانه.
هذا بعض وأهم ما رسخ لي من قراءة كتاب محمد التريكي. فقد غاص بي في واقع المجتمع التونسي وفي إرادة الشعب للخروج من التخلف، ومتعني بأسلوب المؤلف الصافي وخاصة بقدرته على اقتناء الكلمة التي تعبر أصدق تعبير عن فكرته.
فلك الشكر يا قائدنا الكشفي."
مذكرات محمد التريكي
المعركة الحاسمة :الاستقلال وبناء الدولة الحديثة وإسناد السيادة للشعب
للأستاذ محمد التريكي
تقديم الأستاذ حامد الزغل
منشورات نيرفانا، جانفي 2021، 700 صفحة، 45 د
حامد الزغل
صدر حديثا - مذكرات محمد التريكي، الوالي السابق والقائد الكشفي: أسرار المعركة الحاسمة
- اكتب تعليق
- تعليق