أخبار - 2020.12.04

عَـــدلٌ مُــعَـطّــل و مَـجـلِـــس قَــضَـــاء مَـشِيـــد

عَـــدلٌ مُــعَـطّــل و مَـجـلِـــس قَــضَـــاء مَـشِيـــد

يقول عزّ و جلّ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ صدق الله العظيم

بقلم أسامة نور الدّين باسطي - من منّا لا يستحضر المقولة الشّهيرة لابن خَلدون (خَلدون، بفتح الخاء و ليس خُلدون بضمّها، لأنّ التّسميّة هي تصغير مشتقّ من اسم خَالد)، التّي ارتقت إلى منزلة الحكمة و القاعدة ‹العدل أساس العمران›، فلا شكّ أنّ أبرز معيار يُقاس به تطوّر الدّول و المجتمعات هو معيار العدل.. و إذا ما أردنا أن نتدرّج صعودا نحو القمّة و الرّقي أكثر فأكثر فقد نقول العدالة بمعيّة العدل، فقد يخلط كثيرون بين مفهومي العدل و العدالة، حيث أنّ العدل هو الهدف الذّي يرمي القانون إلى تحقيقه، و إن كان العدل و العدالة يشتركان في أنّهما يقومان على مبدأ المساواة فإنّهما يختلفان من حيث نطاق و طبيعة هذه المساواة، فالعدل يقوم على فكرة المساواة بصفة مجرّدة تهتمّ بالوضع العام على إطلاقه دون اعتبار التّخصيص في علاقة باختلاف و تباين الظّروف الواقعيّة للنّاس... في حين أنّ العدالة تقوم على فكرة المساواة الواقعيّة التّي ترتكز على التّماثل في الأحكام وفق الحالات المعنيّة بها، و من هنا نفهم أنّ العدل يقوم على المساواة التّي هدفها تطبيق القانون بين جميع الأفراد دون تمييز، في حين أنّ العدالة تقوم على المساواة التّي تبلغ درجة الإنصاف، و هذه الجدليّة طُرحت منذ القدم مع كبار الفلاسفة لعلّ أبرزهم " أرسطو "... سنسوق هنا مثالا تطبيقيّا للفرق بين العدل و العدالة، لنفترض أنّ زيدا و عمرو قد ارتكبا نفس الفعل الإجراميّ المتعلّق بإحدى الجرائم الماليّة التّي يمكن فيها إجراء صلح، إلاّ أنّ زيدا ذا مال بحيث أبرم الصّلح مع الجهة المعنيّة و دفع ما تَقرّر عليه دفعه و مضى في حال سبيله... غير أنّ عمرو لا يملك من المال عدا ما يسدّ به رمقه، بحيث لم يتمكّن من إجراء الصّلح فحُوكِم بالسّجن... هنا في نظر القانون قد تحقّق العدل أمّا من منظور آخر فقد غابت العدالة التّي تقتضي الإنصاف و الذّي لم يتحقّق في الصّورة الواردة أعلاه، مثال آخر نسوقه و هو صورة من يسرق رغيف خبز أو علبة "تونة" لسدّ الرّمق من فرط الجوع، كما حصل مع أحدهم في بلدنا مؤخّرا فيُحاكم و يُقضى في حقّه بالسّجن بستّة أشهر نافذة، في حين أنّ من يتورّط في سرقة أموال طائلة من المال العام في إطار ما يُعرف بالفساد المالي.. قد يجري صلحا مع الدّولة و يدفع ما تقرّر عليه دفعه و لا يُسجن و لو ليوم واحد... هذا هو الفرق بين العدل و العدالة أعزّائي القرّاء .

فلا يخفى على أحد ما تعيشه المنظومة القضائيّة التّونسيّة اليوم من تردّ و تعطّل بلغ حدّ التوقّف الكلّي لمرفق العدل في البلاد، بناء على إضراب السّادة القضاة الذّي تواصل لأكثر من أسبوعين و المُقرّر مبدئيّا أن ينتهي بانتهاء نهار اليوم الجمعة 04 ديسمبر 2020، هذا إن لم يطرأ تغيير ما في الموقف... و عليه فقد تعطّلت مصالح المتقاضين بصفة غير مسبوقة تقريبا، فمنهم من ظلّ قابعا بالسّجن بناء على مجرّد اعتراض على حكم غيابي و منهم من ظلّ موقوفا في انتظار المثول أمام المحكمة، و منهم من تعذّر عليه الحصول على بعض الوثائق أو استصدار بعض الأحكام المتعلّقة بمسائل حياتيّة حيويّة كالحالة المدنيّة و غيرها... فمركبة القضاء معطّلة تماما، و ممّا زاد في تعكّر الأوضاع دخول أعوان و إطارات العدليّة في إضراب مفتوح، فحتّى لمّا قرّر السّادة القضاة استثناء بعض الأعمال القضائيّة من الإضراب و هي: بطاقات الزّيارة و مطالب الإفراج و القضايا الإرهابيّة و قضايا الفساد المالي، فلم يتسنّى لهم النّظر فيها بحكم إضراب كتبة المحاكم و امتناعهم عن القيام بأيّ عمل كان... و حتّى و إن عاد القضاة للعمل بداية من الغد بحكم انتهاء مدّة الإضراب فإنّهم لن يستطيعوا القيام بمهامّهم نظرا لأنّ الأمر متوقّف على عودة الكتبة...

إنّ هذا الواقع الرّاهن ليس إلاّ نتاجا حتميّا للمسير الأعرج الذّي دأب القضاء على السّير به لعقود خلت، و لسائل أن يسأل عن من يتحمّل مسؤوليّة ذلك ؟؟ الإجابة ليست بالأمر الصّعب فالدّولة بما هي السّاسة المتحكّمون في كلّ شيء من ناحية و بعض أهل القضاء من ناحية أخرى، هم من يتحمّلون المسئوليّة الكاملة حيال ما آلت إليه أوضاع المؤسّسة القضائيّة خصوصا و المنظومة القضائيّة عموما... فهؤلاء لا يرضون أن يكون القضاء مستقلاّ بصفة فعليّة و قطعيّة، ذلك أنّ استقلال القضاء يمسّ من مصالحهم و يمنعهم من تنفيذ أجنداتهم الرّخيصة ... فتدخّل السّلطة التّنفيذيّة و تحكّمها في بعض مفاصل القضاء، و آلية التّعيين اللّعينة التّي تترك المجال مفتوحا للتحكّم و التّدخّل، مثّلت الحبل الملفوف حول عنق القضاء، فكلّما أراد التّحرّر بالاستقلاليّة و التخلّص من القيد، سحبوا الحبل فاشتدّ اختناقه... و ظلّ القضاء يتخبّط في هذه الدّوامة اللاّمتناهية، فحتّى مع إحداث المجلس الأعلى للقضاء الذّي خلناه المنفذ و حبل النّجاة فلم يتغيّر المشهد كثيرا... و ظلّت التّجاذبات السّياسيّة متحكّمة في المشهد... أضف إلى ذلك تورّط بعض السّادة القضاة إمّا في الاصطفاف السّياسي الذّي يضرب القضاء في مقتل، أو في قضايا فساد بمختلف أشكاله.. و هو ما زاد في تعكير الأجواء و ساهم بصفة فعّالة في تأزّم الأوضاع أكثر فأكثر... لكنّ الأمر لا يقف هنا بل يمتدّ إلى مناحي أخرى، فالدّولة لا توفّر الاعتمادات اللاّزمة و الكفيلة بالنّهوض بالمنظومة القضائيّة، فلا البِنية التّحتيّة للمحاكم أو لمختلف المؤسّسات القضائيّة الأخرى، تدلّ على حسن سير هذا المرفق و لا تُبشّر بالخير البتّة، هذا بالإضافة إلى قلّة الموارد البشريّة في علاقة بعدد القضاة و كتبة المحاكم، فليس من العدل و لا العدالة في شيء أن يتولّى قاض واحد النّظر في جبل من الملفّات و أن يفصل فيها في حيز زمنيّ قصير... فلا تُحدّثني عن النّتائج حينها، هذا دون الخوض في مدى أهليّة بعض السّادة القضاة من ناحية الكفاءة و هو ما يدعو إلى العمل على تجاوز هذه  الإشكاليّة، أيضا كان لزاما على الدّولة ممثّلة في وزارة الماليّة من جهة و وزارة العدل من جهة ثانية، التّرفيع في عدد الخطط المفتوحة للتّناظر بعنوان انتداب ملحقين قضائيّين سيما و أنّ خرّيجي الحقوق يُعدّون بالآلاف... كذلك تطوير و تعزيز آلية الانتداب بالهيكل القضائي، حيث يمكن فسح المجال للحاصلين على شهادة الدّكتوراه في القانون للالتحاق بالمؤسّسة القضائيّة وفق شروط معيّنة مع إخضاعهم لتأهيل تكوينيّ معيّن... و هنا نضمن مسألة الكفاءة بحكم رفعة المستوى التّعليمي إضافة إلى التّأهيل، بما يساهم في حلّ إشكاليّة الدّكاترة العاطلين من ناحية و يعزّز الموارد البشريّة للسّلك القضائي حيث نرفع من مردوديّة القطاع و جودة مخرجاته... و يبقى السّؤال مطروحا ههنا حول مآل الهبات و الأموال التّي تلقّتها الدّولة بعنوان تعزيز و تطوير المنظومة القضائيّة و تدعيم استقلاليّة المؤسّسة القضائيّة ؟؟؟ فالنّهوض بالبِنية التّحتيّة للمحاكم و غيرها من المنشآت ذات العلاقة بمرفق العدل أمر واجب و مستعجل كذلك تحسين الظّروف الماديّة للقضاة من حيث التّرفيع في الأجر أمر حتميّ و جدّ حاسم في علاقة بتدعيم جانب الاستقلاليّة، هذا مع توفير إطار عام يوفّر إحاطة خاصّة تتلاءم مع خصوصيّة العمل القضائي و مكانة القاضي في المجتمع.

إنّ المنظومة القضائيّة كما هو معلوم لا تقتصر على السّادة القضاة فحسب بل تمتدّ إلى مهن أخرى ذات علاقة مباشرة بمرفق العدل، منها المحاماة، حيث من الواجب إيلاءها الأهميّة اللاّزمة، و لا بدّ من تدعيم هذا القطاع من النّاحية البشريّة أوّلا، عبر التّرفيع في عدد المنتمين للمحاماة من خلال رفع المظلمة و فسح المجال عن خرّيجي الحقوق من أصحاب شهادات الماجستير بحث نظام قديم، للتّرسيم بجدول المهنة الذّي حُرموا منه ظلما في ظروف تشوبها عدّة ملابسات، أيضا السّماح لحملة شهادة الدّكتوراه في القانون من التّرسيم الآلي بجدول المهنة، هذا مع ضرورة الخضوع إلى فترة تكوين معقولة... كما لا ننسى دور السّادة عدول التّنفيذ و السّادة عدول الإشهاد في هذا الإطار، و ممّا ساهم في تأزّم أوضاع المنظومة القضائيّة هو عدم فتح المناظرة المتعلّقة بالدّخول لهاتين المهنتين منذ سنوات، أيضا ضعف تمثيليّة السّادة العدول المنفّذين و عدم تشريك من يمثّل السّادة عدول الإشهاد بالمجلس الأعلى للقضاء، أمر يبعث على الحيرة و الاستغراب و لا يُنبئ بحسن سير أعمال و تنفيذ مهام هذا المجلس...

رجاء كلّ الرّجاء ارحموا الضّعفاء... فالمواطن البسيط يعاني الأمرّين و تنهال عليه المصائب و المحن من كلّ حدب و صوب، فلا تحرموه حقّ التّقاضي و لو بصفة وقتيّة، فالقضاء للشّعب كما الأوكسجين للإنسان إن انقطع لفترة قد يفقد حياته، فلا تقتلوا شعبكم يا أهل القضاء... رسالتكم و صلت و الشّعب قد ناصركم و تفهّم موقفكم و تضامن معكم.. آن الأوان للرّجوع للعمل و تغيير أشكال النّضال و الالتفاف مع الشّعب الذّي سيناصركم دون شرط أو قيد ... فلا تُخيّبوا رجاءه و أمله فيكم.

ختاما لا يسعنا إلاّ أن نطالب بضرورة إطلاق حوار وطني شامل خاصّ بإرساء منظومة قضائيّة متطوّرة تُلاءم متطلّبات العصر و مقتضيات العدل و العدالة، تؤسّس لقضاء مستقلّ استقلاليّة فعليّة قاطعة مع التّدخّل السّياسي و مقلّصة لتدخّل السّلطة التّنفيذيّة إلى أقصى الحدود، حتّى نستطيع تجنّب الخراب و الدّمار الذّي أشار له ابن خَلدون، حين قال ‹ العدل أساس العمران ›، فنقيض العمران هو الخراب و الدّمار و القفار.. فإن لم نؤسّس للعمران بإقامة العدل عبر إرساء منظومة قضائيّة متطوّرة تلبّي حاجيات منتسبيها و حاجيات المستفيدين من خدماتها، فإنّنا سنكون إزاء عدلٍ معطّل و مجلس قضاء مَشِيد.. فهو الخراب و الدّمار و القفار.. فهل هذا ما يرنو إليه البعض من المتمعّشين من الخراب و الدّمار في وطننا الجريح ؟؟؟ !!!

أسامة نور الدّين باسطي
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.