أخبار - 2020.11.16

عبد العزيز قاسم: في الذكرى السادسة والثمانين لوفاته زيارة جديدة لصاحب "إرادة الحياة"

عبد العزيز قاسم: في الذكرى السادسة والثمانين لوفاته زيارة جديدة لصاحب "إرادة الحياة"

بقلم عبد العزيز قاسم - ولد أبو القاسم الشابي في 24 فيفري 1909 بقرية الشابية من ولاية توزر وتوفي بتونس في المستشفى الإيطالي (الحبيب ثامر حاليا) بالمرض الذي ولد به أي تضخم القلب، فجر يوم 9 أكتوبر 1934. وبذلك يكون قد عاش 25 سنة و7 أشهر و13 يوما. أمّا فترة عطائه بحسب قصائده المؤرّخة فلم تتجاوز العشر سنوات وسبعة أشهر. قصيدته الأولى "الغزال الفاتن" غزلية تقليدية نظمها في 23 فيفري 1923 أي ليلة عيد ميلاده الرابع عشر. أمّا آخر ما نظم قصيدة بعنوان "فلسفة الثعبان المقدّس" بتاريخ 20 أوت 1934.

وما أن انتشر خبر وفاته حتّى عمّ الحزن كافّة الأوساط الأدبية بالعاصمة. وعلى سبيل المثال، هذا المرحوم نور الدين بن محمود المدير الأسبق للقسم العربي للإذاعة في الأربعينات وصاحب مجلّتي "الأفكار" و"الثريا" وجريدة "الأسبوع" يقول في كتابه "مذكّرات مبتورة" (السنباكت، تونس 2019):

"ذات صباح في شهر أكتوبر 1934 وأنا أصعد مدرج جمعية الأوقاف وأوقّع على ورقة الحضور خاطبني الأستاذ جلال الدين النقاش قائلا :  لقد مات أكبر شعرائنا، الشابّ أبو القاسم الشابي " ترحّمت عليه ولم أكن قد طالعت له شعرا مع أنّي كنت زميلا لأخيه بالمدرسة الصّادقية محمد الأمين الشابّي، فحدّثني الأستاذ النقاش عنه وأفاض وسلّمني بعض قصائد الفقيد طالعتها وطربت لتلاوتها وتألّمت لوفاته في سنّ مبكّرة ثمّ أخذت على نفسي عهدا أن أحيي ذكراه ما استطعت." وقد فعل إذ خصّص العدد الثاني من مجلة "الأفكار" لإحياء الذكرى الثانية لوفاة أبي القاسم الشابي التي احتُفِلَ بها في 13 أكتوبر 1936 بقصر الجمعيات (ابن رشيق حاليا). كما أنّ مجلة "الثريا" العريقة دأبت على نشر قصيدة من قصائد "أغاني الحياة" في كلّ عدد من أعدادها فساهمت في زيادة التعريف به وطنيا وعربيا.

توفّي الشابي ومخطوطة ديوانه إلى جانبه على فراش الموت "بين المسند والحشية". كان قد أتمّ إعدادها للنشر بالقاهرة، كعبة الأدب وباريس العرب حينذاك. لكنّ الخيط الرابط بينه وبين العاصمة المعزّية قد انقطع بوفاته.

لقد نذر الشابي نفسه للشعر وملأ الشعرُ كامل فضائه الوجداني والفكري باعتباره لغة علوية وفي ديوانه قصائد عدّة يناجي فيها الشعر ويعلن وجوده وفناءه فيه: "شعري"، "يا شعر"، "أغنية الشاعر"، "قلت للشعر"، "أحلام شاعر"، "قلب الشاعر".

لا نعرف الكثير عن انتماءات الشابي السياسية وهو الذي عاشت مراهقتُه تأسيس الحزب الحر الدستوري على يدي الشيخ عبد العزيز الثعالبي سنة 1920 ونما ورأى الشباب المدرسي والزيتوني ينخرطون أفواجا في الحركة الوطنية. ولدينا ما يدلّ على أنّه تعرَّف على بعض المناضلين السياسيين المرموقين الذين يكبرونه سنّا من أمثال الطاهر الحداد والطاهر صفر ومحيي الدين القليبي. ويعتقد الكثير أنّ هذه الصلات هي التي حرّكت فيه الحسّ الوطني بالمعنى السياسي. لذلك نجد في شعره قصائد ترمي إلى بثّ الوعي في الجماهير الغافية الغافلة.

ولقد اشتهرت عند الناس قصيدة بسيطة المعنى والمبنى نظمها في السادسة عشرة من عمره لاختيارها في المناهج التربوية هي "تونس الجميلة" وأقلّ ما يقال فيها إنّها، رغم حسن النية ونبل المشاعر، لا تمثّل عبقرية الشابي في شيء. وما أن بلغ الرابعة والعشرين حتّى خرج علينا بقصيدة ناضجة ركّزت شهرته عند القوّى الحداثية وألَّبتْ عليه الفئة الرجعية ممثّلة في بعض شيوخ الحيض ونواقض الوضوء، أعني قصيدة "إرادة الحياة" التي نظمها في 16 سبتمبر1933، وكانت الحركة الوطنية يومذاك تعيش مخاضا عسيرا لم يلبث أن أدّى إلى الانشقاق وظهور الحزب الدستوري الجديد. ولا ينبغي أنّ ننسى أن كلمة إرادة مصطلح سياسي جديد ولا أستبعد أن يكون المرحوم محمد المنصف المنستيري اقتبس من قصيدة الشابي عنوان جريدة "الإرادة"، لسان حال الحزب، إذ أسّسها في 8 جانفي 1934 أي بعد أقلّ من أربعة أشهر من صدور القصيدة.

"إرادة الحياة" تتضمّن أكثر من ستّين بيتا تستحقّ الشرح والتأويل إلاّ أنّ البيتين الأوّل والثاني طغيا على الكل فانتشرا كالنار في الهشيم:

إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بـدّ للـيل أن ينجــلي
ولا بـدّ للـقيد أن ينكسـر

سرُّ هذا الذيوع أنّهما جاءا في شكل حكمة وجودية وقاعدة بقاء في ظرف وطني مفصلي. النشيد الرسمي التونسي مصري الكلمات، ألّفه مصطفى صادق الرافعي، تتوْنَسَ باستبدال كلمة مصر بتونس مع تحريف في الميزان وإضافة بيتي الشابي المذكورين. وقبل أن تستدعيهما انتفاضة جانفي 1911 شعارا مركزيا للحراك، ظهر البيتان بالقاهرة في لافتات بعض المظاهرات المصرية في المرحلة الناصرية ثمّ عاودت ظهورها في الانتفاضة المصرية ضدّ حسني مبارك. ومنهما اشتقّ شعار "الشعب يريد" ولا أعتقد أنّ الشابي في قبره سعيد بهذا الاشتقاق ولا بما آل إليه الربيع العربي.

لقد حقّق البيتان خلود الشاعر على مستوى العالم العربي ويبقى إشكال يتمثّل في مفاهيم ثلاثة أحدها مادّي ملموس هو الشعب والثاني معنوي فلسفي هو الإرادة البشرية وثالثهما مبهم يستعصي عن الإدراك هو القدر.

وثارت ثائرة الفقهاء فكفَّروا الشاعر لأنّ القدر هو الله في مفهومهم ولأنّ الإرادة لله وحده. ولقد رأينا بعض بُلهاءِ الخليج ممّن تغنّوا بالثورجة كيف انحرفوا بالبيت إلى:

إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب "البشر"

كما شاع في شبكات التواصل الاجتماعي مشروع نشيد رسمي إسلاموي على نفس الوزن شوّهوا فيه البيت تشويها رخيصا. ويذكر نور الدين بن محمود في إطار جهوده لنشر ديوان أغاني الحياة، وكان ذلك في ذلك الزمان أمرا في منتهى الصعوبة، أنّه سعى مباشرة لدى عمّ الشاعر وكان قاضيا بتوزر من أجل المساعدة على نشر هذا الأثر الشعري المتميز فأجابه محتدّا "لن أنشر الكفر".  وفي شهادته عن مسيرة نورالدين بن محمود أكّد عز الدين مدني أنّه "هو الذي أحيا ذكرى أبي القاسم الشابي، وقد كانت ذكراه طافئة أو بالأحرى كانت شبه جمعيتية وسريّة، يوقد مشعلها ثلّة من أحبابه. فنور الدبن  بن محمود منحها البعد الكبير في الشعب، وقد وفّر لجمهور القّراء قصائد أبي القاسم، وأشهد أنّها كانت مفقودة. وأشهد أن عددا من مشائخ جامع الزيتونة لم يكونوا راضين عن قصيدة "إذا الشعب يوما أراد الحياة". وأشهد أن السلط الاستعمارية بواسطة أعوانها الموالين لها قد منعوا حتّى إلقاء "إذا الشعب يوما ..." وتوعّدوا الطلبة بالشرّ من يلقيها منهم! وفي جانفي سنة 2011 ‏سمعت أهل حزب النهضة يسبّون أبا القاسم ويشتمونه. ذلك هو الجهل الأسود القذر".

يقال اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضيّة. لكنّ الاختلاف بين الحداثة والتقليد، بين العقل والنقل، بين الذكاء والبلادة، كارثة حضارية مدمّرة. هؤلاء الناس، أدعياء العلم، أهل الحلّ والعقد، لا يفهمون للمصطلحات الأدبية ألفا ولا ياء. كيف نفسّر لهم أنّ كلمة "قدر" تستمدّ أبعادها من التراجيديا اليونانية ومن المنزلة البشرية كما جاءت في تصوّرات كبار المفكّرين منذ بدأ التصوّر خارج المنظومة الخرافية؟

وفي اعتقادي أنّ أبا القاسم الشابي القائل:

والشقيُّ الشقيُّ من كان مثلي
في حساسيتي ورقّةِ نفسي

أو في قوله:

سأعيش رغم الدّاء والأعداء
كالنسر فوق القمّة الشّماء
... من جاش بالوحي المقدّس قلبه
لم يحتفل بحجارة الفلتاء

قد حزّ في نفسه أن يكفِّرَهُ الجهلة المتزمّتون فتحدّاهم بصورة غير مباشرة في أكثر من قصيدة إذ شكّك في بعض يقينياتهم. ففي حين تكشف الديانات التوحيدية المبدأ والمنتهى بكامل الوضوح وتحت طائلة التكفير والخروج من الملّة، يقول الشابي في قصيدته "في ظلّ وادي الموت" التي نظمها في5 أفريل  1932:

نحن نمشي وحولنا هذه الأكوان تمشي لكن لأيّة غاية

نحن نشدو مع العصافير للشمس وهذا الربيع ينفخ نايه

نحن نتلو رواية الكون للموت ولكن ماذا ختام الرواية

هكذا قلت للرياح فقالت سل ضمير الوجود: كيف البداية؟

ومثل هذه الخروقات متواترة في الديوان، حتّى في رائعته "صلوات في هيكل الحب" (13  أكتوبر1931) التي نشرت في مجلّة أبولو المصرية فعرَّفتْ به مشرقا ومغربا. العنوان نفسه كفر بالنسبة إلى دواعش الزمان. والأنكى من ذلك فإنّه تجرّأ على عبادة امرأة ما هي آخر الأمر إلاّ وعاء جنسي ينكح ويغتصب ويباع ويشترى في سوق النخاسة منذ فجر الإسلام إلى دواعش الموصل وإدلب.

يقول:

يا ابنة النور إنّني أنا وحدي
من رأى فيك روعة المعبودِ
فدعيني أعيش في ظلّك العذ
ب وفي قرب حسنك المشهودِ
عيشة الناسك البتول يناجي الـ
ربّ في نشوة الذهول الشديدِ
فالإله العظيم لا يرجم العبـ
ـد إذا كان في جلال السجودِ

في 20 أوت 1934، قبيل وفاته بشهر وعشرين يوما، نظم الشاعر آخر قصائده بعنوان "فلسفة الثعبان المقدّس" وهي قصيدة يكتنفها بعض الغموض توّجَهَا الناشر بمقدّمة ربّما حوّلت وجهتها نحو سياسة القوى الاستعمارية التي تلتهم الهويّات المستضعفة واعدة إيّاها بان انصهارها وذوبانها في كيانها يمنحها الخلود عن طريق الفناء. والحقيقة أنّ القصيدة تحتمل تأويلا آخر ذا بعد ميثولوجي لاهوتي في حاجة إلى مزيد من التعمّق.

وإنهاء للتكفير عن طريق العنعنات والحوقلات الفارغة أعتقد أنّ المسألة سبق أن فضَّها رجلُ دين مثقّف مستنير هو قاضي قضاة الري أبو الحسن الجرجاني (933 - 1001) إذ قال الكلمة الفصل بهذا الصدد: "الدين بمعزل عن الشعر" أي لا دخل للفقهاء في الإبداع الأدبي (انظر كتابه الشهير، الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص 63). كما لا يفوتنا أن ننوّه بشيخ الإسلام الحنفي وصديق الشعراء، المرحوم الشيخ محمد المختار بن محمود (1904- 1974) الذي برّأ صديقه الشابي من الكفر منذ سنة 1936.

والمجد لأبي القاسم الشابي على الدوام.

عبد العزيز قاسم


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.