عبد المجيد الشعار - الانتخابات الاميريكية: ما أشبه الليلة بالبارحة!
بقلم عبد المجيد الشعار - حرب تكسير العضام التي يشنها الرئيس الاميريكي دونالد ترمب على منافسه الديمقراطي جو بايدن لم تحط أوزارها بعد، حتى وان قضي الامر-موضوعيا- لصالح بايدن في انتظار يوم الرابع عشر من ديسمبر القادم حين ينتخب أعضاء المجمع الانتخابي الرئيس السادس والاربعين للولايات المتحدة، اعتمادا على نتاءج الاقتراع في المجمع الانتخابي ولا على التصويت الشعبي.
أزمة قيم
صحيح ان الأرقام عصية عن التاويل، الا انها في هذه الحال، عرَّت "المستور" الذي طالما تلحفت به الديمقراطية الاميريكية ، ونحن نكاد نصاب اليوم بالذهول امام عمق الشرخ الكبير الذي أوقعته السلوكيات "السلطوية" للمرشح الجمهوري في أوساط الرأي العام الاميريكي الذي انقسم على نفسه، في فترة تاريخية فاصلة بين زمنين.
قد لا يختلف اثنان في ان العنوان الحقيقي للتغيير هو الاعتراف بالهزيمة المرحلية دون مناورة او استعلاء او تزييف، ولعل السمة الفارقة بين رونالد ترامب و جو بايدن تعود أساسا الى حزمة القيم التي تنحت الأسلوب والتفكير في شخصية الرجلين..
فهذا رئيس بلا مصداقية، يعيش في كوكب من صنعه، يمتهن التسويف بوقاحة ويمارس الاستعلاء للعلم والعقل وكذلك الاستغباء المفرط لقطاع كبير من مواطنيه وإعلامييه في ضرب غير مسبوق لإعمق وأرسخ مكونات الحضارة الاميريكية التي تنزل فضيلة الصدق والدفاع عن الحقيقة في قمة التعاطي الاخلاقي والقيمي لمؤسسات الجمهورية، ولعل ذلك ما دفع بأحد اكثر الصحفيين الأميريكيين جرأة ومصداقية وهو "بوب وودورد" ان يُتهم في كتابه الأخير (The Rage) رونالد ترمب، بإخفائه حقيقة وباء كورونا عن الأميريكيين لأسباب انتخابية وما تبع ذلك من مناورات لتفادي أية مسؤولية تجاه مواطنيه.
اكذب مرارا حتى نصدقك!
لعنة الكذب في سنوات دونالد ترمب الاربعة أصبحت تقليدا اعتاده الرئيس الاميريكي ، كما جاء في مقال "لتوماس فريدمان" المتحصل على جائزة "بوليتيزر" للصحافة في جريدة "نيويورك تايمز": " انا لست قادرًا على فهم هذا الجموح الجنوني ولكن وجب التصدي له وبسرعة، لان الشعب الذي تحجب عنه الحقيقة، لايمكنه إيقاع الهزيمة بالوباء او الدفاع عن الدستور وطي الصفحة بعد ولاية رئيس ارعن، لذلك فان النضال من اجل الحقيقة هو طريقنا لاستعادة دستورنا وديمقراطيتنا".
ومن المفارقات، ان نظرية الخداع هذه، كادت ان تنجح، فدونالد ترمب استطاع ان يفحم أنصاره بانه يمكنك ان تكذب مرارا كل يوم، بل وفِي كل دقيقة، وان لا تكسب رهان السباق الرئاسي فقط، بل وان تظفر او تكاد، بتذكرة العودة الى المكتب البيضاوي!
انقسم الشعب الاميريكي على نفسه بحصيلة متقاربة من الأصوات لكلا المرشحين خلفت شرخا كبيرا يتحتم على الرئيس الديمقراطي ردمه، وبسرعة، اذ أن "موجة المحافظة الشعبية" (Le conservatisme populiste) التي قادها ترامب خلال ولايته المنقضية، تجاوزت اليوم شخصيته وأسلوبه ولغته، لتصبح حسب عتاة خصومه نمطا شعبويا متعدد الأعراق ومتجذرا في أوساط الطبقة الشعبية التي لايتوفر لديها تحصيل معرفي كاف وتأخذها النزعة الفطرية للسقوط في احضان الجماعات اليمينية المتطرفة التي سرعان ما خرجت في مظاهرات وهي تحمل السلاح - والأصبع على الزناد- مرددة " نحن هنا لحماية أنفسنا ودفاعا عن الرئيس"!
لقد فضحت هذه الانتخابات مدى استشراء أزمة القيم في السياسة الاميريكية ومدى تأثيرها على قضايا مشتعلة مرتبطة بالعنصرية والأمن القومي خاصة وان ترمب كان دائما مواليا للعنصرية البيضاء ومشكّكا او مترددا في تفهم أوسع لحقوق الأقليات. لهذه الأسباب تعتبر انتخابات 2020 هي الاخطر على قيم الرئاسة ومصداقيتها ،الشيء الذي جعل بعض الأميريكيين تساورهم الشكوك والمخاوف من نشوء مستبد لا يحب ان يساءل عن " عدم الفصل بين الشأن العام ومصالحه الفردية وبين الاخلاق والصلاحيات وبين التقاليد والاستثناءات " ، وتلك هي أزمة قد تكون هي الاصعب في تاريخ الولايات المتحدة منذ الحرب الأهلية في أواسط القرن التاسع عشر.
ما أشبه الليلة بالبارحة!
لقد جاء صعود بايدن، اعلانا لرفض الأميريكيين لهذه الخلفية اليمينية التي أدارت ظهرها لقيم الديمقراطية وأخلاقها السائدة... وخلال هذه الأيام، عادت بي الذاكرة الى المرشح الديمقراطي جيمي كارتر وقد سطع نجمه في حلبة ماديسون سكواير قاردن بنيويورك حيث كنت حاظرا في صائفة 1976... كان فوز كارتر بالرئاسة آنذاك، درسا أراد من خلاله الأميركييون معاقبة الجمهوري ريتشارد نيكسون، بسبب فضيحة "واترقات" وما تمثله من سقوط للقيم الاخلاقية والديمقراطية.
وهكذا، بعد رئيس تعوزه المصداقية، يميل قي أسلوبه الى السوقية والتهجم على الآخرين، ها ان الانتخابات الجديدة تثبت حاجة أمريكا الى رئيس "يعيد بناء الجسور وليس الجدران" كما جاء على لسان عمدة لندن. اليوم وامام تواصل تلكؤ ترامب في الاعتراف بهزيمته ومحاولاته ارباك القيادة الديمقراطية، يعيد جو بايدن، الأكبر سنا وحكمة، على اسماع أصدقاءه، ان الصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة، في إشارة واضحة لا تخلو من الحقيقة لمنافسه الجمهوري!
الثوابت والمتغيرات في المرحلة القادمة
لاشك ان جو بايدن يقف على طرفي نقيض من مواقف سابقه وشخصيته المرنة ستساعده على تجاوز العقبات وذلك عامل مهم على مستوى إدارة المؤسسات والكونغرس ومجلس الشيوخ والشارع الاميريكي... هو يأتي من اليسار الوسطي الا انه سيستفيد من صداقاته العريقة في مجلس الشيوخ المعارض وسيستعين ببعض أصدقاءه من الجمهوريين داخل الغرفتين وفِي أوساط المطبخ السياسي في واشنطن.
هناك أيضا من يرى ان وراء جو بايدن ضَل باراك اوباما وكان الرجل جاء من تحت عباءته، وفِي هذا القول كثير من الصحة والموضوعية، اذ ان الرجلان تعاملا معا منذ سنة 2008 وخلال الحملة الانتخابية التي أتت بهما الى البيت الأبيض ولا شك ان بصمات اوباما موجودة من خلال مختلف مراحل الحملة الديمقراطية وان جو بايدن استفاد أيضا من القدرة التنظيمية لباراك اوباما وحسه المبكر في حشد المعركة حول وباء كورونا والتقيد بالتصويت البريدي.
التحديات الداخلية و"اعادة الروح " لأميريكا
الشعار الذي رفعه بايدن هو اعادة الروح لأميريكا بأقلياتها المتعددة وتشتت هوياتها في بلد لا يتكلم فيه ربع سكانه اللغة الانكليزية! ومن المهم بالنسبة لبايدن ان يدرك الرأي العام خلال الأسابيع القادمة ان الولايات المتحدة هي دولة قوانين ومؤسسات أولا وآخرا وان النظام الاميريكي يجب ان يكون اكثر عدلا من خلال ارساء نظام قضائي اكثر انصافا ونشر المضلة الاجتماعية والصحية على اكبر عدد من الأميريكيين الضعفاء ،تواصلا مع مشروع "Obama- care " الذي ابتعد عنه ترامب، وهنا يلتقي جو بايدن الذي كان نائبا للرئيس الأسود باراك اوباما، مع نائبته كاميلا هاريس، ذات الأصول العرقية الهندية والجاميكية، في وضع سياسة اقتصادية تعيد الاعتبار لمبدأ العدالة الاجتماعية، برزت اهم مؤشراتها الاولى في رمزية توفير اللقاح ضد كورونا مجانا، الى كل الأميريكيين.
نحو اعادة ترميم السياسة الخارجية المتصدعة
لن يكون الرئيس المنتخب مطلق اليدين فيما يخص كبريات القضايا الدولية خاصة في غياب أغلبية ديمقراطية مريحة في مجلس الشيوخ فيما يرى اخرون ان الوعي السياسي الجمعي الاميريكي بدا يتشكل حول قيم جديدة تنزع الى خلق مناخ مغاير من التناغم ، يبدد الشكوك الأوروبية التي عانت منها أوروبا فيما يخص مركزية العلاقات والتحالفات الأطلسية، كما سيعمل بايدن على اعادة التوازن والثقة في العلاقات الخارجية سواء تعلق الامر بالعودة الى اتفاق باريس حول المناخ وسد الشغور الاميريكي في منظمة الصحة العالمية الى جانب إلغاء مرسوم ترمب حول الهجرة (جانفي-2018) الذي يمنع دخول مواطني ثمان دول إسلامية الى التراب الاميريكي، متعهدا برفع القيود عن اللجوء السياسي.
وتبدو سياسة بايدن تجاه روسيا والصين في ظاهرها إيجابية الا انها ستعمل جاهدة بنفس المعايير والمصالح دافعة نحو المزيد من الاحتواء للتوسع الصيني والروسي في مجالات التسلّح والتجارة والتكنولوجيات الحديثة وقد لا يخف التوتر بين ببكين وواشنطن بخصوص قضية بحر جنوب الصين وفِي مضيق تايوان بسبب دعم السياسات الاميريكية السابقة لرئيسة تيوان التي تتهمها الصين بنزعة انفصالية الى جانب اتهامات اخرى من واشنطن لبيكين فيما يتعلق بالأقليات المسلمة في اقليم "جنجان" الصيني.
ايران
داب الايرانيون على توخي الحذر من الديمقراطيين الذين فرضوا مفهوم العقوبات على طهران من خلال تقديم اربع قرارات عقابية الى مجلس الأمن خلال فترة اوباما ، ومن المتوقع ان لاتحدث أية تهدئة حقيقية من الجانبين بالرغم من ارتياح ايران لغياب دونالد ترمب عن الساحة وهي التي اكتفت بالقول ،عن طريق وزير خارجيتها،انها ملتزمة بالاتفاق النووي ،في حين يشعر الشارع الإيراني بنوع من الانفراج مرده تأثير نفسي لدى الطبقة المتوسطة بان اقتصاد البلاد سيعود الى التعافي.
وماذا عن العرب؟
تاريخيا، كان العرب الأميركييون على مدى اجيال متلاحقة موالين للحزب الجمهوري وداعمين للقوي المحافظة الى ان جاء ترمب فانفضت عنه أصوات العرب الأمريكيين نظرا لتصاعد الموجة الاميريكية اليمينية المتطرفة.
وبالرغم من كل ذلك ، وبعد انتصار الديمقراطيين، لن يكون الاختلاف واسعا مع ما دابت عليه الادارة السابقة في التعامل مع الملفات الحارقة في منطقة الشرق الأوسط، وتبقى الوعود الصادرة من هنا وهناك مجرد نوايا لا تلزم احدا، خاصة وان الصياغة الجديدة لمستقبل العلاقات العربية الاميريكية لن تتضح ملامحها قبل اختيار الفريق الذي سيعمل مع الرئيس بايدن، ومن المنتظر، في كل الأحوال، ان تحافظ الادارة الجديدة على الدول المؤثرة في المنطقة مثل مصر والسعودية والإمارات وقطر وان تستمر علاقاتها كما كانت عليه، على مدى عقود ماضية، بما في ذلك "صفقات التطبيع" المستعجلة، وما سيتغير هو كيفية التعامل مع الاسلام السياسي في المنطقة، وقد اكتشفوا مدى سلبية هذا الاتجاه وعدم جدوى الرهان عليه مستقبلا، كما سينظرون بعين الريبة والتوجس الى تمدد الجماعات الإرهابية المتطرفة في دائرة النزاعات الإقليمية، وقد يكون "حزب الله" وليس لبنان، على الخارطة كأحد الأهداف القادمة في نطاق احتواء الهيمنة الإيرانية في المنطقة.
وتبقى القضية الفلسطينية موضوع التقاطع بين كل الإدارات السابقة التي تتفق في جوهرها على مبدأ الثبات الاستراتيجي الاميريكي لما يخدم مصالح اسرائيل، والفلسطينيون ليسوا سذجا، فهم يدركون تلك الحقائق ولكن لديهم اليوم نوع من الارتياح الدفين لسقوط ترمب الذي وصل الى حد محاصرتهم ماليا وإنسانيا وسياسيا في سباق محموم لدفع آلة التطبيع عبر سياسة الصفقات. اما ابو مازن فهو يتطلع للانطلاق مجددا بعملية السلام من خلال ما يتوسمه من بوادر " ظاهرية" لدى الديمقراطيين في مواقفهم المناهضة للتوسع الاستيطاني وتغليب حل الدولتين. ويرى المتابعون للشان الاسرائيلي ان تردد نتانياهو وهو المقرب من دائرة ترامب، املا في ان يغدق عليه هذا الأخير، فيما تبقى من الأيام، مزيدا من العطايا ومن ضم الاراضي الفلسطينية.
تونس: الترقب سيد الموقف!
من المنتظر ان يبقى الدعم لتونس- ما بعد الثورة، قائما في سياق ثوابت "سياسة الدولة" الاميريكية، تحفيزا على الانتقال الديمقراطي في احد اهم " مخابر الربيع العربي" الذي من خلاله يتطلع الديمقراطيون الى تشكيل خريطة " جبو-سياسية" لشرق اوسط جديد سرعان ما تشضى في اتجاهات لاتعد... ولعل الخطوة العاجلة لمد جسور التواصل مع الادارة الجديدة في واشنطن هي الإسراع باجراءات تسلم مهام السفير التونسي الجديد في واشنطن قبل دخول بايدن البيت الأبيض، في العشرين من شهر جانفي القادم، وقد يكون ذلك صعبا، ويتواصل الشغور...
ترامب والإعلام: علاقة حب وكراهية!
بخروج ترامب من دائرة الضوء، ستفقد صورة " المغرد الدائم"، الكثير من وهجها، وسيكون ذلك فرصة لملايين أعداءه ان يتنفسوا الصعداء ويلتقطوا انفاسهم! حتى وان كان ذلك لا يخدم "تويتر " والقنوات التلفزيونية الاميريكية التي تجد في تغريداته مادة دسمة لتأثيث برامجها الإخبارية... ترمب يعشق وسائل الاعلام وهي تبادله نفس "طبيعة" الود، في علاقة حب وكراهية يستفيد منها الطرفان ويتمنيان ان لا ينقطع حبل الود هذا، بينهما.
ومهما يكن من امر فان الاعلام الاميريكي يبقى لاعبا أساسيا في مختلف الحملات الانتخابية الاميريكية وهو فعلا سلطة رابعة قائمة بذاتها يعلن النتائج والفائز الاول حسب تقاليد عريقة تعود الى اكثر من أربعين عاما، وقد برزت من جديد شراسة هذا الاعلام في التصدي للمناورات والمغالطات الانتخابية حين قطعت معضم القنوات التلفزية الكبرى بث الخطاب المباشر من البيت الأبيض والذي سارع فيه المرشح الجمهوري بإعلان فوزه المبكر.
لقد كان جليا، ان معضم وسائل الاعلام الكبرى الاميريكية كانت في حالة اصطفاف مع بايدن وعداء سافر لترمب مما أعطى الانطباع عن إعلام منحاز ومتحامل، والصحيح، ان الحياد في الاعلام وهم قديم، ينتهي عند نقل الخبر بدقة وموضوعية ومهنية وكما ورد من مصادره،..بعد ذلك، يجيء الرأي ، مستقلا ( اَي غير محايد ) لانه، موضوعيا، يعكس فكرا ووجهة نظر سائدة لمن يتبنون تلك الفكرة او ذلك الرأي ، ولهذه الوسائل الإعلامية ، ونجن نتحدث عن أمريكا، القدرة على اعادة بناء الواقع وتطويعه في سياق ترشيد (او تضليل) الجماهير التي وصفها المفكر السياسي الاميريكي "نعوم تشومسكي " بـ "القطيع الضال"، الباحث دوما عن الحقيقة!
عبد المجيد الشعار
خبير إعلامي اممي
- اكتب تعليق
- تعليق