أخبار - 2020.11.12

أديب زيتوني على عتبة الحداثة: عبـد العزيـــز المسعودي (1875– 1913)

أديب زيتوني على عتبة الحداثة: عبـد العزيـــز المسعودي (1875– 1913) المدينة العتيقة، جامع الزيتونة،خروج أساتذة وطلبة بدايات القرن الماضي

بقلم محمّد العزيز ابن عاشور - لا يخفى أنّ دخول الجيوش الفرنسيّة إلى تونس في سنة 1881 وانتصاب نظام الحماية كانا بمثابة الصّدمة في نفوس التّونسيّين مع الشّعور بالاعتداء على كرامتهم وضياع ما تبقّي من سيادة دولتهم. غير أنّ هذا المنعطف في تاريخ البلاد وَاكَبتهُ أنماط جديدة أدخلتها الثّقافة الفرنسيّة على المجتمع المحلّي والفكر التّونسي العربي الإسلامي. وقد كان لتلك الأنماط الأثر الواضح في أذهان الشّباب المثقّف الأمر الذي جعله يقارن بين الأساليب والسّلوك التّقليديّة في المجالين الاجتماعي والمعرفي والأنماط العصريّة التي أخذت تنتشر تدريجيّا، خصوصا منذ إحداث المدينة الأوروبيّة المجاورة للمدينة العتيقة وظهور المؤسّسات التّربويّة والمعرفيّة والثّقافيّة والتّرفيهيّة الحديثة. وفي فجر القرن العشرين برز في وسط طلبة جامع الزّيتونة شُبّان متألّقون أمثال محمّد الطّاهر ابن عاشور وأصدقائه الخضر بن حسين والمقداد الورتتاني وعمر الرياحي وعبد العزيز المسعودي.

شدّ هذا الأخير اهتمامنا بفضل المذكّرات (أو السّيرة الذاتيّة) حول نشأته وحياته وميولاته وأدبه. و سمى عمله «النّشأة الأولى» (إشارة إلى آيتين من سورتي العنكبوت والواقعة) وقد دوّنها في كرّاس بخطّ يده محفوظ في مكتبتنا.

يذكر لنا عبد العزيز المسعودي أنّه ولد بتونس العاصمة سنة 1875 في أسرة مثقّفة كان جدّه محمّد من الشّيوخ الكتبة بديوان الإنشاء بالدّولة الحسينيّة وينحدر هذا الشّيخ من عائلة الوليّ الصّالح سيدي أبي بكر المعروفة زاويته في   تبرسق بالشمال الغربي للقطر التونسي. أمّا والد عبد العزيــــز فهو الكاتب بديوان الإنشاء أيضا والمؤرّخ صاحب كتاب «الخلاصة النّقيّة في أمراء أفريقيّة» الشّيخ الباجــي المسعــــودي.

زاول عبد العزيز دراسته الابتدائية في الكتّاب ثمّ بفرع المدرسة الصّادقيّة حيث تعلّم الفرنسيّة بالإضافة إلى العربية ثمّ التحق بالتّعليم الزّيتوني وعمره وقتئذ 17 سنة. أخذ هناك على مجموعة من المدرّسين ترجم لهم في مذّكراته وهم المكّي بن عزّوز ومصطفى بن خليل وشيخ الشّيوخ سالم بوحاجب (وصفه بفيلسوف الإسلام وأُعجوبة هذا الزّمان الأُوام) وإسماعيل الصفايحي ومحمّد جعيط وصالح الشريف ومحمّد النّخلي والطّاهر الرياحي ومصطفى رضوان وعمر بن عاشور.

كما لازم عبد العزيز دراسة العلوم العصريّة في رحاب الجمعية الخلدونية التي تأسست في 1896 لمعاضدة الطّلبة الزيّتونيين في سعيهم لكسب المعارف الحديثة والعلوم العصريّة التّي كانت غير مدرجة في برامج التّعليم بجامع الزّيتونة. وبالرّغم من نجابته فقد أخذ الشّاب عبد العزيز يقضي أوقات غير قليلة في اللّهو واللاّمبالاة ومخالطة النساء الحسان اللواتي وصفهنّ بـ«صائدات القلب» من تونسيّات ذوات الأسماء المستعارة «كنقش البلار» و«نور العين» والأوروبيّات العاملات في متاجر الأحياء العصريّة، فيذكر لنا في هذا الصّدد الأبيات التي جادت بها قريحة الطالب عمر الرياحي رفيقه في التّجوال والمغازلة إذ يقول:

«كلفت بخود فرنجيّة
                   بزيّ أوروبا وظرف العرب
أتت تتهادى بقامتها
                   كغصن عليه النّسيم يهب
فيا ما أميلحها تبسّمت
                    بثغر له شنب وحبب
تقول بلطف كُمَنْ تَليفُو   سفا
                    إبين  تجور(*)  أنعم المحبّ»

Comment allez-vous?, ça va bien toujours?s

أمّا عبد العزيز فقد ألّف رسالة في المضمار سمّاها «الفلسفة العشقية» لم يتردّد في وصف نفسه فيها بـ«أستاذ المحبّة وشيخ الغرام» كما يخبرنا بأنّه كتب مقامة أدبيّة في «مدح العشق والمجون». ثمّ بعد مدّة  - وعملا بنصائح صديقه محمّد الطّاهر ابن عاشور - ، تخلّى عن تلك المرحلة مـــن حياته خشية ضـــياع العمــر:

«نعم توهّمت قد كان موجبه
                   حبّ الخلاعة واللّذات والأدب
                   (...)
إلى متّى اللّهو والأيّام تسرع بـي
                    كأنّما ليس لي في المجد من أدب
ورمت في الدّهر أنسا ما ظفرت به
                    إنّ الزّمان لمطبوع على التّعب»

ومع ذ لك, يلاحظ المسعودي إنّ حياته السّابقة – بالرغم من طابعها الوهمي- لم تكن خالية من جوانب ايجابيّة في مجال الفنون والآداب والشّعر والموسيقى. وإضافة إلى تعلّقه بالتّعبيرات الثّقافيّة والفنيّة التّقليديّة فقد كان ولوعًا بفنون غير معهودة في الأوساط التّونسيّة كفنّ الرّسم العصري والتّصوير الشّمسي حتّى بلغ فيهما المستوى الحسن وكتب فيهما رسالة (غاية التحرير في تحقيق التصوير) أوضح فيها أنّ الرسم لا يتضارب مع قواعد الشّريعة. فكتب صفاحات يشرح فيها للقارئ طريقة استعمال الرّيشة وآلة التّصوير"آلة الفوتوغرافيا». وقد أعجب عبد العزيز غاية الإعجاب بالآلات العصريّة الأخرى وبخاصّة آلة التّسجيل (phonographe) ويذكر لنا ما قاله أستاذه سالم بوحاجب بعد أن استمع إلى تسجيل درسه بالآلة:

«لكم يا سادتي أهدي سلامي
                    وأبدي صنع سرّ ذي اكتتام
فهل قبلي رأيتم أو سمعتم
                    جمادًا يستَميلُك بالكلام»

ولمّا عاد إلى سيرته الأصليّة واستأنف دراسته بجدّ ومثابرة اجتاز عبد العزيز امتحان التّطويع سنة 1901.وقد ترك لنا وصفا شيّقا ومفيدا عن الاستعداد لنيل تلك الشّهادة الرّفيعة الشأن ثمّ دخوله الامتحان. قال: «وهذا الامتحان يقع بدار الباي وهي الآن مقرّ الحكومة التّونسيّة السّياسيّة وبها قسم معدّ لذلك. ولمّا حلّ اليوم الذي عُين لكتب المقالة زرت القدوة العالم العارف الشّيخ سيدي علي بن زياد وكانت معي إذّاك أبيات كتبتها بنيّة طلب الإعانة من اللّه تعالى فسردتها عند الضّريح، (...) وذهبت إلى دار الباي (...) فجاء شيخ الإسلام (...) وبقيّة النظّار وبعد محاورة في اختيار ما يعين من أبواب الفقه للكتب فيه استقرّ رأيهم على كتب مقالة في الاعتكاف». ويضيف قائلا: «وأخذت على المقالة من الأعداد عشرين فقط لمعاكسة القاضي المالكي وقوله إنّ النّظم (الذي كتبه المسعودي في مقالته) يحطّ من المقالة إذ لعلّي  مستحضره من قبل» وبعد نجاحه التام بالتفوق في مرحلة الشّفاهي انتظمت الاحتفالات الودادية تكريما لعبد العزيز المسعودي وقد كانت الأوضاع المتردّية للتّعليم  الإسلامي ومعاناة الطّلبة من جراء الجمود والتّقليد وعدم الإنصاف من قبل الكثير من الشّيوخ الأساتذة والنُظّار, مناسبة للتعبير عن غضب الطلبة واستيائهم  أمام تدهور التعليم الإسلامي وأساليبه و إدارة شؤونه.

فقد أشار الشّاب محمّد الطّاهر ابن عاشور في كلمته أثناء المأدبة التي أقامها على شرف صديقه المسعودي, إلى المظالم داخل المؤسّسة الزّيتونيّة قائلا: «أمور انبتّت على الإحساسات الشّخصيّة التي تحرّكها أغراض النّفس الخبيثة». وقد ردّ عليه عبد العزيز شاكرا ومتفائلا بكون تفوقّ "الطّريق العصري» على «الأفكار التّقليديّة» آت لا محالة، مؤكّدا أنّ «بلوغ الفوز سيكون بقوّة العزم والعُدَد لا بكثرة العَدَد». ولم تقتصر الاحتجاجات على الأوضاع السّائدة في الوسط التّعليمي بل بلغت إلى تخصيص مؤلّفات ومقالات في هذا الصّدد أشهرها دراسة الشّيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور في كتابه أليس الصّبح بقريب ورسالة لعبد العزيز أيضا سمّاها جهل الحاسدين بتأليف المعاصرين ينتقد فيها بشّدّة موقف المحافظين الرّافضين للتّجديد والمتصدّيين لكلّ محاولة تسعى للخروج عن المألوف, كما ينتقد موقفا أضرّ بالتّعليم أشّد الضّرر وهو «جعل كلام المصنّفين (الأوائل) من قبيل الكلام الذي لا يبدل ولا يُغيّر».

بعد أن انتصب للتّدريس في الجامع الأعظم دعي عبد العزيز في السّنة الموالية لحصوله على درجة التّطويع للالتحاق بديوان الكتبة بالوزارة الكبرى فنسج على منوال أبيه وجدّه.

ومن الجوانب الطّريفة والمفيدة لكلّ باحث في تاريخ الأوضاع الاجتماعيّة تلك التي أفادنا بها عبد العزيز حول الزواج والطلاق ثمّ زواجه للمرّة الثّانية. يقول إنّه اضطرّ إلى طلاق زوجته الأولى بسبب عدم الوفاق بينها وأمّه وهي لعمري ظاهرة منتشرة شرقا وغربا. غير أنّ المسعودي يفاتحنا ويصف لنا شعوره لما قرّر اللّجوء إلى «أبغض أنواع الحلال عند اللّه» قائلا: «لمّا احتجت إلى الطّلاق كادت نفسي أن تذوب واحساساتي أن تنعدم حيث لم أكن من أولئك الذين يصبحون ويمسون وهم يفكّرون في وسيلة تمكّنهم من الطّلاق ليعيدوا أمر الزّواج على بدئه». ثمّ يواصل التّعبير عن إحساسه بانتقاد شديد للعادات منها «لزوم أن يخطب الرّجل امرأته ويعقد عليها وهو لا يعرف صورتها ولا يدري شيئا من أخلاقها مع أن الواحد من عامّة النّاس لا يرضى أن يشتري خروفًا أو جحشًا قبل أن يراه ويدقّق النّظر في أوصافه».

توفّي الشّيخ عبد العزيز المسعودي بعد مرض عضال سنة 1913 بمدينة نابل حيث اقام قصد الاستراحة وسنّه لم يتجاوز 38 عاما تاركا أرملة وبنتين وآثار أدبيّة وشعرية وتّاريخيّة قيّمة.

رحم اللّه هذا الرّجل المتألّق رمز جيل سعى إلى إدراج الحداثة في التّعليم الزّيتوني وفي الفكر والإبداع المعرفي والفنّي والثقافي، جيل يحقّ لتونس أن تفتخر بأعلامه وتوقهـم للنّهـــوض بالعقول بالرّغم من عداوة المحافظين المقلّدين.

محمّد العزيز ابن عاشور

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.