أخبار - 2020.11.05

رضا السعيدي: رأي في مسألة التمويل الاستثنائي لميزانية الدولة من قبل البنك المركزي

رضا السعيدي: رأي في مسألة التمويل الاستثنائي لميزانية الدولة من قبل البنك المركزي

بقلم رضا السعيدي - تنامى الجدل الدائر حول استقلالية البنك المركزي وحدود دوره في التمويل الاستثنائي لعجز ميزانية الدولة ولا سيما إثر الجلسة التي انعقدت يوم الاربعاء 28 أكتوبر 2020  بين اللجنة المالية لمجلس نواب الشعب والسيد محافظ البنك المركزي حيث أبدى السيد المحافظ موقفا متحفظا من مشروع ميزانية الدولة التعديلية لسنة 2020 معبّراً عن عدم موافقة البنك المركزي على طلب وزارة المالية توسيع حجم تدخل البنك المركزي لسد العجز المتسع للميزانية  وداعياً الحكومة الى سحب مشروع قانون المالية والقيام بتعديل الموازنة العامة للدولة عبر تقليص حجم النفقات وترشيد توزيعها على مختلف أبواب الميزانية، وهو الرأي الذي تبنته اللجنة المالية بمجلس نواب الشعب.

وسنحاول في هذا المقال ابداء بعض الملاحظات وتقديم بعض المقترحات في كيفية التعامل مع هذا الوضعالاستثنائي:

أولا: اذا تفحّصنا مشروع قانون المالية التعديلي لسنة 2020 نجده قد تضمّن مؤشرات غير مسبوقة من حيث توسّع العجز(13,8%من الناتج الداخلي الخام) وتنامي المديونية لتبلغ حوالي 100 مليار دينار ( 90 % من ن.د.خ. ) بما زاد من حجم احتياجات التمويل والذي يتم تغطيته بالاقتراض وخاصة الداخلي14267 مليون دينار (م د) وذلك بسبب انحسار المداخيل الجبائية (تراجعت بحوالي 10 %) وتنامي النفقات (+22%) بسبب تداعيات الجائحة وتوسع التدخلات والنفقات الطارئة،وأيضا بفعل تنامي كتلة الأجور التي ستبلغ بفعل الزيادات الأخيرة      19247 م د مع نهاية سنة 2020. كما اتخذت الحكومة قرار التصفية الواسعة لمتخلدات ديون  بعض المؤسسات العمومية، خاصة المتعلقة بدعم المحروقات والحبوب، وغيرها من المتخلدات المتراكمة والتي لا يمكن حلها في تقديرنا دفعة واحدة وفِي وضع تمر فيه البلاد بأزمة اقتصادية ومالية استثنائية.

ثانيا: نستشف من خلال البيانات التي أدلى بها السيد محافظ البنك المركزي استعداد البنك المركزي لسد جزء معقول من الثغرة  في الميزانية وذلك:

في حدود مضبوطة من الناتج الداخلي  الخام أو من حجم انفاق الميزانية باعتباره قد تم في السنة الأخيرة الرفع من تمويل التداين العمومي في شكل شراء نهائي للسندات الى ثلاثة مرات في حدود   3,6 مليار دينار ( 2 نوفمبر 2020 ) ، فضلا عن تمويله للبنوك مقابل ضمان سندات الدولة بما يقارب نصف الحجم الجملي لإعادة التمويل ، أي أنه يمول تقريبا 4,5 مليار دينار من جملة القائم الحالي للسندات الذي يبلغ 16,7 مليار دينار.
وأعتقد في هذا الباب أن الحوار الصريح والمسؤول بين الحكومة والبنك المركزي إلى جانب التشاور مع البرلمان سيفضيان إلى الاتفاق حول الصيغ العملية الممكنة التي يتم من خلالها التوافق على نسبة العجز القصوى والحد الأعلى لمساهمة البنك المركزي لتوفير السيولة اللازمة:
على أن يكون التمويل لمدة قصيرة المدى وتتعهد الدولة بسداد المبلغ الممول في الآجال،

وإذا كان طلب التمويل بصفة مباشرة  في غير ما أقره القانون المنظم للبنك المركزي ،أي عند الاكتتاب، فلا بد هنا من ترخيص استثنائي بمقتضى فصل خاص في قانون المالية لمدة محددة في الزمن ووفق شروط معقولة.

وفِي مقابل ذلك على الحكومة أن تلتزم بالشروع في الاصلاحات الضرورية، التي تأخرت كثيرا، والتحكم العقلاني في نفقات التصرف، وفي مقدمتها النقات العامة لأجهزة الدولة وحجم كتلة الأجور، مع اعطاء الأولوية القصوى لحلحلة ملف الفسفاط واستعادة نسق انتاج النفط والشروع فعليا في معالجة قضية الدعم  واصلاح المؤسسات العمومية ودفع محركات النمو؛ ذلك أن كل تمويل في ظل غياب هذه الإصلاحات سيزيد من تغذية التضخم وتراجع الاحتياطي من العملة الصعبة وتدحرج سعر صرف الدينار، بما يعني الدخول مجددا في حلقة مفرغة فضلا عن حرمان النسيج الاقتصادي من تلك السيولة المالية.

ويمكن توجيه المبالغ التي يمكن أن يضخه االبنك المركزي نحو احتياجات مستهدفة تُعين على دفع محركات النموأوعلى الأقل توجيهها نحو بعض الاحتياجات الحياتية مثل دعم الصيدلية المركزية و ديوان الحبوب.

ثالثا: يكاد يُجمع أغلب الخبراء والمؤسسات المالية الدولية أن وضع المالية العمومية التونسية سيزداد خطورة وتعقيدا بعد نشر هذه الأرقام والمؤشرات، اذ سيصبح خروجنا للسوق المالية الدولية ذو كلفة عالية جدا خاصة مع التخفيض المنتظر للترقيم السيادي للبلاد بسبب تدهور المؤشرات الاقتصادية والمالية (بعثة "فيتش رايتنغ" ستزور تونس خلال شهر نوفمبرالحالي). فقد أصبح الوضع دقيقا جدا بما سيعقّد إمكانية الحصول على تمويل من السوق المالية العالمية، وحتى إن تم فسيكون في حدود لا تفي بحاجيات التمويل المطلوبة وبنسب فائدة عالية تفوق 10 % على الأرجح، ولا سيما في ظل غياب برنامج اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي تستنير بتقاريره ومواقفه بقية المؤسسات المالية الدولية التي تُعتبر الملاذ الأكثر أمانا من حيث كلفة التمويل (أقل من 2%) ولكنه كذلك  السند الذي لا يعطي بدون شروط كتنفيذ الاصلاحات وعقلنة التدبير المالي للدولة.

رابعاً: نرى من الضروري، أمام ما تقدم من أرقام ومؤشرات ومخاطر، أن تسعى وزارة المالية الى مراجعة توازنات الميزانية التعديلية لسنة 2020 لتقليص العجز بالضغط  خاصة على حجم النفقات ولا سيما في بعض الأبواب القابلة للتأجيل واعادة البرمجة. فمثلا تم تخصيص 4000 م د للوفاء بالتزامات الدولة تجاه المؤسسات العمومية والمقاولين، وبالرغم من مشروعية هذه الخطوة التطهيرية ووجاهتها ولكنها في تقديرنا تظل صعبة التحقيق في وضع الاكراهات الحالية للمالية العمومية، ويمكن بالتالي في تقديرنا وضع سقف لا يتجاوز 2000 م د مرسمة لهذه السنة في هذا الباب وإعطاء الأولوية خاصة لتصفية ديون المقاولين والمؤسسات الخاصة التي تضررت من تأخير التزام الدولة بتعهداتها، إلى جانب المعالجة الظرفية لبعض الوضعيات الحرجة لبعض المؤسسات العمومية بما يمكننا من التقليص جزئيا من العجز القياسي.

خامسًا: وبالنسبة لتعبئة الموارد الخارجية، فأمام ارتفاع كلفة الخروج للسوق المالية الدولية فلا بد من اعادة اطلاق التفاوض مع صندوق النقد الدولي وبقية الشركاء الماليين على قاعدة الالتزام بالإصلاحات المستوجبة الى جانب اطلاق حملة دبلوماسية واسعة لجلب الدعم الدولي من الدول الصديقة والشقيقة في نطاق التعاون الثنائي ومتعدد الأطراف وكذلك من المؤسسات المالية الاقليمية سواء من أجل الحصول على قروض خاصة أو تأجيل خلاص بعض القروض السابقة التي حل أو سيحل أجلها، وقد سبق أن عبر رئيس الصندوق العربي للانماء الاقتصادي استعداد الصندوق لتأجيل سداد أقساط الديون والفوائد المستحقة على القروض الممنوحة للحكومة التونسية في اطار تخفيف وطأة انعكاسات أزمة الجائحة على تونس.

سادسًا: من الضروري التفكير في صيغ بديلة وروافد جديدة لتمويل ميزانية الدولة مثل اعتماد الصكوك والتعامل مع هذه التقنية ببراغماتية وظيفية حيث أصبحت شائعة في مختلف دول العالم، بما في ذلك الدول الغربية، فهي تساهم في تقليص العجز دون الاحتساب في المديونية. كما يبقى للجهاز البنكي والمؤسسات المالية مجال هام للتدخل في حدود معقولة لتغطية العجز. ومن جهة أخرى يمكن التفاوض مع المجامع الاقتصادية التونسية الكبرى لتمكين الدولة من الحصول على تسبقة مقتطعة من الأداءات المستوجبة للسنة الموالية مع إقرار بعض الحوافزالخاصة. هذا إلى جانب تفعيل مشاريع الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص التي تم الاعلان عنها والتي تنتظر القرارات الجريئة لتفعيلها والمتابعة الجادة من الحكومة لإنجازها.

سابعا: تكمن مشكلة ارتفاع كتلة الأجور ليس فقط في توسّع حجمها، فهذه نتيجة المفاوضات الاجتماعية، وانما في ارتفاع نسبتها قياسا للناتج الداخلي الخام، لذلك يجب  أن ينصب المجهود الوطني في السنوات القادمة على رفع حجم الناتج لتحسين النسب بما في ذلك عجز الميزانية الذي يُحتسب، كما كتلة الأجور، بالقياس للناتج الوطني، وإعطاء الأولوية لمحركات النمو المحورية (الاستثمار، الاستهلاك العمومي والخاص والتصدير) ، لأنه من غير ذلك سنبقى نتخبط في حلقة مفرغة وكمن يحرث في الماء: نتداين لنزيد في الأجور ونتوسع في نفقات الاستهلاك بدون مقابل إنتاجي وإن حصل فبإنتاجية متدنية، وبالتالي سينجر عن ذلك تنامي التضخم مجددا مع انعكاساته السلبية على الاقتصاد ومجموع الفئات الاجتماعية.

أما بالنسبة للمقدرة الشرائية فلا يجب أن ننظر اليها فقط من باب مستوى الأجور، التي تضاعفت في العشرية الأخيرة،  وانما أيضا من زاوية التحكم في المستوى العام للأسعار؛ لذلك يجب أن تنصب جهود الحكومة ومختلف أجهزة الدولة على ملف التزويد والأسعار ووضع خارطة انتاج مدروسة للمواد الفلاحية والصناعية وتطهير مسالك التوزيع ومقاومة الاحتكار والتهريب وتقوية عمل أجهزة الرقابة الاقتصادية.

وأخيرا: نرى من الضروري والعاجل الجلوس على طاولة الحوار بين الحكومة والبنك المركزي للبحث في صيغ المواءمة بين السياسة النقدية والسياسة المالية والجبائية للدولة ووضع مخطط عمل تفصيلي يحدد طبيعة  التزامات الحكومة و حدود تدخل البنك المركزي بالشروط المعلومة.

فالبلاد بحاجة في هذا الظرف الاستثنائي إلى المعالجات الاستثنائية لتمكين الدولة من تنفيذ سياساتها وبرامجها الاجتماعية والتنموية ومواصلة جهودها في مقاومة الوباء وتداعياته  ومساعدة الاقتصاد التونسي على تجاوز الأزمة واستعادة عافيته، وتجنب الوقوع في الخيارات التي لا تزيد الوضع إلا تأزما كالإحالة على الفقرة الأخيرة من الفصل 66 من الدستور الذي يتيح للسيد رئيس الجمهورية تنفيذ مشروع قانون المالية غير المصادق عليه من مجلس نواب الشعب  في باب النفقات بأقساط ثلاثية، حيث لن يزيد المضي في هذا الخيار الوضع إلا تأزما وسيؤثر سلبا على الترقيم السيادي للدولة التونسية.

وأنا على يقين من أن مؤسسات الدولة بمختلف هياكلها ومجلس نواب الشعب بمختلف كُتله وأطيافه سيجدون الحلول المناسبة التي تمكّن من المصادقة على مشروع قانون المالية التعديلي لسنة 2020 ومشروع قانون المالية لسنة 2020  في الآجال الدستورية بعد إدخال التعديلات الضرورية عليهما، والانكباب بعد ذلك على معالجة القضايا الأساسية للبلاد واطلاق الحوارات الضرورية حول نمط التنمية الأنسب لبلادنا والشروط الضرورية لإنجاز الاصلاحات المستوجبة في مختلف المجالات وخاصة في مجالات التعليم والاقتصاد والمالية وتحديث الدولة وتطوير مؤسساتها.

رضا السعيدي
وزير سابق للشؤون الاقتصادية





 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.