رشيد خشانة: الثقــافة في خدمة السياحة؟
بقلم رشيد خشانة - قصر الجم، موقع دُقة، مدينة أوذنة، موقع أوتيك، مدينة بلاريجييا، تابسوس، بالاضافة إلى الموقع الأثري بقرطاج، والموقع الأثري بسبيطلة، الذي يضمّ آثارًا رومانية وبيزنطية مختلفة... تلك عناوين ثروة لا يمكن تقدير قيمتها، لكن يمكن احتساب عددها، فهي تصل إلى 35 ألف موقع أثري. هذه الآثار النفيسة محفوظة من شرّ عاديات الزمن، المناخية والبشرية، التي تُهدّد الكثير منها بالسرقة والتلف. على أنّ تراث تونس لا يقتصر على الآثار فهناك رصيدٌ خصيبٌ من التراث اللامادي، مما تركته لنا الأجيال السابقة، والذي يُصادف هوى خاصّا لدى فئات من السياح "المثقّفين"، المولعين بالتاريخ والآثار. هؤلاء لا تستهويهم شواطئ البحر المتوسط ورماله الذهبية وشمسه المتوهّجة.
على هذه الخلفية ينقسم التونسيون في تعاطيهم مع هذا الإرث المتنوّع، إلى فئتين، واحدة تفهم المحافظة على التراث على أنّها وقاية له وغطاء يحميه من التآكل، أمّا الفئة الثانية، فتعتبر أنّ المحافظة الحقيقية تأتى من استثمار تلك الشبكة من المواقع الأثرية باستدراج السياح إليها، وإضفاء الحياة على محيطها، بإيجاد المطاعم والمقاهي، وحتّى قاعات السينما، مثلما نرى في البلدان التي تملك معالم أثرية هامّة.
من هنا يمكن أن تصبح السياحة الثقافية صناعة مُدرّة للعملة الصعبة، مثلما يعتقد وزير السياحة والشؤون الثقافية حبيب عمار، في حوار مع "ليدرز العربية". على أن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا المضمار هو التالي: من سيموّل هذا الانتقال من التركيز على السياحة الشاطئية، ذات الطابع "الشعبي" بالأساس، إلى سياحة موجّهة لأصناف جديدة من الزوّار، بما لديهم من طلبات وشروط تختلف عن الزبائن الذين اعتدنا عليهم.
بُناة السياحة التونسية
الأمر الواضح هو أنّ الدولة لا يمكن أن تعيد اليوم المقامرة التي قامت بها في ستينات القرن الماضي، بإنشاء نواة السياحة وتوفير المحفّزات والتسهيلات لرجال الأعمال، الذين كانوا بُناة السياحة التونسية. وحتّى لو أرادت أن تعيد الكرّة اليوم، فهي غير قادرة على ذلك تماما. من هذه الزاوية يقترح الوزير عمار أن نتوخّى صيغة ثنائية، تقوم على الشراكة بين القطاعين العام والخاص. ويرى أنّ القطاع الخاص، ولاسيما صغار المستثمرين، يمكن أن يُحدثوا حركية اقتصادية حول المواقع الأثرية، تساهم في جلب السياح إليها. أمّا اليوم فإنّ زائر الموقع الأثري بقرطاج أو الموقع الأثري بسبيطلة أو مائدة يوغرطة، لن يجد سوى الحجارة المتآكلة والعشب الزاحف على تلك المعالم، ولن يعثر على مرشد يشرح له تاريخ تلك المعالم، التي تحظى مع ذلك بسمعة مهمّة في العالم.
حنبعل في اليابان
صحيح أنّنا لا نملك ما يعادل أكروبول أثينا أو أيا صوفيا أو أهرامات الجيزة أو برج بيزا المائل أو برج إيفل، إلا أن كثيرا من السياح الثقافيين المُحتملين يعرفون بعضا من آثارنا المشهورة، مثل قرطاج، وعلينا أن نستفيد من ذلك. أمّا في واقع الحال اليوم فالأفضل، ربّما، ألاّ يزور السائح تلك المواقع كي لا يصيبه الاحباط فتُمحى الصورة الإيجابية التي يحملها عن بلادنا، وهي المنطلق لاستقطابه إلى تونس. ويمكن أن نستدلّ على الصورة التي يحملها بعض الشعوب عن تونس، باليابانيين الذين يعرفون الكثير عن قرطاج وعن القائد الفذّ حنبعل، من دون أن يكونوا قد زاروا بلادنا من قبل.
إنّه جمهور مختلف، ومتطلباتُه مختلفة أيضا، سواء من حيث النظافة والأكل وظروف الإقامة، أو في سياسات الترويج والتعريف بالمقاصد السياحية في بلادنا. لذا يدعو حبيب عمار، الذي سبق أن شغل منصب الرئيس المدير العام للديوان الوطني للسياحة، على مدى أربع سنوات، إلى إعادة النظر في مفهوم المحافظة على التراث، الذي لا ينبغي أن يقتصر على مطالبة الدولة بحمايته، وإنّما جعله مصدرا للدخل هو الآخر. وفي مرحلة ثانية جعل تونس مقصدا سياحيا لا يكتفي بالنمط التقليدي القائم على منتوج وحيد (السياحة الشاطئية)، والذي لم يعد كافيا منذ أزمة نهاية التسعينات. في هذا الإطار سيتمّ التركيز على السوق الآسيوية ذات التقاليد العريقة في السفر والسياحة، وخاصّة السوقين اليـــــابانية والصينيــة، ولا سيمـــــــا إذا ما استطعنا تأمين رحلات جويّة مباشرة إلى شرق أسيا.
نحو نموّ برقمين؟
جميع الدراسات التي أذنت بها الدولة أظهرت أنّ قطاع السياحة واعد، ويمكن أن يحقّق نموّا برقمين، لكنّ مشكلته تكمن في السياحة ذات المنتوج الوحيد، فالمؤسّسات الفندقية ظلّت تركّز حملات الترويج والتسويق على فصل الصيف وفترات العطل، وهي لا تعمل بأكثر من 52 في المئة من طاقتها في أفضل الأحوال، من دون الاشارة إلى وضعها المأسوي في الظرف الراهن. ويراهن الوزير عمار على أن تطوير المنتوج السياحي وتنويعه يمكن أن يُرفّع من نسبة الإشغال في الفنادق إلى سبعين في المئة. مع ذلك اعتبر أنّ هناك "نجاحات نسبية"، مثل سياحة التالاسو، حيث حلّت تونس في الرتبة الثانية عالميا بعد فرنسا.
وعن تنويع المنتوج السياحي يعتقد حبيب عمار أنّنا لم نُوفّق في تطوير السياحة الصحراوية ولا في سياحة الغولف، إذ أنّ عدد الملاعب تراجع من 10 إلى 9 ملاعب. وعزا ذلك إلى غياب استراتيجيا ترمي إلى تطوير القطاع، ضاربا مثلا بالسوق الصينية، التي يزورنا منها اليوم صفر سائح، بينما يمكن أن نستقطب الآلاف من سياحها. لكن بشرط أن تكون هناك أجهزة الكترونية يستمع من خلالها السائح إلى تاريخ المعلم الذي يزوره، وأن يجد منتوجات حرفية مرتبطة بتقاليد المنطقة ومحلاّت إقامة لائقة. وكلّ هذا الجهد ينبغي أن يوكل أساسا إلى القطاع الخاص، بدعم من الدولة، لكي نحافظ على تراثنـــــا الأثري، ونستثمره في الآن نفـــــسه بطريقة تدرّ العملــــة الصعبة، وتوفر فرص عمــــل للشباب، وتُعرّف في الوقت ذاته بتاريخنا وحضارتنا الخصيبة.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق