أخبار - 2020.10.25

خطاب المقبرة الأمريكية بقــــرطـاج: مـــدلولات ونقاط استفهـام!..

خطاب المقبرة الأمريكية بقــــرطـاج: مـــدلولات ونقاط استفهـام!..

بقلم محمد إبراهيم الحصايري - من المقبرة الأمريكية بقرطاج، "مرقد" الجنود الأمريكيين الذين قاتلوا في شمال أفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية، اختار وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر Mark Esper أن يُعلن، في الخطاب الذي ألقاه يوم الأربعاء 30 سبتمبر 2020، عن عزم الولايات المتحدة على مواصلة مواجهة ما سمّاه "سلوكات بيكين وموسكو التي تعتمد الخبث والقسر والسلب والتي تهدف إلى تدمير المؤسّسات الأفريقية وتقويض السيادات الوطنية وتهديم أسس الاستقرار واستغلال الموارد في مختلف أنحاء القارة".

بعد أن ذكّر بأنّ نجاح الولايات المتّحدة وشركائِها في الحرب العالمية الثانية أدّى إلى قيام "نظام دولي ضَمِنَ السلام والاستقرار والازدهار في مختلف أنحاء العالم على مدار الـخمسة والسبعين عاما الماضية"، أكّد أنّ "هذا النظام العالمي القائم على قيم الحرية والسيادة وحقوق الإنسان التي تجمعنا يتعرّض لضغوطات في زمن تنافس القوّى العظمى هذا".

وبدون أيّ تحفّظ وبكلّ وضوح أكّد أنّ الأمريكيين "كما فعلوا عندما وصلوا إلى هذه الأرض التاريخية في العام 1942، سيواصلون في قادم الأيام حماية قضايا الحرية الخالدة وتحصين سيادتهم وقيمهم ودعم النظام الدولي القائم الذي تضبطه المعايير والذي يعود بالمنفعة على بلداننا".

إنّه إعلان حرب حقيقي، أو هو على الأقل إعلان عن نيّة واشنطن خوض غمار حرب جديدة على الصين وروسيا اللتين وصفهما بالمنافسين الاستراتيجيين للولايات المتحدة وأغدق عليهما ما شاء من النعوت والصفات السيّئة، حيث أنّهما، كما قال، تواصلان "ترهيب جيرانهما وإكراههم" و"توسّعان نفوذهما الاستبدادي في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك القارة الأفريقية".

والأمر الغريب فيما أتاه الوزير الأمريكي أنّه أطلق هذا الإعلان ضدّ دولتين صديقتين لتونس، تونس التي لم تكن طرفا في الحرب العالمية الثانية، ولم تكن لها مصلحة فيها ولكنّها فُرِضت عليها فرضا، وما من شكّ أنّها لن تكون طرفا في الحرب التي يبدو أنّ الولايات المتحدة شرعت في الإعداد والاستعداد لها داخليا وخارجيا، ولن تكون لها مصلحة فيها ولكنّها مع ذلك قد تُفْرَض عليها فرضا هي أيضا...

أَفَلَمْ يَقُلْ، بعد أن لاحظ أنّ "الحكم الديمقراطي وسيادة الدولة في تونس مكّنا من إنجاز الكثير من عمل الولايات المتحدة في المنطقة" إنّ واشنطن "تتطلّع إلى توسيع العلاقة مع تونس"؟

ثمّ أَلَمْ تشهدْ زيارتُهُ، بالفعل، التوقيعَ على اتفاقية في هذا الاتّجاه، وهي وإن لَمْ يُكْشَفْ عن مضمونها، فإنّها، على ما يبدو، وحسب ما راج عنها من معطيات شحيحة، تحدّد خارطة طريق للشراكة العسكرية والأمنية بين الجانبين لعقد كامل قادم من الزمن؟

أفلا يحقّ، في ضوء ذلك، أن نسأل عمّا إذا كانت هذه الاتفاقية ستنقل تونس، عندما يحين الوقت المناسب، من خانة "الحليف الاستراتيجي لواشنطن من خارج حلف شمال الأطلسي" إلى خانة الحليف الاستراتيجي لها من داخله؟

وإذا لم يكن ذلك كذلك، أفلا يمكن أن تكون هذه الاتفاقية تمهّد لتشريك تونس في مشروع التحالف الذي دعت الولايات المتحدة منذ سنة 2017 إلى إنشائه تحت مسمّى "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي أو اختصارا (ميساmesa)، والذي تريد له أن يكون بمثابة "ناتو" عربي إسرائيلي في مواجهة إيران، وهو ما بات ممكنا بعد موجة التطبيع التي اكتسحت دولة الإمارات ومملكة البحرين وقد تكتسح المزيد من الدول العربية في المستقبل القريب؟

وحتّى إن لم تنخرط تونس في هذين الحلفين، أفلا تكون هذه الاتفاقية، بما ستتيحه من تكثيف للحضور الأمريكي في البلاد التونسية سواء للتكوين والتدريب أو للمشاركة في المناورات المشتركة وغيرها من الأنشطة العسكرية، توطئة لموطئ القدم الذي راج مرارا وتكرارا خلال السنوات الأخيرة أنّ الولايات المتحدة تسعى إلى الحصول عليه في تونس؟ 

إنّ جملة هذه الأسئلة مشروعة لا سيما وأنّ وزير الدفاع الأمريكي صمت عن تحديد ماهيّة "عمل الولايات المتّحدة في المنطقة" وعن الفوائد التي ستجنيها من توسيع التعاون مع تونس، مع أنّه أطنب، في المقابل، في الحديث عن الفوائد التي ستجنيها بلادنا منه، فهي، كما أكّد، ستحصل على المساعدة الأمريكية لـتعزيز قدراتها الدفاعية، ولـحماية موانئها البحرية وحدودها البريّة، وردع الإرهاب، وإضعاف المنظمات المتطرّفة العنيفة، ومواجهة التهديدات العابرة للحدود، ودرء مساعي الأنظمة الاستبدادية المُفْسِدَة عنها... وأكثر من ذلك فإنّها ستحصل على المساعدات الإنسانية والإغاثة عند الكوارث.

ثمّ إنّ الوزير الأمريكي حرص في خطاب المقبرة على أن يؤكّد على أنّ الولايات المتحدة التي وصفها بالشريك العالمي المفضّل "تلتزم في أعمالها بحسن النيّة ويحدوها تطلّع صادق إلى أن تكون أفريقيا أكثر أمنا واستقرارا وازدهارا تنجم عن تنمية سياسية واقتصادية تقودها أنشطة تجارة واستثمار متبادلة حرّة ومنصفة تحترم سيادة الدول جميعها"، ولست أدري إن كان الوزير الأمريكي نسي كلّ ما اقترفته بلاده في القارة الأفريقية والعالمين  العربي والإسلامي على امتداد الحرب الباردة ثمّ على امتداد الفترة التي هيمنت فيها بأحاديّتها القطبية على العالم، وهو ما توّجه رئيسها غريب الأطوار دونالد ترامب برفع شعار "أمريكا أوّلا"، وقد  كان عليه أن يضيف إليه "وأخيرا" أو "ولتذهب بقيّة العالم إلى الجحيم"...

إنّ خطاب المقبرة الأمريكية بقرطاج بإعلانه الحرب على الصين وروسيا بتلك الطريقة الفجّة والمتنمّرة ليس في الواقع إلاّ إعلانا آخر يؤكّد سقوط الولايات المتحدة الأمريكية أخلاقيا حتّى وإن ظلّت وستظلّ القوّة العسكرية الأولى في العالم لفترة طويلة قادمة...

وما من شكّ أنّ التحرّكات "العسكرية" الأمريكية المحمومة الأخيرة في اتجاه دول المغرب العربي وبالذات في اتجاه تونس والجزائر جارتي ليبيا المباشرتين لم تأت من باب حبها لهذه الدول أو الحرص على أمنها واستقرارها وإنّما أتت من باب الرغبة في جرّها إلى الوقوف معها في معـــــارك لا ناقة لها فيها ولا جمل...

ولذلك فإنّ الجزائر التي تستعدّ للاستفتاء على دستورها الجديد الذي سيسمح لجيشها بالعمل خارج حدود البلاد، حسنا فعلتْ، عندما استقبلت في غضون أسبوع واحد، وبين زيارة الجنرال ستيفن تونساندStephen Townsend قائد القوات الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم" وزيارة مارك إسبر وزير الدفاع الأمريكي، مدير قسم التعاون العسكري والتقني الروسي ديمتري شوغايفDmitriShugaev الذي جاءها رفقة وفد هامّ من أجل التحضير للدورة التاسعة عشر للجنة العسكرية الجزائربة الروسية التي ستلتئم في نهاية السنة الجارية.

لقد كان في ذلك، فيما أرى، تذكير بمعان لا أعتقد أنّها تخفى على الأمريكيين، ولا على ذوي الألباب

محمد إبراهيم الحصايري
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.