محمّد إبراهيم الحصايري: الهدنة فـي ليـبـيـا، واعدة أم خـادعة؟

محمّد إبراهيم الحصايري: الهدنة فـي ليـبـيـا، واعدة أم خـادعة؟

بقلم محمّد إبراهيم الحصايري - في خطوة وصفها الملاحظون بالمفاجئة أعلن طرفا النزاع الأساسيان في ليبيا، أي المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني بطرابلس ومجلس النواب المنتخب في شرق ليبيا، يوم الجمعة 21 أوت 2020، وقف إطلاق النار. وقد قوبل هذا الإعلان بالترحيب من مختلف الأطراف في المنطقة وفي العالم، لا سيما وأنّه جاء بعد أسابيع طويلة ثقيلة من التصعيد السياسي والميداني الذي كان ينذر بمواجهة دامية مدمّرة تشتبك فيها الأطراف المتصارعة الداخلية والخارجية الحليفة أو الدّاعمة…

ذلك أنّ تونس اعتبرت هذا الإعلان "خطوة إيجابية من شأنها أن تؤدّي إلى حلّ ليبي ليبي يحقن دماء أبناء الشعب الليبي ويحفظ مقدّراته، وتساهم في إعادة الثقة بين أبناء الشعب الواحد"، وأكّدت أنّه "يؤسّس لتسوية سياسية شاملة ودائمة للأزمة تُعيد الوئام والاستقرار إلى كافة ربوع ليبيا الشقيقة".

وعلى نفس الغرار رحّبت مصر بالإعلان، على لسان رئيسها الذي كتب على صفحته الرّسمية على موقع فايسبوك: "أرحّب بالبيانات الصادرة عن المجلس الرئاسي ومجلس النواب في ليبيا بوقف إطلاق النار ووقف العمليات العسكرية في الأراضي الليبية كافة باعتبار ذلك خطوة مهمّة على طريق تحقيق التسوية السياسية". ويعدّ هذان الموقفان التونسي والمصري والمواقف المماثلة أو الشبيهة التي صدرت عن عدّة دول أخرى وعن جهات دوليّة على رأسها منظمة الأمم المتحدة، أمرا طبيعيا لأنّ الإعلان، من حيث المبدإ، يمكن، إذا صدقت النوايا، أن يفتح الباب أمام تهدئة الصراع الدائر في ليبيا منذ سنوات، ومحاولة التوصّل إلى تسوية سياسية دائمة للأزمة الليبية، أو مثلما جاء في بيان فايز السراج أمام تنظيم "انتخابات رئاسية وبرلمانية خلال شهر مارس القادم، وفق قاعدة دستورية مناسبة يتمّ الاتفاق عليها بين الليبيين"، أو مثلما قال عقيلة صالح، رئيس البرلمان أمام "تجاوز الماضي وطيّ صفحات الصراع والاقتتال والتطلّع إلى المستقبل وبناء الدولة عبر عملية انتخابية طبقا للدستور وإطلاق مصالحة وطنية شاملة".

ونحن إذ نأمل أن تنطبق على هذا التفاؤل قولة "تفاءلوا بالخير تجدوه"، فإنّنا من باب الواقعية والموضوعية نريد أن ندعو إلى التعامل مع الإعلان بشيء من الحذر واليقظة حتّى لا يُسْقَطَ في أيدينا إذا انقلب الوضع فجأة مثلما جاء الإعلان مفاجئا...وبعبارة أخرى فإنّنا نأمل، صادقين، ألا تكون هذه الهدنة كالهدنات العديدة التي سبقتها بمثابة حمل كاذب آخر، لاسيما وأنّ التحاليل والتوقّعات تكاثرت وتضاربت سواء بشأن بواعث الإعلان أو بمآلاته المحتملة...
وللدعوة إلى الحذر واليقظة أسباب عديدة داخلية وخارجية يمكن أن نجمل أهمّها في رؤوس الأقلام التالية:

الأسباب الداخلية

إنّ الإعلان، جاء، من حيث الشّكل، في بيانين منفصلين صدر الأوّل عن فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني بطرابلس وصدر الثاني عن عقيلة صالح رئيس البرلمان المنتخب في شرق البلاد، وكم كان وقعه سيكون أقوى وأبلغ أثرا لو جاء في صيغة بيان مشترك واحد من الجانبين...

أن الجيش الوطني الليبي الذي ما فتئ يؤكّد أنّه يريد تحرير كامل التراب الوطني "من المليشيات والعدوان التركي" رفض بيان فايز السراج، واعتبره مجرّد خدعة...

أنّ قدرة حكومة الوفاق الوطني على السيطرة على الميليشيات والمجموعات المسلّحة التابعة لها محدودة ومشكوك فيها...

أن الحراك الشعبي الذي شهدته طرابلس العاصمة وبعض المدن الأخرى في غرب ليبيا مباشرة بعد الإعلان تحت مسمّى "حراك 23 أوت" خلط الكثير من أوراق المشهد السياسي الليبي وكشف بما تخلّله من قمع للمحتجّين وما أفضى إليه من إقالات، وقرارات وقرارات مضادّة عن هشاشة حكومة الوفاق الوطني... 

الأسباب الخارجية

إنّ الصراع في ليبيا ليس صراعا مستقلاّ بذاته، وإنّما هو جزء لا يتجزّأ من الصراع في منطقة الشرق الأوسط وفي البحر الأبيض المتوسط الذي يبدو أن "لعنة الغاز" حلّت به مثلما كانت "لعنة النفط" حلّت، من قبل، بالعديد من البلدان المنتجة للبترول... ولا شكّ أنّ معمعة التدافع بين دول المنطقة على الفوز بنصيب من مخزون الغاز الهائل الذي تمّ اكتشافه في شرق المتوسّط (نحو 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي) والذي يمكن أن يقلب العديد من موازين القوى في سوق الطاقة الدولية مرشّحة للاحتدام مستقبلا، وأنّ ليبيا ستكون وهي تقع فعلا في القلب من هذه المعمعة منذ أن أبرمت حكومة الوفاق الوطني اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع تركيا في 27 نوفمبر 2019.

إنّ "الرّهانات" التي تمثّلها ليبيا بالنسبة إلى الأطراف الدولية والإقليمية المعنية والمنتَفِعَة من استمرار الصراع الليبي ما تزال قائمة وستظل قائمة وقادرة على إشعال نيران الحرب والاحتراب في أيّ وقت، إذا لم يتمّ التوصّل إلى اقتسام "الكعكة" الليبية بشكل يرضيها جميعا...

إنّ تركيا التي وجدت نفسها على أبواب مواجهة مع اليونان قد تكون دفعت نحو إعلان الهدنة في ليبيا لغايتين أساسيتين، الأولى حتّى تتمكّن من التفرّغ لهذه المواجهة التي لن تكون هيّنة، والثانية حتى تتمكن، في الأثناء، من الإعداد والاستعداد للمواجهة مع الجيش الوطني الليبي عندما يحين الوقت المناسب.

إنّ تركيا التي سبق أن أقصيت من "منتدى غاز شرق المتوسط"، الذي تشكّل سنة  2019، وضمّ كلاّ من مصر و اليونان، وقبرص، و إيطاليا، و السلطة الوطنية الفلسطينية، و إسرائيل لا تريد أن تكون، من هنا فصاعدا، خارج اللعبة الجارية على الساحة المتوسطيّة لا سيما وأنّ هذا المنتدى الذي يوجد  مقرّه في القاهرة، يهدف إلى العمل على إنشاء سوق غاز إقليمية، من شأنها أن تؤثر سلبا على المصالح الحيوية التركية في هذا المجال... ثمّ إنّها بحكم أنّها تعتبر نفسها صاحبة أطول السواحل في إقليم البحر الأبيض المتوسّط، لا يمكن أن تقبل بالمساحة البحرية الضيّقة والمنطقة الاقتصادية الضئيلة التي سيتركها لها الاتفاقان الموقّعان، بمباركة أوروبية وأمريكية، بين مصر واليونان من ناحية، وبين قبرص وإسرائيل من ناحية أخرى.

إنّ التحرّكات المصرية الأخيرة ساهمت، دون شكّ، في دفع تركيا إلى تهدئة الوضع على الجبهة الليبية، ذلك أنّ اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي أبرمته مصر مع اليونان أيّاما معدودة قبل إعلان الهدنة، وأيّاما معدودة بعد تصويت البرلمان المصري بالإجماع على السماح للجيش المصري بالقيام بمهمّات قتالية خارج حدود الدولة المصرية، في المنطقة الغربية، أشّر إلى أنّ انفجار الوضع بات وشيكا، وأنّ  القاهرة جادّة لا فقط  في الوقوف في وجه التدخّل العسكري التركي في ليبيا لا سيما إذا تجاوز الخطوط الحمراء التي حدّدتها، ولكن أيضا في مواصلة تنفيذ استراتيجية التطويق التي تنتهجها في مواجهة الاستراتيجية التركية في المنطقة العربية.

إن جنوح تركيا إلى التهدئة على الجبهة الليبية لا يعني تخلّي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن "أحلامه" ذات المنطلقات العثمانية في ليبيا وفي المنطقة المغاربية، وعلى هذا الأساس فإنّ احتمال عودته إلى المجازفة بالتصعيد في ليبيا يبقى قائما، متى كانت الظروف ملائمة لذلك...

من المهمّ التذكير بأنّ تركيا قامت بنشر عدد غير معروف من العسكريين الاتراك في ليبيا كما قامت حسب ما أكّدته الأمم المتحدة بنقل آلاف المسلّحين الأجانب إليها (ما بين 7000 و15000 مقاتل من سوريا)، وهذا ما يعني، في نظر الملاحظين، أنّ التدخّل العسكري التركي في ليبيا يندرج في إطار مشروع تركي طويل الأمد، وأنّ تنفيذه سيتمّ عبر عدّة مراحل لا دفعة واحدة...

إضافة إلى كلّ ذلك، يرى الملاحظون، أنّ القواعد العسكرية الجوية والبحرية التي تريد كلّ من روسيا وتركيا إقامتها في ليبيا من شأنها أن تغيّر الأسس التي يقوم عليها أمن أوروبا الغربية وأن تكون لها تأثيرات مباشرة على سياسات حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكيةً.

إن الشقاق الأوروبي الذي كان جليّا طيلة السنوات الماضية، في التعامل المصلحي الضيّق مع الوضع الليبي من شأنه أن يشجّع تركيا على المضيّ قدما في تنفيذ مشروعها في ليبيا، لا سيما وأنّ نفس الشقاق يهيمن على الموقف المتفكك الذي يتخذه حلف شمال الأطلسي وعلى الموقف المذبذب الذي تتبنّاه الولايات المتحدة الأمريكية من مجريات الأمور في المنطقة.

لكلّ ما تقدّم من أسباب داخلية وخارجية، نعتقد أنّه سيكون من الضروري إذا أريد للهدنة أن تكون واعدة لا خادعة أن تتضافر كلّ الجهود المخلصة والصادقة من أجل جعلها مقدّمة حقيقية لإعادة إرساء أركان السلم والأمن والاستقرار في ليبيا الشقيقة...
ونحن إذ نرجو أن تكون مخرجات الحوار الليبي الدائر في المغرب هذه الأيّام خطوة على هذا الدرب، فإنّنا نأمل ألاّ يكون أيّ اتفاق قد ينبثق عنه اتفاقا غير قابل للتنفيذ على الميدان مثلما كان الشأن بالنسبة إلى اتفاق الصخيرات....

محمّد إبراهيم الحصايري

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.