أخبار - 2020.09.04

مختار اللواتي: بركاتك يا دستور

مختار اللواتي: بركاتك يا دستور

بقلم  مختار اللواتي - لا جديد أضيف إن قلت إن غالبية المواطنين والمواطنات فقدوا الثقة في السياسيين، حكاما كانوا أو معارضين. و لا جديد أعلن حين أقول إن السياسة التي أصبحت تدار في ملعب الدستور خارج قواعده وثوابته، وبالأساس أهدافه، قد مجّها هؤلاء المواطنون والمواطنات. بل إنها إما انقلبت إلى مثار سخريتهم أو مبعثا على مزيد إحباطهم !

لقد ترددتُ كثيرا قبل أن أقرر كتابة هذه الورقة. فلأول مرة أشعر بإحباط كاسر كاد يكبّل كل قواي الذهنية والنفسية، وأنا المصارع العنيد لكل مؤشراته بما أتسلح به من يقين أن الشعب لابد أن يسترجع حقه في تقرير مصيره محرَّراً من مُكِّبلات المضاربين به.
فما شاهدته وما سمعته فيما تابعته من جلسة التصويت على الحكومة الجديدة في مجلس نواب الشعب، وقد اختُتِمت بإقراضها، من قبل أصحاب المصلحة في إخضاعها لهيمنتهم، الأصوات المطلوبة لمرورها، دون الثقة فيها وفق ماذكر عدد من نواب الكتل الموصوفة بالوازنة في مخالفة صريحةٍ لنص الدستور. وكذلك فيما وصَلَنا من اجتماع أداء اليمين لأعضائها في قصر قرطاج الرئاسي بعد ذلك بما تضمنه من تهديد ووعيد، كالعادة وأكثر، لل"الكاذبين والمدّعين بالباطل والمتآمرين والخونة والعملاء"، قد زلزل كله كياني، بهذا وبذاك !

الجميع كان يستشهد بالدستور، سواء في ذلك الرافعون للواء حكومة خبراء، تلك التي عُرفت بحكومة كفاءات مستقلة عن الأحزاب، لإصلاح ما أصاب محركات التنمية من أعطاب، تسببت فيها صراعاتُ السياسيين على الغنيمة وتحالفُ معظمهم المفضوحُ مع الخارجين عن القانون والدولة بكل أصنافهم. أوالمتشبثون بحكومة سياسية تؤلفها الأحزاب بدعوى أن الأحزاب تُبعث بمطمحٍ وعزمٍ وحيدين هما الوصول إلى السلطة. أي إن الحكم في قاعدة النظم الديمقراطية تتداول عليه الأحزاب و لاأحد غيرها. والفوز به يعود إلى الحزب أوالتحالف الحزبي ذي البرنامج الأقنع للناخبين أو لغالبيتهم.

أستسمحكم هنا لأُذكِّر بما شاب هذه القاعدة من مسخٍ وتشويهٍ من تلك الأنظمة الديمقراطية في العالم، تمثلا في سطوة رأس المال المتوحش ومتعاظم الجشع على السياسيين وبالتالي على العملية الانتخابية بالتمويل والتوجيه، ومن ثَمَّ على مؤسسات الدولة لتطويع القوانين لمصالح تلك الفئة المالكة لرأس المال ذاك على حساب سائر الفئات الشعبية وخاصة منها ضعيفة الحال. وهكذا، بدأت ثقة غالبية المواطنين في تلك البلدان رائدة الديمقراطية تتراجع إزاء أنظمة حكمها. ومع وعي المجتمعات المدنية هناك وفي مختلف أرجاء العالم ونضال الأحزاب المنحازة لمصالح شعوبها وأوطانها، أخذ تصميمُ المواطنات والمواطنين يتبلور أكثر فأكثر بهدف تعديل وتصحيح النظام الديمقراطي بالعودة به إلى أصله وهو حكم الشعب لنفسه بنفسه ولفائدته. ولكن في ظل دساتير وقوانين وسلطٍ ومؤسساتٍ دستورية تضمن سيادة الدولة المُنصِفة لكل مواطناتها ومواطنيها بآلياتٍ محكمة البناء تؤَمِّن المراقبة والمحاسبة المرافقتين الدائمتين لتنفيذ برامج الأحزاب الفائزة بعدما تكون خضعت للتدقيق قبل خوض سباق الانتخابات.

ولعل تحركات المجتمعات المدنية في العالم في مطلع الألفية الثالثة بالذات للتعبير عن الرفض لمخططات وسياسات مؤسسات النظام العالمي الجديد، المالية والتجارية والبيئية المدمرة للمجتمعات بشريا ومناخيا، كانت هي نواتات الحركات المواطنية السياسية اللاحقة والمنادية بتغييرٍ جذري للأنظمة السياسية والإنتخابية التي انحرفت بالديمقراطية عن أصلها وعن أهدافها. وقد كان لتونس إسهامها في هذا الوعي المواطني العالمي جرّاءَ ما خلَّفه عبث منظومات الحكم المتعاقبة وفشلُ الأحزاب السياسية ذات التوجه الديمقراطي الإجتماعي من ويلات لَحِق أذاها مجملَ فئات الشعب وكيانَ الدولة وسيادتَها. فبرزت في العام 2018 بادرة "مواطنون"بمشروع سياسي مواطني بديل من أجل دولة منيعة منصفة بمؤسسات عتيدة متكاملة. غير إن غيابَ أو نقصَ الزَّخَم النضالي الدؤوب الذي يضمن رسوخ قدم هذا الكيان السياسي وسط المواطنين الذين بُعث من أجلهم،والإستعاضةَ عنه بالسباق الإنتخابي لخريف 2019، وكذلك عدم الحسم في هوية هذا المشروع إن كان حزبا من طراز جديد أو جمعية مدنية قد أجهض هذه البادرة المبشرة بنظام سياسي غير مسبوق يقوم على المواطنة ويدعم أركان الدولة ويحقق المساواة والإنصاف بين المواطنات والمواطنين في كل الجهات والمناطق، أراه لابد قادما برغم العتمة الحالية المُطبِقة على البلاد وعلى النفوس.
يالعودة إلى التراشق بالشتائم والتهم وإلى لعبة شد الحبل بين رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس نواب الشعب بما تعتدُّ به من نفوذ أصوات أبناء الحزب ذي الأغلبية البرلمانية وأبناء الكتل الحليفة اليوم، المتعادية بالأمس، فإن كلتيهما متمسكتان وبقوة بما تريانه أحقية التربع على سدة الحكم بمفردها. وما بقية السلط إلا توابع لاغير.

فحيَّ على الدستور وعلى النظام السياسي الذي أنجبه، وليذهب البلد ومواطنوه إلى الجحيم. فإذا كان رئيس مجلس النواب قد صدع يوم فوزه برئاسة المجلس بأنه رئيس كل التونسيين، وقد أجابه رئيس الدولة منذ أشهر قليلة أن للبلاد رئيسا واحدا، هو ساكن قصر قرطاج، فيعكس رئيس مجلس النواب الهجوم فجر الثاني من سبتمبر في ختام كلمته في نهاية جلسة التصويت على الحكومة الجديدة، بما معناه أنه رئيس مجلس نواب الشعب، السلطة صاحبة السيادة الأولى في البلاد.

أما عن الحكومة الجديدة، فعلاوة على أنها تفتقر إلى برنامج دقيق لما ستنجزه لإنقاذ البلاد، قد كشف بعض النواب عن مغالطة مفضوحة فيما عرضه رئيسها المكلف في كلمته أمام المجلس من أرقام ومن تعهدات والتزامات لن تقدر على الإيفاء بها. كما دلل عدد آخر منهم على خطإ حذف وزارة التكوين المهني والتشغيل في وقت تعاني فيه البلاد من ارتفاع مضطرد في حجم البطالة، أو دمج وزاراتٍ مع بعضها البعض . هذا إلى جانب تشكيك عدد آخر في استقلالية بعض الوزراء الجدد مثل وزير الداخلية ووزير العدل ووزير الشؤون الدينية اللذين يعتبرهم كثيرون من النهضويين المتخفين، أو الموصوفين بغواصات حركة النهضة.

أما الخطر الأكبر فيكمن في ما يحمله تعهد هشام المشيشي لرئيس مجلس النواب وللأحزاب السياسية بإدامة التشاور والتنسيق معها ومع الكتل النيابية وجميع النواب من معاني لعل أبرزها تقييد حرية الحكومة برضا مجلس النوابقبل دخول مرحلة مراقبتها، وعلى الأصح برضا رئيس المجلس والمصوتين للحكومة. وبذلك سيجد الرجل نفسه بين ضغطين، ضغط رئيس الدولة الذي اختاره لهذا المنصب والذي لديه حسابات تزداد ثقلا يريد أن يصفيها مع المناوئين له في المجلس وخارجه، وضغط رئيس مجلس النواب الذي يرى في نفسه رئيس كل التونسيين بلا منازع !

فهل ينجح المشيشي في الحفاظ على التوازن، مَثلُه كمثل سائرٍ على حبلٍ معلقٍ في الهواء ومهدَّدٍ بالسقوط في كل لحظة؟ ثم هل يحالفه الحظ لحلحلة الأوضاع المأسوية المكلكلة على البلاد والعباد بعض الشيء نحو الأحسن؟؟

قد ينجح إن نجح في أصعب الإمتحانات الأولى التي تنتظره، وهي إعادة عجلة الإنتاج إلى الدوران في ظل هدنة إجتماعية بسنة، ومعالجة وضع المالية العمومية المقيمة في الإنعاش، وإبرام اتفاقات جديدة مع البلدان الأوربية يتم بمقتضاها ضمان تكوين وهجرة عشرات الآلاف من المعطلين عن العمل في كل المستويات، بمن فيهم أصحاب الشهادات العليا بصيغ قانونية ريثما تتحسن أوضاع البلاد. على أن يكون الإمتحان الأصعب هو النجاح في حربٍ لاهوادة فيها ضد الفاسدين والخارجين عن القانون، والمتهربين من أداء واجبهم الضريبي !.  فهل يتحقق ذلك؟؟

مختار اللواتي






 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.