سلطة النّص وحكم الواقع: الــدّولـة والثّـورة والحــداثــة
I. توطئة
يُعتبر الحديث في موضوع الدّولة من أعقد الإشكاليات وأعمقها على امتداد تاريخ الفكر الإنساني ومنجزاته الفلسفية والمعرفيّة،فقد خاضت العديد من الشعوب صراعات طويلة وحروبا طاحنة من أجل التأسيس لمفهوم الدّولة وإقراره في صفحات الدساتير والقوانين الجارية لدى كلّ تنظيم بشري، وبذلك اتّخذ هذا المفهوم أشكالا متعدّدة ومتنوعة بحسب طبيعة الصراع داخل المجتمع وبحسب منطلقات الأطراف المتصارعة ومقاصدها.
وإنّ تعقّد هذه الوضعيّة المنبثقة من أصل مفهوم الدّولة و طرائق جريانها في نسق المرجعيات الفكريّة والدينيّة الساعية إلى ضبط منوال سياسيّ، يصدر عن مقاربات أحيانا متقاربة وأحيانا متناقضة ، بل ومتصارعة باعتبار السياق الخاصّ الذي يفرزه سؤال علاقة السياسي بالدّيني. فهل يجوز للدّين أن يتداخل بالسيّاسة والمجتمع؟
ولمّا كانت الدّولة كيانا اجتماعيّا مرتبطا بحركة المجتمع، ولمّا كانت هذه الحركة الاجتماعيّة متفكّرة في الوعي الانساني بحتميّة الظروف التاريخيّة المتبدّلة في تنظيم حياة النّاس ورعايتها ماديّا ومعنويا، فلقد تحوّل هذا المفهوم "الدّولة " من معنى الفكرة إلى معنى الظاهرة الاجتماعيّة التي تحوّلت بدورها إلى التعبير عن معنى الوسيلة أو الأداة التي إليها يخضع المجتمع ويسير وفق قوانينها وضوابطها.فمفهوم الدّولة وإن ظهر فعليّا في القرن السادس عشر مع "ميكيافيلّلي"بحسب الإجماع الكلّي تقريبا بين مؤرّخي الفكر السياسي، فقد ظلّ مفهوما مرتبطا بالتاريخ الحديث وشهد تطوّرا معرفيّا ورمزيّا في مساراته التاريخيّة والفكريّة ، ذلك أنّ الدّولة عند "كارل ماركس" لا تعني جوهر الوجود ولا تعتني بمجال الحريّة للأفراد على غرار الفلسفة الهيغليّة، وإنّما هي أداة تتوسّل بها الطبقة المهيمنة لإدارة شؤون مصالحها على نحو ما ذهب إليه "جورج بوردو" حين حصر الدّولة لا في الطبقة المالكة لرأس المال في المجتمع وإنّما في الرجل القويّ والقائد الحكيم المجسّد لسلطة "الكاريزما" .
1 - في تقديم الكتاب و مضامينه
في هذا السياق المحكوم بالاختلاف حدّ التناقض في الإجابة عن سؤال ما الدّولة بأشكالها المتباينة وأنظمتها السياسيّة المتلوّنة بألوان التيارات الحزبيّة والإيديولوجيات الدينيّة ؟ يتنزّل كتاب "الدّولة والثورة والحداثة من الاستثناء العربي إلى الخصوصيّة التونسيّة " للكاتب والباحث التونسي الدّكتور عادل اللّطيفي ،أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة السوربون (باريس الثالثة) وقد صدر هذاالكتاب عن دار مسكلياني للنشر والتوزيع طبعة 2020 ضمن سلسلة المعرفة التاريخيّة التي يديرها الدكتور لطفي عيسي الذي قام بتقديم الكتاب بمقدّمة تحمل عنوان "الدّولة التونسيّة بين احتضان الثّورة وتأطير مسار الحداثة". والكتاب يحوي نحو 412 صفحة يحاول فيها الكاتب عادل اللّطيفي بأسلوب سردي يجمع بين التوثيق التاريخي والتحليل النقدي العلمي تفسير ما جرى ويجري في الواقع السياسي داخل العالم العربي عامّة وتونس خاصّة ، معتمدا على مقاربات ومناهج غربيّة في العلوم الإنسانيّة وفي تحليل الأحداث بأفعال القراءة والفهم والتّأويل، وقد تخيّر الدكتور والباحث عادل اللّطيفي أن يبني كتابه على ثلاثة أقسام وثمانية فصول طويلة وخاتمة ، وهذا التقسيم الشكلي بدا منهجيا إجرائيّا ساعد الكاتب على طرح مسألة بالغة التعقيد وأحيانا بالغة الخطورة وهي إشكالية (الدّولة الأمّة) في العالم العربي وما يثيره طرح هذه الاشكاليّة من أسئلة حارقة تقتضي البحث عن أجوبة منطقيّة تحترم تاريخ هذه الاشكاليّة وخصوصيتها.
و قد جاءت أقسام الكتاب الثلاثة محدّدة المراحل واضحة المعالم ،ذلك أنّ القسم الأوّل اهتمّ فيه الكاتب عادل اللّطيفي بالبحث في مدلولات الدولة – الأمّة والحداثة من أوروبا إلى تونس ، واستدعى في حديثه عن هذه المدلولات التسلسل التاريخي الذي شهدته اشكاليّة الدّولة وما أنتجته من أنظمة سياسيّة ومن أنماط في الحكم متغيّرة بتغيّر التحوّلات التاريخيّة والاجتماعيّة من عصر الأنوار وفلسفة التنوير بأوروبا إلى مفهوم الثّورة ودلالاتها الوثيقة بمفهوم الأمّة في تونس بمحمولاتها الدينيّة وخلفياتها الفكريّة والإيديولوجيّة . أمّا القسم الثاني من الكتاب فبني على عمل إجرائي تطبيقي ، درس فيه الكاتب المسافة الفاصلة بجميع مكوّناتها من الدّولة الوطنيّة إلى الثورة، فبيّن في الفصل الأوّل من هذا القسم جذور الوطنيّة التونسيّة وكيفيّة انبثاقها من السياسات الاستعماريّة الطارئة والمولّدة لبدايات تشكّل الوطنيّة التونسيّة بمختلف مشاربها السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة، في حين اهتمّ الكاتب في الفصل الثاني من هذا القسم الثاني من الكتاب بالبحث في التحوّلات التي شهدها العالم العربي عموما وتونس بشكل خاصّ من ظرفيّة الاستبداد في الحكم وممارسة لاهوت الظلم والطغيان لإسكات الرعيّة إلى ظرفيّة المطالبة بالديمقراطيّة والحريّة وما انجرّ عنه من سقوط لمفهوم الدولة في تونس من دولة الوطن إلى دولة بن علي . أما القسم الثالث والأخير من هذا الكتاب فاتّصل بالبحث في جدلية الثّورة والدولة وما أفرزته هذه الجدليّة من أبعاد فكريّة وإنسانية أسهمت في نحت مرحلة زمنيّة راوحت فيها تونس بين الاستجابة لمقتضيات الثورة والتمهيد لبناء دولة الحداثة والديمقراطيّة وما يقتضيه ذلك من تفاعل مع ضغوطات الانتقال الديمقراطي وإكراهاته الاجتماعية والاقتصاديّة وبين ظهور ملامح الفوضى وانتشارها بأدوات العنف والإرهاب. وقد عالج الكاتب عادل اللّطيفي في هذا القسم مباحث الثورة في تونــس وارتداتها العربيّة في ظلّ بروز الحركات الاسلاميّة الطامحة إلى الحكم بسلطة الإسلام السياسي وما نجم عن هذه السياقات التاريخيّة من إعادة طرح لأسئلة ظنّ الفكر الإنساني منذ قرون ماضية أنّه حسم فيها الأمر وأنّه في مأمن من إعادة طرحها، من قبيل مسألة الهويّة ومحدّداتها مرورا بمصادر التشريع المدني والديني وصولا إلى مرحلة الحوار الوطني وتعديل المسار في تونس سياسيّا وفكرياّ، ليختم الكاتب حديثة في هذا المجال بالذّهاب مباشرة إلى التصريح باستحالة التسليم بالتلازم الصعب بين الاسلام والحداثة السياسيّة ويعتبر أنّ الأصوات التي تنادي بإمكانيّة هذا التّلازم، إنّما هي تدعو إلى الوهم المنبعث من فوضى التفكيروالعبثيّة الفكريّة.
II. في محصّلات الدولة والحداثة
إنّنا نقرّ في مدخل تعليقنا على كتاب "الدّولة والثورة والحداثة من الاستثناء العربي إلى الخصوصيّة التونسيّة" للكاتب والباحث التونسي عادل اللّطيفي، بأنّ خلاص الإنسانيّة عامّة لا يكون إلاّ بإلغاء الأنظمة الديكتاتوريّة وتعويضها بأنظمة سياسيّة تنشر الديمقراطيّة والعدالة والحريّة والمساواة وتلغي الفوارق العرقيّة والمذهبيّة والدينيّة وترفض التعصّب والغلوّ، وهي مسارات الحداثة التي حصرها الكاتب في مقولة "العقلنة" التي تفيد حصريا معنى "العلمانيّة " بما هي التعبير المباشر عن النّمط الأمثل والسليم للانتظام الإنساني ، يقول الكاتب في الصفحة الحادية والستّين: "إذ لا يستقيم شأن الدولة الحديثة من دون علمانيّة أي دون عقلنة ودون مساواة بين الأفراد، كما لا تستقيم المواطنة دون حريّة في أبعادها المختلفة ." ويرى الكاتب أنّ دولة الديمقراطيّة وحقوق الإنسان الرافعة لشعار القانون هي المثال والدّليل الذي ينبغي الاحتذاء به والذي توصّلت إلى ارساءه أوروبا البورجوازيّة والرأسمالية بديلا عن الدولة الاستبدادية القائمة على السيادة المطلقة للعقائد الدينيّة، ويقترح الكاتب في هذا التمشي التحليلي وبشكل غير مباشر تنزيلا معرفيا دلاليا جديدا لمفهوم الأمّة في سياق الحداثة الفكريّة ، وذلك من خلال تصريف هذا المفهوم في زمن الديمقراطيّة بتحويل مسألة الأمّة إلى مرتكز رئيس في تشكيل جهاز الدولة القوميّة التي تنتفي منها كلّ القوى التي تنبض بإرادة الدّين مهما كان مصدره وضعيا أو سماويّا.
خلاصة القول، إنّ الدّولة مفهوما وممارسة ليست معادلة رياضيّة ثابتة ، بل هي تصوّر نظري وماديّ مُدرج على التغيّر والتبدّل بتحوّل المعطيات اللّصيقة بأرض الواقع والقريبة منها، لأنّ مشكلة الدّولة لا تكمن في مضمون تعريف الدّولة بل في المؤسّسات التي تمثّل الدّولة، وبالتّالي ولئن كان مشروع الباحث عادل اللّطيفي هو بناء الأمّة العَلمانيّة "إن صحّ التعبير" عند الإشارة إلى دولة الحداثة بأنظمة برجوازيّة ورأسماليّة تدافع عن نظام دستوري يكفل للفرد الحريّة الفرديّة والملكيّة الخاصّة ويعترف بأدوار المجتمع المدني في حماية الحقوق والحريات انتصارا للعقل السياسي وإزاحة نهائيّة للإسلام السياسي على رأي المفكّر عبد الله العروي في قوله :" الدّين لا يتساكن مع الدولة بل يصهرها ليحيلها إلى لا دولة " فلقد تغافل هذا المشروع الفكري المزدحم بالأمثلة الواقعيّة والأحداث التاريخيّة عن البحث في مرتكزات الاسلام السياسي دينيا وفقهيا بما يؤكد أنّ صناعة دولة السماء هي من إنتتاج الإنسان في عالم الأرض ، وهي مؤسسة وهميّة من أثر المتخيّل الاسلامي..
د. الأسعد العيّاري
إعلامي و باحث جامعي
- اكتب تعليق
- تعليق