مولدي الأحمر: ليبيا، يا وجع الدبلوماسية التونسية الدائم
بقلم مولدي الأحمر - تاريخيا ومنذ أن تحولت قرطاج إلى مركز السياسة الأول في المتوسط، حتى فترة الرومان الذين اتهمهم بورقيبة، بعد ما انهارت إمبراطوريتهم بقرابة ألفي عام، بأنهم حولوا مشروع لمطة في الساحل التونسي إلى لبدة في الساحل الليبي، إلى زمن الحفصيين الذين بسطوا نفوذهم على طرابلس، إلى التحالفات التي جرت بين العائلة القرمانلية والعائلة الحسينية، إلى الحرب الاستعمارية في 1881 و1911 التي تساعد خلالها التونسيون والليبيون في التصدي للعدوان الخارجي، وكذا الأمر أيام الحركة الوطنية هنا وهناك، إلى أيام الملك إدريس والعقود القذافية المضطربة، ظلت ليبيا بالنسبة لتونس، والعكس صحيح، البلد الذي لابد منه. بل أكثر من ذلك العديد من أفراد النخبة السياسية التونسية التي تركت بصمتها في تاريخ تونس الحديث، وعلى رأسهم بورقيبة، من أصول ليبية، وقسم من الفاعلين الذين أثروا في تاريخ ليبيا خلال القرون الأخيرة من أصول تونسية، ومنهم كبير تجار تونس في طرابلس الذي لعب دورا نشيطا وخطيرا في الحرب الأهلية الليبية سنة 1832-1835.
وخلال كل هذه الفترة (ناهيك عن المستقبل) مثلت ليبيا تحديا حقيقيا للدبلوماسية التونسية. ففي كل فترة من هذه الفترات تتبدل المعطيات التي تُبنى عليها استراتيجيات التفاعل، فالنظرة الاستراتيجية للعلاقة بليبيا أيام تجارة الصحراء الكبرى التي كان يعيش منها الجنوب التونسي، وتنتعش منها قابس مرفأ فزان الغربي على المتوسط (هناك مثل ليبي يقول غدامس تجيب وتونس تربي)، ليست هي ذاتها حينما أصبحت الثروة والسكن والسلاح في شمال البلاد، وتحديدا في المنطقة الغربية. والنظرة الاستراتيجية لليبيا التي كانت تحكمها خصائص الاقتصاد الرعوي البدوي المتنقل وشبكات الزوايا، بما كانت تحويه من ديناميكية سياسية وديمغرافية حبلى بالمفاجآت، ليست النظرة الاستراتيجية ذاتها التي يحكمها اليوم الاقتصاد البترولي لدولة حديثة، بما يوفره من فرص للاستثمار، وما يخفيه من مخاطر عندما يتكدس المال والسلاح بين يدي قائد مستبد لا تحكمه مؤسسات.
في مرحلة نشأة الدبلوماسية التونسية المستقلة ظلت العلاقات حميمية ووشائجية على المستوى الاجتماعي، أو لنقل الشعبي، لكنها ظلت دائما تحتوي على مكون من الريبة، تذكيه النظرة الجيو استراتيجية الموروثة عن الاستعمار للمنطقة ولموكوناتها، ولمن فرض نفسه على العقول كصاحب "حق" في التدخل فيها. وهذه النظرة أعطت للعنصر الخارجي أهمية و"شرعية" في أن يكون له رأي بشأن تصميم مفاتيح العلاقة بين البلدين استمرت إلى اليوم. وحده بورقيبة، بسبب طموحه ونظرته الواسعة (المكسورة الجناح لضعف الإمكانيات)، ولأنه رجلا سياسيا جسورا، خاض مغامرة وحدة مع هذا البلد -خارج ما هو مسموح به في العرف الدبلوماسي الذي سُطر لبلدان المغرب الكبير- كان يمكن لو نجحت أن تغير تاريخ المغرب العربي الحديث لقرون.
لكن وجع ليبيا التونسي ظهر أكثر جلاء خلال العشر سنوات الأخيرة: فالثورتان التونسية والليبية فتحتا آمالا غير عادية نحو إعادة تصميم النظرة الجيو استراتيجية للذات، وفي ذات الوقت القت الأزمة السياسية العنيفة التي تطحن ليبيا والأزمة الاقتصادية التي تعصر تونس بكل ثقلها وتناقضاتها على التعامل التونسي مع الحالة الليبية، فهي صارت في ذات الوقت مصدر خطر وشيك ومصدر رجاء مأمول. وهنا تلبدت التحديات لينضاف إليها عاملان رئيسيان جعلا تونس ترتبك دبلوماسيا في تشخيص الحالة الليبية.
العامل الأول إرث النظرة الأمنية للعلاقة بليبيا التي أرساها النظام السابق، وهي في الحقيقة تجد بذورها في القلاقل الجمة التي عرفتها العلاقة بين البلدين خلال نهاية حكم بورقيبة. وإذا كان صحيح أن المبادلات بين البلدين شهدت ارتفاعا كبيرا في فترة بن علي، فهذا فرضته إلى حد ما حالة الجوار وشبكات التواصل الحدودية التاريخية بين البلدين، أكثر من أنه كان نتيجة خطة سياسية متماسكة ومتبصرة، تراكم وتسير وفق هدف استراتيجي تعتبره مفصلي، لأن هذا التبادل لم تواكبه نظرة جريئة، من كلا الطرفين، لمجمل فرص الاستثمار هنا وهناك دعما لشركات الانتاج، وخاصة من الجانب التونسي الذي يتوفر على نسيج إنتاجي صناعي مهني أكثر ديناميكية. وكلنا شاهدنا قبيل الثورة بسنتين كيف أن عصابات التهريب المدعومة سياسيا هنا وهناك حاولت السيطرة على سوق بن قردان المبني على التهريب والتهرب، عوضا عن بناء استراتيجيات استثمار حقيقية في داخل البلدين تهدف في النهاية إلى فتح هذه الحدود. في ذلك الوقت كان الأتراك قد حصلوا على عقود بناء وتعمير في ليبيا بميئات المليارات في مجال كان يمكن لتونس أن تكون فيه رائدة.
هذه النظرة أهملت بشكل خطير المعرفة السياسية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية والتاريخية بالداخل الليبي، الشيء الذي جعلها أحيانا تسقط في فخ تحاليل الصحف ومراكز البحث الغربية والشرقية التي أصبح لها مروجون في تونس، مخترعين في طريقهم حكاية القبائل الليبية المضللة. لقد غلب على عمل البعثة الدبلوماسية خلال حكم بن علي ومنذ الثورة الهاجس الأمني، وملاحقة أخبار التونسيين وتجنيد كل مورد هناك من أجل هذه المهمة، وللنكتة كان لي نصيب في ذلك إذ اختصر أول لقاء لي بمصالح السفارة التونسية هناك، وأنا أستاذ علم الاجتماع في ذلك الوقت بالجامعة الليبية -كنت هناك من أجل إجراء بحث حول الجذور الاجتماعية للدولة الليبية الحديثة- على محاولة استفساري عمن من التونسيين معي في الجامعة، أساتذة وطلبة، وبعد سنوات تغيب سفير تونس -الجمالي- عن حضور ملتقى دولي حول المعرفة الكولونيالية في طرابلس كنت منسقه العام، وحضر في المقابل سفراء من أوربا. والسبب بسيط وسخيف: لم أكن ابن النظام !
أما السبب الثاني فهو ما ترسب في لاوعي الدبلوماسية التونسية خلال فترة الاستبداد من أن نجاحها في القضايا الحاسمة يكون دائما بانتظار ما تُقْدم عليه القوى التي تراها كبيرة وجديرة بالتدخل، ومسايرتها -بجانبها ووراءها- من أجل الحصول على فواضل الصفقات الكبرى، وتفادي أخذ مواقف خاصة متميزة. إن هذا لا يمثل في رأيي أية سبة للدبلوماسية التونسية التي اشتغلت في تلك الفترة، فهي كانت مهنية من الناحية التكنوقراطية وذات تجربة وخبرة في التعامل مع المؤسسات الدولية، في المجالات القانونية والدبلوماسية وأقول حتى في مجال إتقان مهارات التشريفات وغيرها (وهذه خبرات ومهارات ليست هينة بالمرة)، وهي في النهاية تكاد تكون غير مسؤولة عن نمط الدبلوماسية الذي صُمم لها وتربت عليه، ورسخ في ذاكرتها، وحدد في النهاية شبكات المصالح بين أفرادها (إذ أن أفرادها تحولوا إلى جماعة لها مصالحها) في غياب مساحة النقد والتعديل. لكنني أقول في المقابل بأن هذه الدبلوماسية ومعارفها قد بدأ يعفي عليها الزمن، والسبب أنه مثلما كان الوضع الاستراتيجيي بعيد الاستقلال، بقلاقله الكبيرة وتغيراتها السريعة، قد جعل من الدبلوماسية التونسية نشيطة ومبادرة على الأقل في حدود إمكانياتها، فإن الوضع الاستراتيجيي الإقليمي العالمي اليوم يتغير بخطوات عملاقة، ولا أدل على ذلك من معمعتي شرق المتوسط والخليج العربي الجاريتن حاليا، ناهيك عن التحولات والمطالب الداخلية التي تخترق المغرب العربي بأكمله، وهذا كافيا لمراجعة الماقبليات.
يصبح السؤال الحاسم اليوم، الذي ينبغي على الدبلوماسية التونسية ان تفكر فيه، دون تقوقع واتهام لكل نقد بأنه كيدي وذاتي، هو ما إذا كان إرث النظرة الجيواستراتيجية الكولونيالية إلى بلادنا والبلاد المغاربية، وعلاقاتها بالجنوب والشمال والشرق والغرب، وإرث فترة الاستبداد بنظرته الأمنية وتصميمه البيروقراطي الزبوني والغنائمي، ونوع المعارف التي كانت الدبلوماسية التونسية تحتاجها وتراكمها، ما إذا كان كل هذا الإرث لازال صالحا؟ وعمليا ما إذا كان نفعنا في التعامل مع الحالة الليبية المستجدة. في فترة المرحوم الباجي قائد السبسي، الذي تقولبت نظرته شيئا فشيئا (ببعد المسافة عن الزمن الحركي الأول للدبلوماسية التونسية) لكيفية جلب المصالح إلى تونس وفق ذهنية الحصول على ما يُقدر عليه من الفواضل، جرى التعامل مع الملف الليبي على أن مفاتيحه عند القوى الكبرى، وتحديدا فرنسا وإيطاليا وأمريكا (قولته الشهيرة: دعهم! سيتوقفون عن التقاتل عندما ينتهي من عندهم الرصاص). وعليه وبتعلة خطورة الوضع الأمني على حدودنا الجنوبية، تركت الدبلوماسية التونسية الملف لمن كانت تراه "الأقدر" وفق ما ترسب في لاوعيها من نظرة لنفسها وللآخر. لم يجر الانطلاق بقوة وإصرار من واقع أن ليبيا دولة مغاربية، وأن جارتها الشرقية عربية تربطنا بها علاقات تاريخية قوية، وانه بالامكان حشد كل هذه القوى من أجل جعل الحالة الليبية شأنا مغاربيا-مصريا، مع الاعتراف للدول المجاورة في الجنوب والقريبة في الشمال بمصالحها الاقتصادية والأمنية. وما هي النتيجة؟ حالة فراغ مللأتها أولا تركيا، وليدة ما يجري في المشرق من تحولات لم تأخذ حقها في النظر والتقدير والتحقيق، ثم روسيا التي تتقدم نحو المتوسط جنبا إلى جنب مع تركيا، بينما تقهقرت أوربا وخسرت زمام المبادرة! ما هي البقايا المنتظر الحصول عليها الآن من تعمير ليبيا التي تربطنا بها أكثر من أي بلد آخر روابط حميمية ومصيرية للبلدين؟
مطلوب اليوم من الدبلوماسية التونسية ثورة عميقة، ليس بتغيير تكنوقراطييها وإدارييها الذين لهم مهاراتهم وكفاءتهم المشهود بها لهم، إنما في فلسفتها الدبلوماسية كلها، أن تجعلها مغروسة بشجاعة في تاريخها العريق وفي محيطها الإقليمي ونابعة منه، وتنظر من خلالها إلى مجمل القوى القابلة للحشد والتطوير في هذا السياق الجديد، أي أن تبني لنفسها نظرة تحررية ثاقبة وطموحة بالتعاون الوثيق مع المكونات المغاربية، وأن تعمل على تذليل كل الصعوبات نحو موارد القوة التي في المغرب العربي، وأن تعلم أن الدبلوماسية الحقيقية تقوم على معرفة متقدمة بالعلوم الانسانية، في السياسة والاقتصاد والتاريخ والمجتمع، وتسخير سخي ونابه لها.
مولدي الأحمر
أستاذ علم الاجتماع
- اكتب تعليق
- تعليق