منجي الزيدي: مجــتمـــع الـــشّتـيـــمة
بقلم د. منجي الزيدي - أضحت الشتيمة سمة من سمات المجتمع التونسي.انتشرت بين الناس على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والتعليمية حتى كادت تتحوّل إلى "سلوك عام مقبول". والظاهرة ليست جديدة فقد وصف بيرم التونسي في ثلاثينات القرن الماضي تونس بأنّها مدينة الشتائم. ذلك أنّ من "طبيعة" الكثير من التونسيين أن يعبّروا عن انفعالاتهم،حتى البسيطة منها، بعبارات من السجّل الفاحش، سيّان عندهم في حالات الغضب أوفي حالات الانشراح.
والواقع أنّ الأمر ليس حكرا على المجتمع التونسي فأغلب المجتمعات تعرف" الكلمات الكبيرة" وتمارس العنف اللفظي باختلاف في درجات الانتشار والسجّلات اللغوية ودلالاتها الاجتماعية. ولكن المثير للانتباه في مجتمعنا هو تسارع وتيرة انتشار الكلام القبيح وحِدّته وعلانيته المتصاعدة في السنوات الأخيرة.
1
لقد كان المجتمع التقليدي يحاصر المعجم الفاحش في دوائر ضيّقة من الحيّز الخاص، أي في فضاءات مغلقة كالمقاهي والملاعب وغيرها، وبين الأقران والأصحاب،وفي مناسبات معيّنة يغضّ فيها الطرف عن “الكلام الأخضر". كما أنّه كان ينبذ المجاهرة بالشتيمة لذلك يُقال لمن يسب غيره بأنّه "يُسمِعه الكلام". وكان الكلام السمج مرتبطا بفئات "الزُوَفّريّة" المشتقة من الكلمة الفرنسية les ouvriers.
ولكن الأمر المؤسف اليوم هو تفشّي الشتيمة في أوساط من يحسبون أنفسهم من النخبة السياسية والإعلامية والفنية. وأصبح يسيرا على الخصوم السياسيين استخدام السب واللعن والوصم في خطابهم الإعلامي وجدالهم السياسي و"عروضهم الجماهيرية"، وهم الذين يُفترض أن يكونوا رموز وقدوة وصُنّاع رأي يُؤثِّرون في حياة المجتمع بشكل مباشر وغير مباشر.
2
الشتيمة فعل عدواني مرتبط بالغضب. والغضب يُذهِب العقل. وقد اعتبر ابن رشد أنّه" يغشى الفكر منه شيء شبيه بالدخان، لذلك لا يَعقِل الغضبان ولا يفهم". ومن ثمّ فهو اعتداء مقصود لذاته. الشاتم اللاعن يحوّل خصمه إلى مجرّد "شيء" ويسعى إلى تحطيمه. وهو يبني عدوانه على الاحتقار الذي هو عند أرسطو من صغر النفس. ويكون خطابه مجانيا يُقصد به إلحاق الأذى ليس إلاّ. هذا ما يُسمى "الطنز"، وهو ضرب من الاستهزاء " ليس يقصد به فاعله شيئا يستفيده سوى مضرّة المَطنُوز به".
من هنا تعكس الشتيمة البنية النفسية للمجاهر بها، وما ترسب في أعماقه من اضطرابات نفسية، وما تحتويه عقليته من نزعات التمييز والعنصرية والتكبّر على خلق الله في خلقتهم وأصولهم ولهجـــاتهـــم ومهنهــــم... وتظلّ المرأة عقــــدته الكبرى.
3
والمتأمّل في الشتيمة في الخطاب السياسي يجدها تُعبّر عن قدر عال من التوتر والانفعالية يغيب معه أهم مبدأ في النقاش العام وهو الجدال المنطقي. هنالك انعدام للعقلانية يتجلّى في سرعة الاستشاطة التي تُميّز محترفي السياسة اليوم. ويعكس ذلك عوزا في الرؤية وعجزا عن صياغة خطاب مقنع بقوة المحتوى وليس بقوة اللفظ. عند هؤلاء خواء الفكرة يعوضه عنف العبارة.
الشاتم يجذب نحو الأسفل، ويحدث جلبة ويثير عجاجا حول جوهر الموضوع، وينحرف بالجدل إلى اللغو والضجيج اللفظي. وهو بذلك يتفادى مقارعة الحجة بالحجة ويُنهي الحوار عند الحدّ الذي يرضيه، (جاك لاكان) يقول "الشتيمة هي الكلمة الأولى والأخيرة في الحوار، بعدها ليس ثمة شيء نُضيفُه".
من هذه الوجهة الشتيمة السياسية فعل اتصالي مشوّه له "أبطاله" وضحاياه وجمهوره. وكلما اتّسع مجال المجاهرة به كلّما زاد حدة وشراسة وفحشا. العديد من متابعي أنشطة البرلمانات يدركون جيّدا أنّ بث النقاشات تلفزيونيا يشجّع على استعراض العضلات الخطابية، فتتحوّل “أغورا" النقاش العام إلى بطحاء للتنابز بالألقاب والتراشق بسهام السماجة. ولا حسيب ولا رقيب.
4
لمحترفي خطاب الشتيمة تصور مشوّه ومُعتلّ عن الشعب الذي يدّعون الحديث باسمه والتعبير عنه. بعض التعبيرات "الفنية" التي تستمد عباراتها من معاجم القباحة والفحش تحوّلت إلى ثقافة شعبية. واجتياح ثقافة الشارع والعوالم السفلية Underground للحقل الثقافي أكسبها مقبولية فأضرّت بالخيال والتفكير معا. كما أن اكتساح الخطاب الشعبوي للحقل السياسي وإمعانه في الوصم والتشهير دون ضوابط وإثباتات جعله يتحوّل إلى شكل من الاحتكام الرمزي "للقصاص الشعبي". واللّسان كثير الطغيان كما قال التوحيدي.
5
لا علاقة لحرية التعبير بسماجة العبارة وفاحش القول والاعتداء على الأعراض وامتهان الكرامة. السبّ والشتم والقذف والتشهير وهضم الجانب أفعال يعاقب عليها القانون، وتنبذها الأخلاقيات الإعلامية والفنية. وعلى المجتمع ألَاَّ يبقى مستسلما لتجّار القباحة. الكلمة إذا اعتدت على الناس شجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ووجب إزالتها من الطريق..
م.ز.
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق