عبد الحفيظ الهرڤام: هــل تــــوقف الحكومـة المـرتــقــبـــة دويّ صفّـــــارات الإنـــــذار؟
بقلم عبد الحفيظ الهرڤام - من التحدّيات الجسام الماثلة أمام الحكومة المرتقبة، في سياق أزمة اقتصادية وماليّة خانقة ازدادت حدّة وضراوة على إثر جائحة الكوفيد- 19، إنعاش الإنتاج في مختلف القطاعات والحفاظ على مصادر الرزق القائمة مع السعي إلى ضمان العيش الكريم لمن لا مورد لهم.
غير خاف أنّ أكثر من 4 ملايين تونسي يعيشون اليوم تحت عتبة الفقر وأنّ 350 ألف عامل سرّحوا منذ تفشّي الجائحة،علاوة على أنّ آلاف المؤسّسات، من الصغرى إلى المتوسّطة إلى الكبرى، قد أغلقت أبوابها أو هي في طريقها إلى الإفلاس، وتلك ظاهرة مفزعة مرشّحة إلى التفاقم إذا لم تتّخذ إجراءات عاجلة وناجعة لإنقاذها. ويفرض الوعي باستعجال دفع الإنتاج من جديد إلى الأخذ بيد المصنّع والفلّاح والبحّار والحرفي والتاجر ومسدي الخدمات، فمنهم من هو في أوكد الحاجة إلى تجديد رأسه ماله وتوفير المواد الأوليّة اللازمة لاستمرار عمله وضمان أجور مساعديه وعمّاله، فضلا عن تأمين أفضل الظروف لنشاطه إنتاجا وتخزينا وتسويقا.
ولن يتسنّى تحقيق ذلك دون إقرار مِنَح وحوافز ماليّة وإعفاءات جبائية وإرجاء آجال الإيفاء بالالتزامات المستوجبة، سواء تعلّق الأمر بالمساهمات في الصناديق الاجتماعية بالنسبة إلى المشغّلين أو بالضريبة على دخل الأفراد والمؤسّسات ، لفترة لا تقلّ، في رأي البعض، عن ثلاث سنوات، وذلك بالإضافة إلى التخفيض في النسب الموظّفة على القروض.
ويتعيّن أن يشمل هذا التخفيض في المقام الأوّل قروض الاستهلاك المفيد (مواجهة مصاريف العودة المدرسية والجامعية والمصاريف الطارئة، على سبيل المثال) وكذلك قروض السكن التي يجب أن توظّف عليها نسب تفاضلية، بما يتيح للمواطن مجال الحصول على مسكن بشروط ميسّرة من جهة، وبما يساهم في النهوض بقطاع البعث العقاري الذي يعيش أزمة حادّة بسبب ارتفاع كلفة اقتناء الأرض والبناء والصعوبات الجمّة التي يلاقيها الحريف في الوصول إلى مصادر التمويل، من جهة أخرى.
إنّ الإمعان في سياسة القروض بنِسب مشطّة سوف يقضي على كل أمل في نشوء الحركيّة اقتصادية المنشودة. كان المؤمّل - على إثر تعليق دفع أقساط القروض المستوجبة في الأشهر الأخيرة بسبب توقّف النشاط الاقتصادي جرّاء الحجر الصحّي الذي فرضته جائحة كورونا- أن يتمّ تخفيض نسب الفائدة الموظّفة على مختلف القروض والخدمات المسداة للحرفاء، غير أنّ قرار وزير المالية الصادر بالرائد الرسمي في 30 جويلية الماضي أبقى على هذه النسب في مستويات عالية. فعلى سبيل المثال تبلغ حدود نسبة الفائدة المشطّة 16,36 بالمائة للإيجار المالي للمنقولات والعقارات (مقابل معدّل نسبة فعلي بـ 13,6 بالمائة) و14,2 بالمائة لقروض الاستهلاك (مقابل معدل نسبة فعلي بـ 11,77 بالمائة) و12,62 بالمائة لقروض السكن المموّلة على الموارد العادية للبنوك (مقابل معدّل نسبة بـ 10,52 بالمائة).
ولئن ظلّت نسبة الفائدة الموظّفة على القروض مرتفعة، كما لاحظنا، فإنّ نسبة الفائدة المتأتية من الادّخار لم تتزحزح قيد أنملة، إذ هي غالبا في حدود 4 بالمائة ولا تتجاوز 6 بالمائة في أحسن الحالات.
ومهما كانت تكاليف التصرّف البنكي فإنّ الفارق بين نسبة الفائدة الموظّفة على القروض والنسبة التي يحصل عليها المدّخر يبقى هامّا. أليست البنوك أكبر مستفيد من استمرار هذا الوضع؟
ومن الحلول التي يمكن اعتمادها لدفع الحركة الاقتصادية في البلاد اللجوء إلى التمويل الداخلي شريطة حسن توظيف موارده وإحكام التصرّف فيها، قصد اجتناب المزيد من التداين الخارجي، على الرغم من أنّ صندوق النقد الدولي أجاز مؤخّرا استقرار نسبته بين 100 و110 بالمائة من الناتج الداخلي الخام.
لا يكفي أن يكون هشام المشيشي المكلّف بتشكيل الحكومة الجديدة مدركا لخطورة المعضلة الاقتصادية والماليّة ولتأجّج الوضع الاجتماعي القابل للانفجار في كلّ آن وحين نظرا لانسداد الآفاق أمام جحافل البطّالين والمهمّشين، فضلا عن ضرورة ملازمة اليقظة الدائمة في محاربة الإرهاب، بل إنّ الأزمة السياسية التي تتعمّق يوما بعد يوم تستوجب معالجة باتت متأكّدة من خلال مراجعة النظام السياسي مدخلا لتنقية مناخ عامّ متعفّن.
ويبدو أنّ المشيشي مقتنع بترك هذه المهمّة لرئيس الجمهورية الخبير في المجال الدستوري عساه يساهم من موقعه في نحت ملامح جمهورية جديدة، لكي يتفرّغ هو لمجابهة الملفّات الحارقة وتصريف الشؤون اليومية.
يخبرك من يعرف قيس سعيّد أنّه شديد التشبّث بثوابت في تفكيره لن يتخلّى عنها، لم تزده ممارسة السلطة سوى اقتناع بوجاهتها وأنّ همّه الأوّل سيكون تحوير القانون الانتخابي تمهيدا لانتخاب مجلس نيابي أكثر تمثيلية. ولكنّ طموحات الرئيس، لا تقف على ما يبدو، عند تحوير هذا القانون وتعديل الدستور وإنّما قد تمتدّ إلى مراجعة التقسيم الترابي للبلاد والتنظيم الإداري وإرساء الحكم المحلي وتصعيد ممثّلين فعليّين وفاعلين عن المجموعات المواطنية القاعدية وتحرير المبادرة اللامركزية...
ولئن يتطلّب مسار هذه التغييرات الجذرية أشهرا، بل أعواما مع ضرورة الشروع في طرحها على الرأي العام والتداول في شأنها، فإنّ إنقاذ البلاد من الوقوع في الهاوية وإنعاش اقتصادها لا يحتملان أيّ إبطاء أو تأخير.
أمّا القضايا الأساسية الأخرى كمراجعة النظام التربوي وتأهيل المنظومة الصحّية وإصلاح القضاء وقطع دابر الفساد والرشوة والتهريب والتهرّب الجبائي فهي تستوجب تكثيف الجهود واستحثاثها من أجل التصدّي لها بجدّ وتصميم، دون السقوط في خطإ سوء تقدير الأولويّات أو دسّ الرأس في الرمل هروبا من دويّ صفّارات الإنذار المستمرّ منذ سنوات في بلد منكوب يتوق إلى الخلاص وقد اشتعلت فيه كلّ الأضواء الحمراء . فهل توقف الحكومة المرتقبة أجراس الخطر؟
عبد الحفيظ الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق