صـلاح الصّـيـــد: أســـرار الــكـامــيــرا الــنّـافـــذة إلــى الأعــمـاق

بقلم علي اللواتي  - في 29 جوان الماضي، غادر صلاح الصّيد الصّديق ورفيق الدّرب صخب الدّنيا إلى جوار ربّ رحيم تاركًا في نفوس أهله وإخوانه أسى ولوعة وذكرى تملأ عالم الفنّ والثّقافة. ولئن كان المرحوم مقلاّ في الحديث عن نفسه، عازفًا عن الظّهور في المنابر الإعلاميّة والمحافل العامة فذاك اختيار منه أن تشقّ تجربته الرّائدة طريقها بدفعها الذّاتي، نافذة إلى وجدان النّاس وعمق الواقع، حاملة ما يتحلّى به صاحبها من إحساس راقٍ وذوق مرهف؛ وقد أكسبه تمكّنه من أدواته كمخرج وثراء مسيرته على مدى ربع قرن من الأعمال النّاجحة موقعًا مميّزا في مسيرة الدّراما التّلفزيونية في تونس.

لقد حظيت بالعمل مع الفقيد طيلة سنوات ككاتب سيناريو لعدد من أعماله الدّرامية، وكانت فرصة لنشوء صداقة بيننا امتدّت إلى أن وافته المنيّة رحمه الله. وإنّ لذكراه العطرة في نفسي لَوَقْعٌ باق ما حييت ففيها استرجاع دائم لتلك السّنوات الجميلة التي خضنا خلالها معًا مغامرة إبداعية كان لها إسهام في تشكيل ملامح تونسية صرف للدّراما التّلفزية. ويشرّفني هنا أن أذْكُرَ ما أدين له به في ولوج عالم التّلفزيون والتّعرّف على أجوائه والاهتداء في مسالكه، حيث شاءت الصّدف أن يوُكَلَ له إخراج أوّل عمل لي وهو شريط «اعترافات المطر الأخير» ((1990، وقد جمع آنذاك ثلّة من كبار الممثّلين مثل السيّدة منى نور الدّين ورؤوف بن عمر والمرحوم أحمد السّنوسي وسنية المدّب وغيرهم، مع مساهمة قيّمة للمرحــوم يوســــف بن يوسف كمدير تصوير، ومحسن الفريجي كمهندس للصّوت. وكانت تلك أوّل فرصة تتاح لي لأكتشف كواليس تصوير الدّراما والاختلاط بالعاملين فيها من مساعدين في الإخراج وممثّلين وتقنيين، وأتعرّف على أسلوب صلاح الدّين الصّيد في إدارة مشروعه الفنيّ بحرفية عالية. كما كان نجاح الشّريط حافزا لي على مواصلة الكتابة فاستمرّت التّجارب مع صلاح على مدى أكثر من عشر سنوات (1990 ــــ 2002) ونتجت عنها مجموعة مسلسلات أحرزت نجاحا كبيرا، وهي : «الخطّاب على الباب 1» (1995) و«الخطّاب على الباب 2» (1996) و «عشقة وحكايات» (1998) و«منامة عروسية» (2000) و«قمرة سيدي المحروس» (2002).

وقد حظي بالعمل مع صلاح الدّين أيضا كتّاب آخرون  كانت لهم تجارب ناجحة مثل حاتم بالحاج في سيتكوم «شوف لي حلّ» ويونس الفارحي في «نسيبتي العزيزة» وغيرها من الأعمال. وكان للمرحوم بصمة واضحة مع زملاء له من المخرجين أمثال الحبيب المسلماني وحمّادي عرافة، في إرساء تقاليد للدّراما التّلفزيونية التّونسيّة ممّا أكسبها شخصيّة خاصّة في السّياق الأعمّ للدّراما العربيّة.

من دراسة الحقوق إلى الإخراج

ولد صلاح الدين الصّيد في 24 مارس سنة 1948 بمدينة سوسة وهو يحمل إجازة في الحقوق، غير أنّ ميْلاً مبكّرًا إلى عالم الصّورة دفعه إلى اجتياز مناظرة لانتداب مخرجين مساعدين بمؤسّسة الإذاعة والتّلفزة التّونسية وبعد النّجاح فيها بدأ مسيرة مهنيّة بالمؤسّسة ارتقى خلالها إلى وظيفة مخرج؛ وكان قد تابع تأهيلا مهنيا خلال بعثات إلى فرنسا قبل أن يتخصّص نهائيّا في إخراج الدّراما. 

أخرج صلاح برامج مختلفة، غير أنّ طبعه وميوله الإبداعية جعلته يختار العمل في الدّراما. كان مثقّفا وهاويا للموسيقى وله ممارسة في العزف على آلتي العود والبيانو، وأهّله ذلك الانفتاح الواسع على عوالم الجمال لتحقيق منجز فنيّ ثريّ من الأشرطة والأعمال الدّرامية لامست شتّى مظاهر الحياة وراوحت بين المأساة والكوميديا وأخبرت بصدق عن واقع المجتمع التّونسي وخصوصياته.

وخير دليل عن خضوعه لنداء الفنّ الملحّ بداخله، اتّجاهه إلى الإخراج التّلفزيوني بعد دراسة جامعية للحقوق، فكأنّما أُطْلِقَ من عِقـــــال إذْ ما كان القانون ، لو اختاره مهنة، ليشبع فضوله إلى تشكيل رؤيته للحياة والاغتراف من معين الفنّ مع ما يتيحه من حريّة في رسم صورة حميمية وشاملة للإنسان والمجتمع. ولعلّ من غريب الصّدف أن يكون مساري الشّخصي مشابهًا لمسار صلاح الدّين الصّيد، فقد درس كلانا الحقوق وترك كلانا اختصاصه الجامعي  لخوض مغامرة فنيّة، كما جمعنا حبّ الموسيقى وكان ذلك من الأسباب التي أتاحت لنا العمل معا على المشاريع الدّرامية المشتركة برؤى متقاربة يؤدّي فيها الشّعر وباقي الفنون دورا رئيسّيا في تصوّر الموضوع بناء الشّخصيّات. 

التّقنية في خدمة المضمون

إنّنا نلاحظ اليوم ولع تجارب إخراجية كثيرة بالبراعة التّقنيّة وألعاب الكاميرا ومؤثّرات الضّوء والصّوت لذاتها دون أن تجد لها أحيانًا مبرّرات في التّعبير عن المضمون الرّوائي والنّفسي؛ وتعود قدرة تلك التّجارب الظّاهرة على إنتاج صورة متقنة إلى جودة التّجهيزات المتطوّرة المتاحة في هذه الأيّام، أكثر من استنادها إلى عمق التّعبير الذّاتي وتميّز المضمون. لقد تعامل صلاح الدين الصّيد، على مدى مسيرته، بذكاء مع أدواته التّقنية ، فهو وإن خَبِرَ أسرارها وأولاها ما تستحقّ من الإحكام، فإنّما كان يهدف أوّلا إلى تسخيرها لخدمة مشروعه الفنيّ بروح من لا يبحث عن البهرج والمؤثّرات الزّائفة بل بُعْنى أوّلا وأخيرا بتشكيل صورة حلمه الدّاخلي ورؤيته الحميمة للعالم والحياة دون افتعال أو حذلقة.

رؤية تجمع بين البساطة والعمق

إنّ من خصائص المقاربة الجمالية لصلاح الدين الصّيد في أعماله أن يمنح الكاميرا بصيرة تلامس الأشياء والشّخوص بلطف كأنّها توقظها من وسن لتنفذ بعد ذلك إلى وجودها العميق دون افتعال وتعقيد أو تعمّد لِمعالجات مصطنعة تشوّش إيقاع القصّة وتشوّه انسيابها الطبيعي. وظلّ ديدنه كذلك في جلّ أعماله سواء كانت جادّة أم فكهة، حيث يفضي صدق الرّؤية إلي تصوير الأحداث والشّخصيّات بانسيابية وبساطة من جنس السّهل الممتنع الذي تتذوّقه شرائح وفئات مختلفة من المجتمع.

وخلاصة القول إنّ منجز صلاح الدّين الصّيد كمخرج يطابق إلى حدّ بعيد شخصيته في هدوئها ومضمونها الإنساني المتنوّع مع قدرة كبيرة على الإبلاغ والتّأثير، ممّا يجعل منه علامة مضيئة في تاريخ الثّقافة التّونسية الحديثة. فليرحمه الله رحمة واسعة ويجزل له عظيم الثّواب على ما بذل من جهد.

علي اللواتي