مختار اللواتي: قراءة أولية في عملية التصويت على لائحة سحب الثقة من رئيس مجلس نواب الشعب، راشد الغنوشي
بقلم مختار اللواتي - لاشك عندي أن عرض لائحة على الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب طلبا لسحب الثقة من رئيسه، عملية في صميم الممارسة الديمقراطية. وبهذا المعيار تكون نتائج التصويت عليها وجوبا محل قبول من معارضيها ومؤيديها على حد سواء. بقطع النظر عما يطبع هذا القبول في الجانبين من ابتهاج في جهة أو كدر في الجهة المقابلة ! وهذا أمر طبيعي ومعتاد في المواجهات السياسية.
هذا من حيث المبدإ والأصل. وقد شاهدنا ذلك مجسدا في جلسة صباح اليوم الخميس 30 جويلية 2020 تحت قبة مجلس النواب. بعض المناكفات المعتادة، وإن بأقل حدة مما تعودنا عند بدايتها، وابتهاج غامر في صفوف المتمسكين بالشيخ رئيسا لبرلمانهم في نهايتها عندما باحت بنتائجها. وهو ابتهاج تمظهر بالتهليل ورفع شعارات وعلامات النصر وقارب ما يأتيه جماعات الفيراج في مقابلات كرة القدم قبل أن تسكتهم الكورونا اللعينة، فيما ساد المنادين بإسقاطه تجهم وتوتر وشيء من التلاسن فيه ماهو وليد اللحظة وفيه ما فاض عن مخزون سابق. . كل ذلك معقول ومفهوم. بل سترى فيه دوائر سياسية وإعلامية، خارجية قبل الداخلية، لبنات صلبة جديدة في المسيرة الديمقراطية "المتميزة" للشعب التونسي، فيما علِقت بقية الشعوب التي حل بها الربيع العربي في شراكٍ شائكةٍ دامية كلفتها، ومازالت، الكثير من الخسائر الفادحة، بشريا واقتصاديا واجتماعيا. وإن كانت تونس لاتقل عنها خسارة في العنصرين الأخيرين وبزيادةٍ في الخسارة القيمية الأخلاقية. وتلك قضية أخرى !
تلك إذن الملامح الظاهرة من عملية عرض لائحة سحب الثقة من رئيس مجلس نواب الشعب على جلسته العامة والتصويت عليها.
فماذا عن بواطنها أو خلفياتها السابقة واللاحقة؟
فكرة المناداة بسحب الثقة من رئيس مجلس النواب الذي هو رئيس حركة النهضة الحزب الممتد على طول البلاد وعرضها والفائز الأول في الانتخابات التشريعية الأخيرة، برغم التراجعات في حجم النتائج، باثنين وخمسين مقعدا، وهوالحزب الشريك الثابت في الحكومات المتعاقبة على بلدنا منذ انتخابات 2011 وإلى حد إقالة رئيس الحكومة الأخيرة لوزرائها فيها قبل استقالته منها. هي فكرة تُعَد في حد ذاتها تحديا جنونيا خطير العواقب، في هذا الاتجاه أو ذاك. وأن تنبع تلك الفكرة من حزيِّب صغيرٍ حجماً وعمراً، هو الحزب الدستوري الحر، ومن رئيسته عبير موسي، سليلة النظام السابق لانتفاضة ديسمبر 2010/ جانفي 2011 الشعبية المجيدة وثورتها المجهضة والمخطوفة قبل أن تتجسد على أرض الواقع، لهي من الوهلة الأولى مفارقة كبرى !!
فالمرأة تلاحقها أقذع الشتائم من كل حدب وصوب، في سوق السياسة، تتحد في ابتكارها جهود جنود حركة النهضة وأحلافها والطهورين من ثوار اليسار وكثير من الانتهازيين. من نوع "الزغرادة" و"الحارزة" و"القوادة" وابنة "البوليس" وما إلى ذلك. وقد زاد الطين بلة تصعيدها في أسلوب المواجهة ضد حركة النهضة ورئيسها، في مختلف المناسبات التي تتناول فيها الكلمة، حيث أصرت وثبتت على مناداة النهضويين، برئيسهم ونوابهم، بالإخوان المسلمين، ثم دشنت مرحلة الاعتصام داخل المجلس إلى أن طرحت لائحة سحب الثقة الشهيرة تلك. لكن اللافت أن تحظى اللائحة بتأييد أعداد ليست بالقليلة من النواب بعد مخاض كان لعبير موسي ولحزبها فيه دور نشيط بارز، جعل أعداد النواب من كتل نيابية أخرى التي اقتنعت بأهمية اللائحة وبجدواها يزداد مع الأيام.
فكيف اختارت كتلة حركة النهضة ورئيس الحركة أسلوب المواجهة وقد باتت تنذر بالخطر؟
قبول التحدي بتحدٍ أقوى!
لم يُرد راشد الغنوشي أن يقبع في الركنة منتظرا ساعة الهجوم أو الامتحان. فقرر أن يقوم هو بعرض بقائه من عدمه في منصب رئاسة مجلس النواب على المحك. وظهر هكذا في ثوب السياسي المتشبع ديمقراطية وغير العابيءبهالة المنصب الذي تكبد للظفر به مشاق مناورات جمّة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، وربما هي الأهم ، ليُظهر ازدراءه بمخطط عبير موسي ومن يسندها، وثقته في باقي النواب كي يسقطوا لها لائحتها بالضربة القاضية، خاصة عندما أبعد كتلة حركته وكتلة حليفها الإئتلاف ومن يدور في فلكهما عن فعل التصويت، للتدليل على الثقة في النتيجة من ناحية ولتفويت الفرصة على الخصوم المتصيدين لأي تسريب صحيح أو خاطىء بأن هناك مَن مِنأعضاء كتلة الحركة، قد صوت خارج السرب وفي غير اتجاهه... ولكن هل تم له فعل التقزيم الذي أراده لهذا الخصم الموسي اللدود؟
أبداً !!
إذا حسبنا أن كل الممتنعين والمتغيبين عن التصويت وعددهم أربعة وثمانون نائبا 84، هم كامل كتلتي حركة النهضة وائتلاف الكرامة مع بعض الزوائد، من هنا وهناك، إلى جانب نصيب من كتلة حزب قلب تونس، أي الجم عالمتماسك لضرورة الظرف والحاجة، فإن عدد المصوتين بـ"لا" على اللائحة، هم ستة عشر نائبا 16 فقط.. أما عدد الذين مارسوا حق التصويت وأدلوا بأصواتهم لفائدة اللائحة فكانوا سبعة وتسعين 97 نائباً. أي بنقص اثني عشر صوتا فقط للحصول على الرقم المطلوب لتمرير اللائحة وتحقيق سحب الثقة المراد. أي إنها نتيجة مهمة ومحترمة. بل وتنبيء بخطوات نضالية أكثر إحكاما وتنسيقا في المستقبل. ولعل هذا أهم كسب في معركة كسر العظام داخل مجلس نواب الشعب بين اليمين الديني واليمين الاجتماعي ذي التوجه المافيوزي من ناحية، وقوى الوسط الحداثي مع أجزاء من فصائل تقدمية متنوعة من ناحية أخرى.
ويبقى سر الأوراق الملغاة وهي ثماني عشرة ورقة والأوراق البيضاء، وهما اثنتان، سراً قائما. بل لغزا يستدعي فك شيفرته، لأنه أتى من نواب في البرلمان، المفروض أن يكونوا خَبِروا تقنيات التصويت. فماذا عساهم أرادوا القول من خلال تلك الأوراق الملغاة وغير المحسوبة التي وضعوها في صندوق الاقتراع؟؟ أيصح فيهم القول إنهم انتهازيونفقط؟ أم تصح فيهم أوصاف أكثر دقة؟؟ ستعرف الإجابة الصحيحة في قادم الأيام.
فهل بعد هذا اليوم وبعد إسقاط لائحة سحب الثقة منه، سيقوى جانب راشد الغنوشي، أم إن هذه السيدة القادمة من بعيد سيكون لها شأن أكثر إزعاجا له ولحركته؟.
ولكن هذا يتوقف على مدى نضج الحركة الديمقراطية والحداثية وعلى قدرتها على رسم خطط عمل سياسية مشتركة، تتعهد فيها عبير موسي بالانخراط في مشروع تنموي اجتماعي عادل، وسياسي ديمقراطي مقام على الحرية ونبذ الاستبداد، وثقافي إنساني رحب الأفق ضمن دولة وطنية مدنية. وتتعهد فيه بقية القوى الديمقراطية الاجتماعية والتقدمية على إقامة تحالف مكين يطوي خلافات وأحقاد الماضي من أجل بناء مشروع وطني تنموي وتحرري يحترم هوية الشعب وتاريخه الحضاري الطويل وموقعه الجغرافي بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.
مختار اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق