صـوفونيـبه: ولدت أميـــرة وعــاشت ملكـــة ومـاتـت أبــيـة
بقلم أبوبكر بن فرج - تعتبر القرطاجية صوفونيبه - أو صبنبعل - من أبرز الوجوه النّسائية في تاريخ العالم القديم ومن أكثرهنّ استقطابا لاهتمام المؤرّخين وإلهاما للكتّاب والفنّانين في مجالات الأدب والمسرح والموسيقى وسائر فنون الرّسم والنّحت والنّقش وغيرها.
كثيرون هم المؤرّخون القدامى والمتأخّرون الذين كتبوا عن هذه الشّخصية القرطاجيّة المتفرّدة،وقد ركّزوا اهتماماتهم خصوصا على الدّور الرّئيسي الذي لعبته في توجيه مسار الأحداث خلال الطّور الأخير من الحرب البونيّة الثّانية. وفي هذا المجال ، تعتبر رواية المؤرّخ الرّوماني تيتيوس ليفوس (59 ق م-17 م) التي أوردها في الجزء الثّلاثين من «التّاريخ الرّوماني»- وهو أهمّ مؤلّفاته - أكثر الرّوايات شموليّة ودقّة، نهل منها المؤرّخون الآخرون الذين كتبوا عنها على غرار أبيانوس الإسكندري (165 - 58 ق م) وديــودور الصّقلــــي (90 - 20 ق.م) وبلوتارك ( 46 – 125 م) وديـــون كاسيــــوس (155 - 235 م) وغيرهم.
من هي صوفونيبه
تنتسب الأميرة صوفونيبه االتي عاشت في ما بين 235 و 203 ق.م إلى إحدى أعرق عئلات قرطاج البونيّة وأكثرها نفوذا وثراء ووجاهة خلال تلك الحقبة من تاريخ المدينة . فهي ابنة صدربعل جسكو، أحد أكبر جنرالات قرطاج ، قاد جيوشها في عديد المعارك الكبرى التي دارت رحاها ضد الجيوش الرّومانية، سواء بإيبيريا (إسبانيا الحالية) أو بعد ذلك على التراب الأفريقي.
يقول المؤرّخ ديون كاسيوس في وصفه لصوفونيبه: « كانت ذات جمال أخّاذ، تجمع بين تناسق التقاسيم ورشاقة القوام ووهج الشباب، زد على ذلك معرفتها الواسعة بالأدب والموسيقى، فضلا عن شخصيّتها المشبعة بالرّقّة والتّمدن[...] ويختم ديون كاسيوس وصفها بقوله : «باختصار، كانت (صوفونيبه) بفتنتها النّادرة، قادرة على ترويض أكثر القلوب صلابة واستعصاء...»
لكنّ الأمر الّذي جعل شهرة هذه الشخصية تتجاوز الزّمان والمكان اللذين عاشت فيهما حياتها القصيرة، هو ذلك المنحى التّراجيدي الذي أحاط بآخر مراحل حياتها وعزيمتها الفولاذيّة التي قرّرت بها مصيرها لمّا وجدت نفسها أمام خيارين وجوديّين لا ثالث غيرهما: إمّا القبول بالأسر والمهانة من قبل العدوّ، أو الإقدام على الموت الذي يصون لها كرامتها وشرف مدينتها.
السّياق التّاريخي
كانت الحرب البونيّة الثّانية الّتي لم تهدأ منذ اندلاعها سنة 218 ق.م بين قرطاج وروما، قد اقتربت سنة 205ق.م من آخر أطوارها. لم تكن قرطاج آنذاك في وضع تحسد عليه: ففي الوقت الذي كان حنّبعل لا يزال فيه مرابطا بإيطاليا ، فقدت جيوشها سيطرتها بالكامل على التّراب الإسباني، بل إنّ القائد الروماني شيبيون المكنّى بالأفريقي ذهب في سنة 204 ق.م إلى أبعد من ذلك، حين نزل بجيوشه على الأراضي الأفريقية، بادئا بحصار مدينة أوتيكا ومهدّدا باكتساح المناطق القريبة من مدينة قرطاج.
في الأثناء، وسعيا منها إلى تدارك الوضع ، سارعت قرطاج بإقامة تحالف سيّاسي وعسكري مع قائد نوميديا الغربية المسصولي سيفاكس، الذي كان حينئذ الطّرف النّوميدي الأقوى، لا سيّما بعد الانتصارات العريضة التي حقّقها بنوميديا الشّرقية على أجواره المصوليين الذين ينتمي إليهم القائد مسنسن، واستيلائه على عاصمتهم سرتا ( قسنطينه الحالية بالجزائر) وتحويلها إلى مقرّ لملكه . ولكي يتمّ إسناد التّحالف مع سيفاكس على أسس أمتن ، زوّجه القائد القرطاجي صدربعل جيسكو من ابنته الأميرة صوفونيبه.
حال زواجها من هذا القائد النّوميدي الذي كان وقتها في أوج قوّته، ، لم تتوان صوفونيبه الملكة عن استغلال كلّ ما لديها من حكمة
وذكاء وما تمتاز به من فتنة وتأثير ، لدفع سيفاكس إلى إعلان حرب دون هوادة ضدّ الرومان، ولحشد كلّ ما لديه من قوّات وموارد لمعاضدة جيوش مدينتها قرطاج التي كان يقودها حينئذ أبوها صدربعل جيسكو نفسه.
وكان من الطّبيعي جدّا أن لا يتقبّل القائد الماصولي الشّاب مسنسن االذي كان حليف قرطاج الأقدم وأحد المحاربين البارزين في صفوف جيشها بإسبانيا ، عن طيب خاطر تحالف هذه الأخيرة المفاجئ مع عدوه الألدّ ومغتصب ملك أسرته سيفاكس. وممّا زاد في غضبه ومن شعوره بالمرارة - إذا ما قبلنا برواية أبيانوس الإسكندري - أنّ صوفونيبه التي كان يحبّها، كانت موعودة للزّواج به قبل أن تفرض حسابات الحرب على قرطاج تزويجها من عدوّه سيفاكس. انقلاب موقف قرطاج تجاهه جعل مسنسن ينقلب بدوره عليها عندما أعلن ولاءه للرّومان واصطفّ مع ما لديه من أنصار نوميديين إلى جانبهم في حربهم على قرطاج.
وقد أثبتت تطوّرات سير الحرب التي لحقت هذا التحول، أنّ دور مسنسن كان حاسما ورجّح الكفّة لفائدة الرّومان في كلّ المواجهات العسكريّة التي جرت حتى نهاية الحرب البونيّة الثانية ومن أهمّها معركة السّهول الكبرى التي حصلت سنة 203 ق.م. بالقرب من ضفاف نهر مجردة وانتهت بهزيمة سيفاكس ووقوعه أسيرا لدى الرومان. وقد سارع مسنسن فور انتصاره في هذه المواجهة باسترداد ملك أجداده واستعادة عاصمتهم سرتا.
التحوّل التّراجيدي في حياة صوفونيبه
يروي المؤرٌخ تيتوس ليفيوس ما حدث بمدينة سرتا لمّا دخلها مسنسن منتصرا كما يلي: «كان مسنسن سعيدًا جدًّا باستعادة عرش أبيه وعاصمته، وفور اقتحامه للمدينة ، أرسل كتائب من عسكره من أجل تأمين أبوابها وأسوارها ، ثمّ اندفع مسرعا على صهوة جواده نحو القصر الملكي. وما إن تخطّى عتبة البهو حتّى وجد صوفنيبه زوجة غريمه سيفكس أمامه [....] .لم يكن من الصعب على صوفونيبه التّعرف على مسنسن وهو ماثل أمامها مرتديا بدلته العسكريٌة المهيبة ومحاطا بحرسه وبهالة النّصر الذي حقّقه. فما إن رأته حتّى ركعت أمامه متضرّعة وقالت:»ها نحن صرنا الآن تحت رحمة قرارك، تلك مشيئة الآلهة وذلك ما أراده لك حظّك وما حقّقته بفضل سموّ همّتك. لكن سيّدي، هلّا تسمح لأسيرة مثلي بأن تسمع صوتها المتوسّل لمن أصبح له عليها سلطة الحياة والموت[....] أتقبل استجداءها بجاه ملك صار اليوم من نصيبك بعد أن كان بالأمس من نصيبنا، وبشرف الأصل النّوميدي النّبيل الذي يجمعك بسيفاكس، وباسم آلهة هذا القصر التي أدعوها إلى أن ترعاك[....] سيدي، إنّ رجائي الوحيد منك هو أن تقرّر أنت بنفسك مصير الأسيرة الجاثيّة أمامك وفق ما يرضي فؤادك ويمليه عليك ضميرك، وأن تنقذني أنت من إذلال الرّومان إذا ما قدّر لي الوقوع بين أيديهم.....ولأنّني زوجة سيفاكس، فإنّي أخيّر وضع مصيري بين يدي أفريقي مثله ومثلي، على أن أتركه بيد أجنبي غريب كلّ غايته الثّأرمن قرطاجيّة سليلة القائد صدربعل. وختمت صوفونيبة كلامها قائلة : «أمّا إذا ما لم يبق في مقدوركم أيّ حلّ لإنقاذي من أسر الرومان سوى موتي، فإني أتوسّل إليك بأن تقتلني»
كان لكلام صوفونيبه مفعول السّحر على مسنسن الذي لم يأخذ وقتا طويلا للتروّي قبل أن يتعهّد لها بكلّ اندفاع وحماسة بعدم تسليمها للرومان، بل وذهب مسنسن إلى أبعد من ذلك، عندما قرّر على الفورالزّواج منها وأذن بإقامة مراسم الزّفاف في اليوم نفسه . لكنّ مجرى الأحداث سرعان ما أتّخذ اتّجاها مخالفا لمشيئة القائد النّوميدي ومعاكسا تماما لما كان يتمنّاه لصوفونيبه ولنفسه.
المأزق
الأقرب إلى الظنّ أنّ مسنسن لم يكن يتوقّع قوّة الصّدّ التي سيلقاها زواجه من صوفونيبه من قبل قائد الجيش الروماني شيبيون الذي كان أخشى ما يخشاه أن تنجح القرطاجيّة الجميلة - بما يعلمه عنها من قدرة فائقة على التّأثير- في استدراج حليفه مسنسن إلى معاداة الرومان والوقوف في صفٌ قرطاج كما فعلت في السّابق مع زوجها سيفاكس. فما أن بلغه الخبر حتّى دعا مسنسن للحضور الفوري بمقرّ قيادته وأبلغه امتعاضه وعدم تزكيته لهذا الزّواج المفاجئ من قرطاجيّة يعتبرها عدوّة لدودة للرٌومان قبل كلّ شيء وأسيرة حرب صار اليوم مصيرها يخضع لإرادتهم وحدهم . وجد مسنسن نفسه في مأزق أخلاقي وعاطفي عميق لا سبيل له للخروج منه. أليس هو من عاهد البارحة صوفونيبه على عدم تسليمها للرومان؟ أليس هو الزّوج الذي أصبح منذ اقترانه بها مسؤولا عن حمايتها وصيانة شرفها ؟ طبعا، لم تكن شهامة النوميدي تسمح له بغدر امرأة أحبّها بقوّة وعاهدها على عدم التّخلّي عنها لأعدائها، لكنّه بعد ما حصل مع شيبيون، لم يعد يرى حلاّ آخر في مقدوره لإنقاذ صوفونيبه من براثن الأسر غير موتها. أليس ذلك هو ما ترجّته منه هذه المرأة الأبيّة بلسانها خلال لقائهما الأوّل بقصر سرتا ؟
تلقّت صوفونيبه قارورة السمّ الصّغيرة التي أرسلها إليها مسنسن خفية لمٌا تأكّد من استحالة زواجه منها أو حتّى حمايتها، وهي في كسوتها الملكيّة بكلّ هدوء ورباطة جأش. نظرت إليها مليّا ثمّ مسكتها بيمناها الرّقيقة وتجرّعت ما فيها دفعة واحدة باشمئزاز، لكن دون أن تبدي ارتعاشة أو تردّدا...
صوفونيبه في الآداب والفنون
تكمن أهمّية شخصيّة صوفونيبه والحيّز الواسع الذي اتّخذته في مختلف مجالات الإبداع الأدبي والفنٌي في كونها شخصيٌة تراجيديّة مستمدّة من الواقع التّاريخي.
فصوفونيبه وجدت فعلا، لحما ودما ومسيرة حياتها وظروف موتها حقيقة على خلاف جلّ الشّخصيّات النّسائيّة في الدّراما الإغريقيّة والكلاسيكيّة عموما التي هي مستوحاة إمّا من التراث الأسطوري مثل إلكترا وفيدرا وأنتيغون وأندروماك وغيرها، أو من القصص الدّينيٌ أومن خيال الكتّاب مثل شهرزاد وجوليات...
ولئن حقّقت صوفونيبه كلّ هذا الصدى، فلأنّها كانت أرقى وأفضل امرأة تعكس قرطاج في أوجّ حضارتها، جمعت في شخصها شرف النٍّسب والجمال والذٌكاء والثقافة الواسعة، مع الإخلاص لوطنها مهما كانت التّضحيّات مؤلمة و مكلفة.
بدأ اهتمام كبار الأدباء بهذه الشّخصيّة منذ البوادر الأولى للنّهضة الفكريّة والفنيّة في أوروبا ولا سيّما في إيطاليا مع بداية من القرن الرٌابع عشر، إذ خصّــــص لها الشٌاعــر الايطالي الكبير بتــــرارك (1304 - 1374) حيّزا هامّا في ملحمة شٌعريٌة بعنـــوان «أفريكا» الّتي مثّلــــت تحــــوّلا كبيرا في فنّ الكتابة الأدبيّة لمّا نشرت بعـــد وفاته بعشـــرين سنة.
وفي سنة 1514 ، خصّها الكاتب المسرحي الإيطالي الشٍهير جيورجيو ترسينوبمسرحيّة كاملة مثّلت في زمنها حدثا أدبيا ومسرحيا بارزا لأنٌها اعتبرت أوٌل عمل درامي متكامل ظهر خلال النّهضة الأوروبيّة. وقد ترجمت تّراجيديا ترسينو حول صوفونيبه بعد أن لقيت نجاحا كبيرا على مسارح إيطاليا، إلى العديد من اللٌغات الأوروبية ، وكانت منطلقا لكثير من المسرحيّات الشّهيرة الأخرى وأعمال الأوبرا التي بنيت تباعا على هذه الشّخصيّة منذ ذلك الوقت وحتّى القرن التّاسع عشر بكلّ من فرنسا (مسرحيّات جان ميري وبياركورناي وفولتير ونيكولا دي منترو...) وأنقلترا
(جون مونسترون وتومسون) وألمانيا (دانيال فون لوهنشتاين) وفي غيرها من البلدان.
هذا إلى جانب العشرات من أعمال الأوبرا والأعمال الموسيقيّة والسّينمائيّة الّتي أثّثت مسارح أوروبا ولا تزال إلى اليوم تنتج وتعرض بكلّ مسارح العالم والعشرات من الأعمال التّشكيليّة التّي تبارى عدد كبير من أشهر الفنّانين الكلاسيكيّين الغربيّين في تصويرها أو نحتها.
ولا بدّ أن نشير في خاتمة هذا العرض السّريع إلى رواية الكاتب التونسي رفيق الدّرّاجي التي نشرها سنة 2005 باللّغة الفرنسيّة تحت عنوان «صوفونيبه، مجد قرطاج» وإلى قصٌة الكاتبة علياء بكار برناز بعنوان «صوفونيبه، أميرة قرطاجيٌة وملكة نوميديٌة» التي أصدرتها باللٌغة الفرنسيّة أيضا وفي إخراج طريف لدار نقوش عربيٌة سنة 2016.
أبوبكر بن فرج
- اكتب تعليق
- تعليق