القضاء والقضاة للمنّوبي زيّود

من الكتب التي استهوت القرّاء ورحّب بها النقّاد في الأشهر الأخيرة كتاب المنّوبي زيّود «القضاء والقضاة، مفهوم القضاء وتاريخه، شروطه وآدابه، نوادر القضاء «الصادر عن دار «نقوش عربية»  والذي كنّا قدّمناه في عدد سابق من مجلّتنا (العدد 49 - 15 جانفي 2020).

يتميّز الكتاب بطرافة المضمون وجزالة التعبير وأناقة الأسلوب وفيه يتناول المؤلَّف بمنهج علمي صارم مسألة القضاء بالرجوع إلى التراث العربي الزاخر بنماذج عن القضاء ونوادر القضاة. وإلى جانب نوادر جديدة امتاحها المنوبي زيّود من تجربته قاضيا تخيّر من التراث نصوصا «تتوفّر على عمق الرؤية وقوّة المنطق تصلح أن تكون سراجا في أوقات الظلمة وانفراجا في زمن الكُربة والغمّة لا لنمجّد به تاريخنا وتراثنا بل لنلمس الجدّة في التراث ونترك الغثّ منه ونستفيد ممّا تركه أجدادنا من ميراث»، كما جاء في المقدّمة.

وليست الغاية من قراءة تاريخ  القضاء، في نظره، تمجيد القضاء أو تبخيسه وإنّما تجاوز التاريخ المعلوم قصد استخراج القيم الإنسانية  الخالدة منه «لأنّ القضاء ينبني على قيم العدل والمساواة والإنصاف».

والمنّوبي زيّود قاض سابق ومحام لدى التعقيب صدرت له أعمال أدبية وقانونية منها مجموعتان قصصيتان ومسرحية وكتاب بعنوان «محاكمات الفكر والإبداع» وروايات عديدة منها «دفاتر موسى الجلّاد» التي نالت جائزة كومار للنصّ الروائي البكر سنة 2005 ورواية «ليالي حارس البرج» الفائزة بالجائزة الأولى لمدينة تونس سنة 2008 ورواية «الجنون» الفائزة بجائزة توفيق بكّار للرواية العربية 2018.

ورقـــات من كتاب

النوادر الجديدة

ومن نوادر القضاة أنَّني سمعت نادرة طريفـــة عندما كنت في مجلس قضاء المحكمة الابتدايية بقفصة في السنة 1981-1982.

فقد روي لي أحد الزملاء ما حصل لرئيس المحكمة في العقد السابق من زمننا ذلك قال : خرج رئيس المحكمة في يوم قائظ للنزهة قبل غروب الشمس يصحبه بسيارته زميل له. فلما سارا نحو ميلين إذ وجدا عونين من الحرس الوطني يستظلّان تحت شجرة على الطريق. فأشارا على السيّارة بالوقوف. فقال أحد العونين للسائق رئيس المحكمة الذي لا يعــــرفه : لن أطلـــــب منـــك أوراق الســـيّارة.

لقد تعبت أنا وزميلي من حرارة الطقس والوقوف على قارعة الطريق فهل أن تمتّعنا بأغنية. فابتسم الرئيس وقال : لك ما تريد. فأراد زميله أن يؤنّب العون فهمزه الرئيس ثمّ وجّه السؤال إلى العون : أتريد أغنية من التراث أم من الطرب الحديث؟ فقال العون : أمتعنا بما شئت. فترنّم الرئيس بأغنية من أغاني صليحة. فَلَمَّا فرغ قال له العون : أحسنت. صحبتك السلامة أنت ومن معك. فرفض الرئيس السير وقال للعون : لقد طلبت منّي الغناء فأنشدتك وقد أتى دوري لأطلب منك أن ترقص وأنا أصفّق لك. فاغتاظ العون ناهرا إيّاه قائلا : أتجرؤ أن تطلب من السلطة الرقص. فقال الرئيس : وإذا كانت سلطتي أقوى من سلطتك. وأخرج من جيبه بطاقته المهنية. فصُعق العون وطلب العفو وكاد يحبُو أمام قدمي القاضي الذي أصرّ على طلبه. فأسرّ العون إلى زميله الواقف تحت الشجرة فأشار عليه بتلبية الطلب. فطفق العون يرقص والقاضي يصفّق. ثمّ أتى للقاضي وقال : اعذرني فأنا البادئ والبادئ أظلم. وإنّما فعلت ذلك للترويح عن النفس القلقة وما كنت أجرؤ على ما فعلت لو كنت أعلم أنَّك قاض. فابتسم الرئيس وقال لا : لا بأس. واحدة بواحدة. صحبتك السلامة. وواصل سيره. ص 152، ص 153

**************

وحدّثني أحد المحامين قال : رافقت أحد القضاة في توجّه على عين محلّ النزاع وكان عقّارا شاسعا ليس فيه إلا زياتين. فنصب لنا المدّعي طاولة وكراسي تحت زيتونة. وكان ذلك القاضي زمّيتا ركينا كأنّه يــــريد التحكّم في الهــــواء والتـــراب فلا يطيق طنين ذبابة أو صوت جدجد. فصادف وهو يلتقــــي بيّنة المدّعــــي أن مرّ أعرابي يسوق حماره وقد نهق الحمار وروّث وصــــاحبه يضربه بالصوت فصاح القاضي في وجهه : قف. قف يا هذا! ألا تدري أنّها محكمة !؟ فالتفت إليه الأعرابي وهــــــو لم يعرفه وقال : وهل صارت زياتين فلان محكمة !؟ ص 155

**************

مثل رجلان أمام قاضي الجُنح من أجل تهمة تبادل العنف الشديد. وقد أقرّ كلاهما بالجرم وشهد بمثله الشهود. فسأل القاضي كلّ متَّهم عن مهنته فقال الأوّل بنّاء وأجاب الثاني : نسّاج. فقضى على البنّاء بالسجن وقضى على النسّاج بترك السبيل. فقيل  له: ما الفرق بينهما حتّى تقضي عليهما بهذا الحكم؟ قال : الأوّل يعمل في الهواء المطلق. أمّا النسّاج فهو محبوس كامل نهاره في حانوت الحياكة فلا نريده حبسا على حبس. ص 155، ص 156

**************

جاءني شابّ لطيف مُهذّب في مثل سنّي عندما كنت قاضيا في محكمة في الجنوب، زميل في الدراسة كان لي، فظهر عليه في القول من التردّد ما رابني. فرجوته أن يصارحني بما لديه بعد أن تذاكرنا أشياء لطيفة عن زمن الدراسة. وكنت متعوّدا على أن يستوقفني أحدهم ويسألني في مسألة عن القانون للاسترشاد. فلمّا استأنس بي واطمأنّ إليّ قال : الآن في كُربة ما أظنّ أنّ أحدا مثلي قد عاشها أو تعرّض إليها. ولا شأن لعملي فيها فأنا موظّف مستور الحال بعيد عن السؤال، أقوم بوظيفتي على أقوم وجه حتّى إذا كنت في يوم من الأيّام أسير على رصيف شاطئ إذ اعترضني شخص وسلّم عليّ بحرارة هاشّا باشّا وطلب منّي أن أشرب معه قهوة فاعتذرت وأنا في الحقيقة لا أعرفه وقد استغربت من عرضه إلى أن قال لي : إلى أين وصلت قضيّتي؟ وما الــــذي أنجـــــزته لي؟ فاستغــــربت مرّة أخرى من قوله فأظهر بدوره من الاستغراب آكثر ممّا أظهرت ثمّ بعد يومين استوقفني شخص آخر وقال لي : يا رجــــل، من العيب أن تنسى أقاربك ولا تحضر في جنازة ابن خالتك فلان الفلاني.

وفِي الحقيقة لم تكن لي خالة أو خال بل عمّة وأعمام. وفي اليوم الموالي عندما كنت بمكتب المدير في الإدارة الجهويّة التي اشتغل فيها دخلت سكريتيرته فنظرت إليّ بوجه باسم ورحّبت بي وسألتني: إلى أين وصلت قضيّتي؟ فلمّا رأت إنكاري لها أضافت:

تلك الكمبيالات التي سلّمتها إيّاك ما هو مصيرها؟ فلمّا زدت إنكارا لها سألتني : ألست الأستاذ فلان المحامي ؟ وهكذا تواصلت محنتي مع حرفاء ليسوا في الحقيقة حرفائي حتّى تأكّدت أنّ شخصا يشتغل محاميا هو شبيه لي. وقد استوقفني مرّة أحدهم وعرض عليّ مبلغا ماليا قال إنّه تكملة لأجرة قضيّة كلّفني بها .فلمّا أنكرت القضيّة وأجرتها وقف مندهشا فعالجته بالقول : لست محاميك. وما أنا بفلان الفلاني. فو الله يا سيّدي القاضي بقيت في حيرة من أمري وما زاد من حيرتي أنّني لم أتجرّأ على الذهاب إلى مكتب المحامي الذي هو شبيه بي ووجدت حرجا في اللقاء به والتحدّث إليه حيث صرت ألزم داري أكثر من الخروج إلى الشارع. فلمّا فرغ من مقالته رقّ لحاله قلبي فعرضت عليه أن ألاقيه بشبيهه في موعد ومكان معيّنين. حتّى إذا التقيا طفق كلّ واحد ينظر إلى الآخر باستغراب شديد، وكانا مثل توأمين لا فرق بينهما في الملامح وحتّى في الطول والعرض. فعرضت على أحدهما مازحا أن يطلق لحيته وعلى الأخر أن يواظب على حلقها. كما عرضت على زميلي في الدراسة أن يلبس نظّارات واقية من أَشِعَّة الشمس في حين أن يلبس المحامي نظّارات بيضاء وحاولت أن أقترح على كلّ واحد منهما ما يبعد الشبه لدى الناس مع صاحبه.

وبعد أشهر افتقدت ذلك الصديق الموظّف فسألت عنه فقيل لي: إنّه قد طلب نقله من العمل من الجنوب إلى الشمال وسوّغ داره ورحل مع زوجته. وما تذكّرته بعد ذلك إلا عندما قرأت رواية الأديب البرتغالي خوزيه ساراماغو الحائز على جائزة نوبل للآداب وعنوانها : «الآخر مثلي» تروي محنة رجل تضايق كثيرا من وجود شبيه مثله. ولمّا انتهيت منها طويت الكتاب وقلت في نفسي:

الحمد لله أن كانت قصّة صديقي أحسن حالا وأرفق مآلا من نهاية بطل تلك الرواية. ص 156، ص157

**************

نـوادر مـن التـراث: فــراسة القـاضي دليـــل على كفــاءته

أ- النصّ

«وقال : خرج إياس بن معاوية، فسمع نُباح كلب فقال: هذا كلب مشدود ثمّ سمع نباحه فقال : قد أُرسل. فَانتَهُوا إلى الماء فكان كما قال. فقال له غيلان أبو مروان : كيف علمت أنّه موثوق وأنّه أُطلق؟ قال : كان نُباحه وهو موثوق يُسمع من مكان واحد، فَلَمَّا أُطلق سمعته يقرُب مرّة ويبعد مرّة، ويتصرّف في ذلك.

وقالوا : مرّ إياس بن معاوية ذات ليل بماء، فقال : أسمع صوت كلب غريب. قيل له : كيف عرفت ذلك؟ قال بخضوع صوته وشدّة نُباح الآخر. فسألوا فإذا هو غريب مربوط والكلاب تنبحه» ¹

وكان يوما في بريّة. فأعوزهم الماء، فسمع نُباح كلب. فقال : هذا على رأس بئر، فاستقرّوا النباح، فوجدوه كما قال، فقيل له في ذلك، فقال : لأنّي سمعت الصوت كالذي يخرج من بئر».²

ب- التحليل 

هذه ثلاث نوادر أورد الجاحظ اثنتين منها في كتابه الحيوان في حديثه عن طبائع الكلاب وأورد الأخير زيد الفيّاض في كتابه عن القاضي إياس بن معاوية. هي نوادر تُظهر فراسة القاضي إياس بن معاوية وهو المشهور بذكائه وسرعة بديهته وفي هذه النوادر

تغلب الفراسة على الذكاء، لأنّ الفراسة «في اللغة : التثبّت والنظر. وفي اصطلاح أهل الحقيقة : هي مكاشفة اليقين ومعاينة الغيب»³ ينقدح ذهن القاضي إياس نحو المعرفة فيحكم بأنّ الكلب تارة على رأس بئر وأخرى موثوق وفي حالة ثالثة فقد أرسل من مربطه. فهل ذلك يُعدّ كشفا للغيب دون معاينة للميدان كما جاء في اصطلاح أهل الحقيقة أم هو التثبّت والنظر كما جاء في اللغة؟ والتثبّت يقتضي الرويّة وإعمال العقل، أمّا النظر فيقتضي التدقيق. لأنّ فعل نظر يعني لغــــةً نظر في الأمر : تدبّره وفكّـــر فيه يُقدّره ويقيسه.

وقد يقتضي النظر التبصّر والفصل فيُقال نظر بين الناس أي حكم وفصل دعاويهم. كما يُقال عن الحكيم أو العالم إنّ له بُعد النظر.
ولا ينقص إياسا بُعدُ نظر. وقد قدّر نُباح الكلب وقاسه فعرف حال الكلب وموضعه من صوته. فهل استعمل القاضي إياس القرينة وهي من وسائل الإثبات القانونية وتعني استنباط شيء مجهول من شيء معلوم؟ والذين درسوا أقضية إياس بن معاوية يدركون أنّه سيّد القضاة في استنباط القرائن وأذكاهم في فرز الأشياء من بعضها مهما التبست.

لقد برّر إياس حكمه في حال الكلب فتثبّت مرافقوه من ذلك فتيقّنوا من صحّة حكمه. والفراسة تتطلّب الحذق بل هي الحذق نفسه وقد اشتهر بعض العرب بها لانقداح معارفهم بحكم تجاربهم. فهي موهبة تصقلها التجربة وتجارب العرب كثيرة مع محيطتهم وبيئتهم وخاصّة حيواناتهم الأليفة.

وليس لنا اليوم ونحن نقرأ هذه النوادر إلّا أن نتساءل : لو كان مثلُ إياس بن معاوية بيننا الآن ألا يستحقّ منصب قاضي تحقيق أوّل في مراتب قضاة التحقيق؟

---------------
1 -الجاحظ- كناب الحيوان، المجلّد الأوّل، الجزء الثاني- دار الكتب العلمية بيروت. الطبعة الثانية 2003 ص.ص 292-293.
2 - زيد الفيّاض- القاضي إياس بن معاوية- دار الألوكة للنشر- المملكة السعودية. الطبعة الأولى 1437 هـ .ص 106.
3 - على الجرجاني- كتاب التعريفات- دار الكتاب العربي-بيروت. الطبعة الثانية 1992، ص 212.