عامر بوعزة: المعرف الوحيد في مواجهة البيروقراطية
في أحدث حوار صحفي معه تحدث لطفي زيتون وزير الشؤون المحلية عن الانعكاسات الإيجابية المرتقبة للمعرّف الوحيد حال دخوله حيز الوجود، وأكّد أن العمل جار حاليا لربط قنوات الاتصال بين مختلف المؤسسات الحكومية من أجل تيسير النفاذ إلى قواعد البيانات وتخفيف العبء على المواطن، وقدم مثالا على ذلك الصناديق الاجتماعية التي تتحصل سنويا على ستة ملايين مضمون حالة مدنية يستخرجها المواطن من البلديات!! ويمكن التخلي عنها بتمكين هذه المؤسسات من النفاذ إلى قاعدة بيانات الحالة المدنية الكترونيا. لكن في سؤال عما إذا كانت وزارته تنوي القيام بإجراءات مماثلة في الخدمات الإدارية البلدية الأخرى كالمطابقة بالأصل والتعريف بالإمضاء قال الوزير إن هذه الخدمات تمثل موردا ماليا محترما يصعب حاليا حرمان البلديات منه لا سيما في ظل المصاعب المالية التي تمر بها!
هذا التناقض الذي صدر عن السيد الوزير يمثل جزءا من مشكلة الدولة مع البيروقراطية، فهي تعترف دائما بأنها عبء على المواطن وبأنها حجر عثرة في سبيل التنمية ومظهر من مظاهر التخلف لكنها تعشقها وتفعل كل شيء من أجل استمرار وجودها، وتجد لذلك مبررات شتى، منها مثلا أن يكون التعريف بالإمضاء (وهو من أسخف مطالب الإدارة التونسية) موردا ماليا للبلديات! بينما ينبغي إيجادُ حلول راديكالية لمسألة التهرب الجبائي لا الالتفاف عليها بالبحث عن موارد ثانوية.
وهذا التناقض بين ذمّ البيروقراطية والتلكؤ في القضاء عليها هو الذي جعل مشروع "المعرف الوحيد" يظل يراوح مكانه منذ أكثر من عشرين عاما، ناهيك عن أن التصريحات الحكومية بهذا الخصوص لا تطمئن كثيرا، إذ أنها لا تتضمن تصورا متكاملا للحوكمة الالكترونية التي ينبغي أن تتأسس على هذا المعرف بهدف التخلص نهائيا من الورق في كل المعاملات الإدارية، فوزير تكنولوجيات الاتصال في أول حوار له بعد صدور القانون في الرائد الرسمي أطنب في الحديث عن المعطيات الشخصية وعن المحاذير والضمانات التي سيقع توفيرها حتى لا يكون هذا المشروع مدخلا لانتهاك الخصوصية، لكنه عندما سئل عن الكيفية التي سيتم اعتمادها في تمكين المواطنين من هذا الرقم وما إذا كان بديلا عن بطاقة الهوية، أجاب بالنفي، فالمعرف لا يعني بطاقة جديدة وليس تعويضا لبطاقة التعريف! ومع ذلك فسيكون كل المواطنين مطالبين بالذهاب إلى ضباط الحالة المدنية في البلديات والقنصليات للتسجيل في المعرف الوحيد، ويقول لطفي زيتون إن التنفيذ الفعلي للمشروع سيبدأ في غضون سنة بعد استكمال بعث الهيئات المنصوص عليها في القانون.
أما شوقي قداس فيعتبر وجود الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية التي يرأسها ضمن المتدخلين الأساسيين في هذا المشروع من بين العناصر المميزة للتجربة التونسية. مؤكدا أن المعرف الوحيد التونسي لا نظير له في التجارب المقارنة، فهو لن يمثل قاعدة بيانات واحدة تجمع كل المعطيات المتعلقة بالمواطن لأن هذا الأسلوب معمول به حسب رأيه في الأنظمة الشمولية، بل سيمثل نقطة تقاطع مركزية بين مختلف البيانات القطاعية، وتنكب المصالح المعنية في المرحلة الراهنة على ضبط المجالات المشتركة بين مختلف الهياكل والامتيازات المخولة لكل مستخدم بحسب طبيعة اختصاصه.
إن المعضلة الأساسية التي ينبغي الانتباه إليها هنا هي أزمة الثقة بين المواطن والسلطة. فبعد التصريح منذ أكثر من سنتين بأن بطاقة التعريف البيومترية جاهزة للتنفيذ توقف المشروع في البرلمان لأسباب تتعلق كلها بالمعطيات الشخصية، ويغلب الآن على التساؤلات المحيطة بالمعرف الوحيد الهاجس الأمني قبل أي هاجس آخر، وهذه التخوفات لا تعود فقط إلى المخلفات النفسية لعهود الاستبداد بل إلى تجارب حديثة استخدمت فيها البيانات الشخصية لاستقطاب الأصوات الانتخابية وتوجيه العملية الديمقراطية، من ثمة كان التنازع الحزبي على وزارة تكنولوجيا الاتصالات أمرا مريبا للغاية عند تشكيل كل حكومات الائتلاف الوطني منذ 2014.
وهذا ما يعني أيضا أن استرسال الوزراء والمسؤولين في الحديث عن الضمانات لا يعني شيئا في ظل التداخل المزمن بين الإداري والسياسي، لأن إمكانية الاطلاع على البيانات واستخدامها من قبل أي موظف إداري فاسد في شأن حزبي سيظل قائما، والحل لا يكمن في تعطيل هذه المشاريع بل في أخلقة العمل السياسي وفرض القانون والقطع مع سياسة الإفلات من العقاب، ويذكر هنا مثلا أن القضايا التي أثيرت إبان الحملة الانتخابية الرئاسية عن التزكيات المغشوشة ذهبت إلى النسيان ولم يقع تتبع المتورطين فيها جديا..
تتطلب الرقمنة الشاملة تجاوز هذا الحاجز النفسي والمضي بكل شجاعة في الدمج بين المعرف الوحيد والمضمون وبطاقة التعريف، ليصبح كل مواطن منذ ولادته حاملا لبطاقة هوية تتضمن معرفا وحيدا، وتسمح هذه البطاقة لكل جهة إدارية بالاطلاع الكترونيا على البيانات المسموح لها ضمن اختصاصها بالاطلاع عليه. وتسعفنا التجارب المقارنة بإجابات عملية حاسمة بخصوص المؤيدات التي ينبغي توفرها الكترونيا عند القيام بالمعاملات الإدارية والبنكية كاستخدام رقم هاتفي محمول يقع التصريح به رسميا في المعرف الوحيد ويكون أداة أساسية للتعريف بهوية المستخدم، ولقد أثبتت أزمة كورونا بما لا يدع أي مجال للشك أن المجتمع التونسي مؤهل لاستخدام تكنولوجيا الاتصال الحديثة في عدة مجالات حيوية خلافا للتخوفات التي تستخدم عادة للتسويف والإرجاء وتعطيل الرقمنة، ويخشى اليوم أن تمثل المحاذير المتعلقة بحقوق الانسان والمعطيات الشخصية قيودا إضافية تستخدمها النخب لتبرير التخلف، لا سيما أن مفهوم الخصوصية متحول، والبيانات الشخصية أضحت بفعل التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت بمثابة البيانات المفتوحة.
عامر بوعزة
- اكتب تعليق
- تعليق