الشاذلي القليبي : بورڤيبــة والعـمل الثقـافـي
نهضتنا الاجتماعيّة، التي انطلقت إثر الاستقلال، كانت متولِّدة عن المبادىء التي نَهَج لها الرئيس بورڨيبة، من خلال مقرّراته السياسيّة الجريئة، لكن معزَّزةً بعمل ثقافي رائد، تعاقبت عليه ثُلّة من الوزراء، تَميَّز كلّ منهم باجتهادات خاصّة ؛ لكن جميعها كان في تجاوب مع المقاصد التي أرادها المجاهد الأكبر.
والحقّ أنّ هذه النهضة لَجديرة بأن تُعتبر ثورة سِلميّة، لأنّها غيّرت نِظرة المجتمع إلى سالف أوضاعه. فقد كان مجتمعنا، طيلة قرون متتالية، مُحافِظا، في كلّ المجالات، متمسِّكا بأنماط تقليديّة، يعتبرها الجميع من أركان الذاتيّة الوطنيّة . ولمّا انتصبت الحماية – وكان من أهدافها «فَرْنسةُ» مجتمعنا، لُغويّا واجتماعيّا وحضاريّا – تصَدت لها القُوى الوطنيّة، بالكفاح السياسي، وبالنضال الاجتماعي، حمايةً للتقاليد المجتمعيّة، أن تندثر..
الزّعيم بورڨيبة نفسه – الذي سيكُون، في عهد الاستقلال، قائد الدّعوة إلى التّحديث والتّطوير، خــاصّة مـــن أجـــل تحـــرير المرأة – فقــد كـــان، هو أيضـــا، في العهد الاستعماري، من المعارضين للمنظّمة النِّســائيّة، في دعوتها إلى إلغاء الحجــاب. وكــان، إذّاك، يقــول إنّه من رموز الانتماء الوطني، والواجب يَفرض الإبقاء عليه، لحماية الذاتيّة الوطنيّة، التي يُريد المستعمر طمسها.
لكنّه، بعد تحرير الدولة من قبضة الاستعمار، إذا الرئيس، بكلّ ما عُرف به من عُنفوان، يتزعّم تحرير المجتمع، ممّا ران عليه من جُمود، طيلة القُرون الماضيّة ؛ ويأمر بإلغاء التقاليد البـــاليّة – وفي طليعتها الحجاب – داعيا إلى التمييز بين الصالح منها، وما هو مُعطِّل للتطوّر والنهوض : وذلك وجهٌ من أهمّ ما سمّاه بمعركة «الخـــروج مــن التخلّف».
ثمّ إنّ الزعيــم بورڨيبـــة لا شكّ أنّــه، لو كان لا يزال في شبابه، عند انطلاق «ثورة الشباب والكرامة»، لَكان أوّل المُعتزّين بها، ولأيّدها بكلّ اجتهاداته الفكــريّة، ونضالاته السياسيّة.
لكنّ الرئيس بورڨيبة، زعيم الحداثة، لو كانت إذّاك عينه حيّة ناظرة، هل يكُون راضيا عمّا عمّت به «الموضة» اليوم، من اتّخاذ أنواع القبّعـات الإفرنجيّـــة – «هـــذا وقت البرنيطة»– تطلّعا إلى اكتساب مظهر من مظاهر الحداثة؟
ذلك أنّ المجـــاهد الأكبر، في تـــزعّمــه حملة التّحديــث، اقتحـــم مجـــالات أســاسيّة – لم يسبقه إليها أحد، في البلاد العربيّة والإسلاميّة – وفي طليعتـــهـــا جعـــل الأولويّة لاعتبار المقاصد، منها تُستمدُّ القواعد، بحسب تغيُّر الظّروف والمصالح، لأنّ من جوهر الإسلام التّمهيد للتطوّر الإجتماعي.
ومن المجالات التي اقتحمها المجاهد الأكبر أنّه أمر بإبطال العمل بما كان يُسمّى «الأرقام الهنديّة»، وتعويضِها بالتي تُعرف، تاريخيّا، بـ»الأرقام العربيّة» : وهي التي عمّ استعمالها، في سائر البلاد المتقدّمة اليوم. وهو يقصد بذلك، معا، تأكيدًا للأصالة التاريخيّة، وتيسيرًا لمستقبل التعاون مع العالم المتقدّم.
وممّا كاد ينفرد به الرئيس بورڨيبة أنّه كان ينظر، بعين الاعتبار والاهتمام، إلى سائر مراحل تاريخ البلاد : فكان أوّل مَن دعا، في خُطَبه، إلى أن تتولّى المدارس تلقين الشّباب المعلومات اللاّزمة عن كلّ مكوّنات تاريخ البلاد : شاملا فيها مختلف المراحل السابقة للعهد الإسلامي. وفي ذلك تأكيد لمختلف أوجه الذاتيّة التونسيّة، وتثبيت لتوجّهات إنسانيّة، تُهيّء المجتمع للتعامل، بأريحيّة كريمة، مع سائر المجتمعات التي تقتضي المصلحة التّعاون معها.
ولأنّ الرئيس بورڨيبة كانت له ثقافة عربيّة متينة، وإلمام واسع بالحضارات الإنسانيّة – مِن كِليهما، اكتسب دراية بعُمق تأثير العمل الثقافي في تطوير المجتمعات – فقد كان يدرك ما يكُون للتعليم والثقافة من إسهام، في تركيز النهضة الاجتماعيّة، بكامل البلاد، ولدى سائر الفئات الشعبيّة.فوضَع للتعليم خطّة تهدف إلى التعميم، وإلى تَفتُّح المجتمع على عصره، وإلى جعْلِ الشباب يَجمعـــون بين الاعتـــزاز بثقــــافة وطنهم، وبين الإلمـــام بالحضارات الإنسانيّة، التي كان لأجدادهم إسهام في بعضها ؛ ممّا يجْعلهم يَقودون حـــركة التطويـــر : خاصّة بفضل ما يَحصل لهُم من إعمال العقل، ومن القدرة على التمييز بين الشكل والمضمون، في القضايا المصيريّة، ومـن الدربة على طلاقة التعبير، بلسان عربي مبين – دُون ما يخالط، أحيانا، لِسان الكثيرين، اليوم، من رطانات، وكأنّ لُغتهم عاجزة عن السيطرة على المعاني العصريّة، وعن خلجاتها في الفكر.
ثمّ إنّ الرئيس بورڨيبة أنشـــأ وزارة، مـــن رسالتها المساهَمة في نشر الوعي المجتمعي، والمساعَدة على تثبيت عقليّة التطوّر، في مختلف فئات المجتمع، سمّاها وزارة الشؤون الثقافيّة، حمّلها رسالة حضاريّة لم يسبق لها مثيل، في البلاد الساعية إلى النموّ والتطوّر.
ولعلّ أوفق مدخل إلى التبسّط في مختــلف وجوه هذه الرسالة، سؤال أُلقي في أحد الاجتماعات التي كنتُ أعقدها : إذ قال أحد الحاضرين – وكان من أسرة التعليم – «لنا وزارة للتربية الوطنيّة، فلماذا نحتاج إلى وزارة للشؤون الثقافيّة ؟».فممّا أجبتُ به، إذّاك – وربّما أيــضا في مَواطن أُخرى – جملة من المسائل، قد يكُون من المفيد التذكير بها، ولو مختصرة، مقتضبة.
من ذلك أنّ أعمال الوزارة الجديدة مُتّجهة إلى جميع مكوّنات المجتمع – لا إلى الطفولة والشبـاب فحسب – وذلك بجعلهم قادرين على الإسهام في النهضــة الاجتماعيّة، التي تهدف إلى رفع مستوى الفئات الشعبيّة، لِجعلهم يُدركون المقاصد التي ترمي إليها، لفائدتهم، ولصالح المجتمع، عامّة.
ومن إجاباتي، أيضا، توضيح مفهوم الثقافة، وبيان أهمّية وسائل العمل الثقافي، في غرْس جُذور النهضة الاجتماعيّة.
فقـــديما كــان المثقّــف هــو الــذي قام بدراسات عالية ؛ والثقافة إذن تتولّد عن تلك الدراسات، بالإضافة إلى ما يُؤخذ من الكُتب. أمّا الفنون، فكانت معتبرة لعِبًا ولَهوًاً.
أمّا في عهد النهضة، فقد شمــلـــت وزارة الشؤون الثقـافيّة سـئـر الفنون الموسيقيّة والتشكيلـــيّــة، وكـــذلك الــــمســـرح والسينما. والمثقّف ليس بالضرورة الحامل لشهادات عالية ؛ بل كثيرا ما يكُون الذي اجتمعت لديه جملة من المعارف القاصدة، وله فيها من الإجتهادات ما يُميـّزه، ومــا يخــدم المجموعة الوطنيّة.
وبعْد أن كان الكِتاب يُعدُّ الوسيلة الأساسيّة لاكتساب الثقافة، إضافة إلى الدروس العالية، فإنّ الوسائل السمعيّة البصريّة – التي تعمّ كلّ المجالات، وتنفُذ إلى أقاصي البلاد، ويغلِب أن تكُون في تناول سائر الفئات الاجتماعية – قد أصبحت في طليعة الوسائل الكفيلة بِنشر الثقافة.
وبذلك بدأ التحقيق، تدريجيّا، لأهمّ المقاصد التي كان يرمي إليها الكفاح التحــريري : وهي تحرير الفئات الشعبيّة مــن الجهل – الذي هـــو مـن أكبــر أسبـــاب «التخلّف» – وتعميم «الديمقراطيّة الاجتماعية»، التي من فوائدها تعميم القدرة على فهْم القضايا العامّة، وتهيئة الأجواء لتركيز «الديمقراطيّة السياسيّة»، التي إقامتها من وظائف النظام السياسي، ومن دعائمها نشر «الديمقراطيّة الاقتصادية»، التـــي هي من أهمّ عوامل الوفاق الوطني ؛ وكلّ ذلك في كنف السّعي الدّائم لتحقيق العدالة، سياسيّا، واقتصاديّا وقضائيّا.
وبتضافر المساعي الراميّة إلى تثبيت أركان النهوض الحضاري – السياسي منها والاجتماعي والثّقافي – فقد بدأت، فعلا، تتغيّر ملامح المجتمع، وتتطوّر قُدراته على محاورة سائر الأمم المتقدّمة التي يحتاج إلى التّعاون معها. فكان، بفضل التوجُّهات، الإنسانيّة والحضاريّة، التي فتَحتها له التوعية البورڨيبيّة، أجدر بالاحترام، لأنّه أقدر على تبيّن مصالحه، والذود عن حقوقه. وفي ذلك، دعمٌ للتقارب بين المجتمعات الإقليميّة، العربيّة وغير العربيّة، بواسطة تقارب وجهات أنظارها، وبروز مِساحات متنامية من التعاون بينها، عند معـــالجة المشاكل المشتركة. أليس ذلك تمهيــدا لإقرار السلام، في المجتمع الدُولي؟
لكن، كذلك، من وظائف العمل الثّقافي، التي اهتمّت بها الوزارة، إيقاظ الضّمائر إلى معاني المنزلة الإنسانيّة، وجعْل المجموعة الوطنيّة تتطلّع إلى إدراك ما يَكتنف المصير الإنساني من مغلّقات الغيب : وثقافتنا العربيّة، وحضارتنا الإسلاميّة، بما تتميّزان به من نشر مبادئ التضامن، ومن اعتماد العقل، وأخْذ بالأيسر، أليستا على جدارة عالية بأن تكُونا، لثورتنا القائمة، من أهمّ مصادر الاستيحاء – إضافة إلى ما لا يزال نابضـا، لدى المجتمـع، من الإرث البورڨيبي ؟
ومن المفيد أن نذكِّر بأركان الثقافة الإسلاميّة، وكذاك بأهمّ المفاهيم البورڨيبيّة.
أركان ثقافتنا الإسلاميّة
أمّا ثقافتنا الإسلاميّة، فمنبعها مؤسّسة جامع الزيتونة، التي امتــاز أغلب مشـــائخها بسعة العِلم، واعتدال الرّأي، ودائم الإشعاع على البــــلاد التـــونسيّة – وعلى الـــبــلاد المجــاورة.
فالإسلام، بفضل هذه المؤسّسة المباركة، متأصّل، منذ قرون، في جميع فئات مجتمعنا : فلا حاجة بنا إلى حملات جماهيريّة، للتوعيّة بتعاليم الإسلام، إذ هي حاضرة ثابتة، جيلا بعد جيل، في ضمائر الجميع، كافّةً.
ثمّ إنّ ما قام به الرئيس بورڨيبة من أعمال تحديثيّة، فمـــن خـــلال اجتهادات، طِبْقا للمنطق الإسلامي – لا من خارجه، مثل ما فعل أتاتورك – وبالاستناد إلى آيات قرآنيّة، مثل التي تتعلّق بتعــدّد الزّوجـــات، وتعذّر العدل والإنصــاف بينها، جميعـــا – وفي ذلك إشارة إلى أنّ الإسلام يُحبّذ الاقتصار على زوجة واحدة.
أمّا الحجــاب، فالآية المتعلّقة به واضحة، إذ تقول إنّه على المؤمــنات أن «يَضـــْربْن بخُمُرِهنّ على جُيوبهنّ»، لستر الجيد، كما جاء في تفسير الشيخ ابن عاشور – ولا شكّ ما يليه من المفاتن.
أمّا فيما يتعلّق بالقضايا الحضاريّة العامّة، فالذي يُؤخذ، من الكثير من الآيات، وجوبُ اقتران الإيمان بالصالحات، وإشاعة التّضامن والتّراحم بين النّاس. فالأعمال الصالحة والمعاملات الوفاقيّة، أليـــس كلٌّ مــن هذه وتلك، عند التأمّل، لَممّا ينفع العِباد والبلاد؟ وهي جميعا عِماد الوئام الاجتماعي. وحبّذا لو تلتزم بها أغلبيّة المواطنين : فتتكـــاثر الأعمال التي تنهـــض بالمجتمـــع، فكريّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، والتي، بفضلها، يَشيع التّضامن والتّعاون، في كلّ الأحوال، وبين جميع الفئات الاجتماعيّة.
وجوه من الإرث البورڨيبي
أمّا الإرث البورڨيبي، فهو جدير بأن يُعتبر من أهمّ مصادر الاستيحاء الحضاري، عندنا ؛ وبالأخذ به تتمكّن ثورتنا القائمة من تحقيق أهدافها. ذلك أنّ البورڨيبيّة تتّسم مبادِئُها بشُمول المعاني الضّروريّة لاستقامة المجتمع، إذ مِن محاورها :
- جعل مقاومة التخلّف في طليعة أولويات الدولة واهتمامات المجتمع، مع توعية المواطنين بما عليهم من واجب الإسهام في هذه المعركة الحضاريّة، الطويلة المدى ؛
- ومن هذا الإرث تعبئة المنظّمات الاجتماعيّة، لتقوم بما عليها من مسؤوليات، في مقاومة التخلّف، ولإقناع الفئات الشعبيّة – وبعض الفئات العالية الغالية أيضا – بواجب التصبّر، نظرا إلى أنّ تحسين الأحوال لا يكون إلاّ تدريجيّا، بحسب التقدّم في تخليص المجتمع من التخلّف، وبقدر ما يتسنّى للاقتصاد الوطني من إنشاء طاقات إنمائيّة، بكدّ أبناء الوطن، مؤزّرا بالتعاون مع مجتمعات متقدّمة. Ù
- ومن إرث بورڨيبة، أيضا، أن تلتزم الدوائر الحاكمة مباشرةَ أعمال التطوير، في تناغم دائم بين القِيم العصريّة والأخلاقيات الإسلاميّة.
- أمّا، في مجــال العلاقات الخارجيّة، فممّا أكّدته البورڨيبيّة اعتبار الروابط، بين الدُول العربيّة، مدخلا أساسيّا لإقامة التّعاون فيما بينها، من أجل النّهوض بجميع شعــوبنا ؛ أمّا العلاقات الخارجيّة، عامّةً، فهي، وسيلة لتسريع التّنمية، في كنف احــترام سيـادة كلّ دولة من دُولنا، وبما يتناسب مع أوضاعها.
مآخذ على البورڨيبية
على أنّنا نعلم ما كان، لبعض الأطراف السياسيّة، من مآخذ على الرئيس بورڨيبة، إذ تتّهمه بالميل إلى الحُكم الفردي، وتنكُّب المنهج الديمقراطي. وهذا محلّ جدال بين الطرفين، إذ الرئيس كان له نظريّة في ذلك : فهو يعتقد أن مجتمعنا لم يبلغ بعدُ درجةَ النُضج، التي تمكّنه من الاستفادة من المنهج الديمقراطي ؛ ويَخشى أن يُفضي ذلك إلى التسيّب، والخروج عن القانون، والتمرّد على مقاصد النهّضة ؛ ويرى أيضا أنّ، في تكاثر الأحزاب، تشتيتًا للجهود الوطنيّة، وإضعافًا لتماسك المجتمع، في زمن لا يزال فيه بناء الوحدة الوطنيّة غير مُكتمِل.لكن، بمرور الزّمـــان، يظهــر أنّ في هـــذه التخوّفات، قدرًا من المبالغـــة ؛ لا ســيّــما أنّ الرئيس أعلـــم النـّـــاس بما تحتاج إليه الديمقراطيّة من توطئة، ومن توخّي المراحل، لتنغرس في العقول.
لكن، اليــوم، أليس الوضــــع على عكـــس مـــا كــــانت عليــه الأمـــور، في العـــهد البورڨيبي: فتعدّد الأحــزاب قد بلــغ أرقــاما خياليّة، قد لا تُصدَّق. أفليــس ذلك عيْنَ الشطط ؟ والتطلّع إلى مختلف الحُرّيات اقترن بأنواع السلوكيات الخارجة عن الجادّة : أليس ذلك من عتبات الفوضى ؟
البورڨيبية الحديثة
أمّا البورڨيبيّة الحديثة، التي يضطلع بالاجتهاد في بلورتها، الجيل الثــاني، ســواء مِـــن حـــول رئيس الدولة، الأستــاذ البــاجي قـــائد السبــسي، أو في دوائــر أخـــرى – وكـــان من الأجدر أن تتضــافر الجهــود بين الجــميــع – فمن رسالتها المساعَدة على إيجاد «كلمة سواء»، تجتمع لديها أغلب القُوى الوطنيّة الفاعلة، عند معالجة القضايا المصيريّة.
وقد وقع فِعلا التّمهيد لذلك، من خلال «وثيقة قرطاج». لكـــن، بمــا أنّـــهــا قـد تناولتها أطراف بالنّقد وعدم الرِضى، فمن الصالح تطويرها، وتطعيمها بالسّديــد من المقترحات – والمنطق البورڨيبي مع التفتّح الدائم لِما هو أفضل.
وفي هذا الصّدد، لا بُدّ من مصارحة القوى الفاعلة في المجتمع – أحزابا ومنظّمات اجتماعيّة – بأنّ النّضال الأوفق إنّما هو بالإسهام في «البيان والتبيين» لوجوه العمل السياسي المستقيم، وللمقاصد الاجتماعية التي لا بُدّ أن تَكون سجاف الخِطط الإنمائيّة؛ وحبّذا لو يُدركون أيضا أنّ التوغّل في المواقف الانتقاديّة، والانهماك في المشــاغبات الفئويّة، لَممّا يُؤدّي حتما إلى الفُرقة، في فترة يحتاج فيها مجتمعنا إلى رصّ الصُفوف – عن طواعية، نعم، لكن أيضا عن وعي، وعن يقظة.
وفي نفس السياق، المتعلّق بصنع التّوافق الوطني، فالـملاحظ أنّ «ثورة الكرامة والشباب» تُعـــاني مــن انخفاض عُنفُوانها. فهي في حاجة إلى وقفة تأمّل، تمكّنها من مراجعة جملة من الأمور، في طليعتها ما يقع فيه الكثيرون من خلط بين العمل الثــوري والتسيُّب الفوضوي. ولأنّ أعمال السّوء تكاثرت، في مختلف المستويات الاجتماعية، فقد يكُون أيضا مـــن المفيد إعادة إرساء الأخــلاقيات الأساسيّة، في العـــائلـــة وفي المجتمــع – بواسطة المدارس خــاصّة – بما يُؤلّف بين حُرّية الرأي، وبين ضرورة التقيّد بالصالح العامّ، والاقتداء بالقِيــم الحضاريّة، والوقوف عند الواجبات الأخلاقيّة.
الأخذ بالثّالوث الحضاري
إذا ما تسنّى لبلادنا الاهتداء إلى إعمال العقل في المقاصد الإســــلاميّة، وإلى إحياء الإرث البورڨيبي، بما تجتمـــع عليه كلمة الأغلبيّة في المجتمع المدني ؛ وإذا ما تسنّى للثورة التزام الانضباط بقِيمها الأصليّة ؛ فإنّ، في هــذا الثــالوث الحـضــاري، ما يُقنـــع الشــباب بأهمّية الأخـــذ بـ«الكيف»، مُـــرجَّحًا على المــــطالبة بـ«الكــمّ» : وذلك بفضــل مـــا يتِــمّ إرســـاؤه، تــدريجـــيّا، مـــن الوئام المجتمعي بيــن المواطنين، ومــن ســداد الحُكم في قمّة الدولة، ومن تقيّد كلّ من أهل الفكر في اجتهاداتهم، وأهل السياسة في ممارساتهم، بما ينعقد عليه الوفاق من مصالح الوطن، دُون سواها من الاعتبارات : فإذّاك إذن تكُــون تــونس مُرشّحة للالتحاق بالدُول المتقدّمة.
وبتضَافُر الجهود الرامية إلى تثبيت الوفاق الوطني، مع السّعي إلى ترويض الثّورة على مسارها الأصلي، فإنّه يكُون لبلادنا، إذّاك، أن تعتزّ، فعلا، بأنّها، كما قِيل عنها، «أرض يزدهر فيها الفكر»، ويُجدي نفعا الحوار الرّصين الشّامل بين أبنائها.
وبذلك يحــقّ لتـــونس أن تتطلّــع إلى استعادة زعـــامتـها الحضـــاريّة، المستنـــدة إلى استقــامـــة تصـــرّفات الـــدولة، وإلى السّعــي الـــدّائم إلى خدمة مصالح الشعب، وإلى التزام ضوابط التّعاون الكريم النّزيه، في علاقاتها مع سائر الدُول المتقدّمة، بحسب «القسطاس [الدبلوماسي] المستقيم».
الشاذلي القليبي
- اكتب تعليق
- تعليق