أخبار - 2020.05.04

مروان العباسي محافظ البنك المركزي التونسي: الرهان الأكبر هو أن تُنقذ مؤسساتنا من الإفلاس وأن نحافظ على مواطن الشغل

مروان العباسي محافظ البنك المركزي التونسي: الرهان الأكبر هو أن تُنقذ مؤسساتنا من الإفلاس وأن نحافظ على مواطن الشغل

في حديث أدلى به لمجلة "ليدرز" يلقي مروان العباسي محافظ البنك المركزي  بعض الأضواء الكاشفة على الأوضاع السائدة بعد تفشي جائحة كورونا وفِي إشارة إلى بعض الاحتمالات والسيناريوهات للخروج من الأزمة، يرجّح سيناريو U الذي" يركِّز على رجوع الثقة لدى الأسر ولدى المؤسسات " . يقول إنّ من شأن هذه الصدمات التي تصيب جانب العرض والطلب معًا أن تُغْرِق الاقتصاد الوطني في لُجَّة الكساد خلال السنة الجارية، وقد تكون أشد وطأة من حالة الركود التي مرَّ بها الاقتصاد خلال السنة الماضية ... ليس لنا من خيار سوى العمل على إنقاذ مؤسساتنا من الإفلاس والحيلولة دون أن تتحول هذه الأزمة الاقتصادية إلى أزمة اجتماعية ومالية، ذلك هو التحدي الأكبر الذي علينا مواجهته في المستقبل." وسنحتاج إلى جملة من السياسات التي من شأنها أن تساعد على إسناد النسيج الاقتصادي ودعم التشغيل وأن تشُدُّ أزر المواطن وتحول دون تحَوُّل الأزمة من أزمة قصيرة المدى إلى أزمة تنهك طاقاتنا التنموية لفترة طويلة.

يستطرد قائلا: " سيزداد عجز الميزانية في سنة 2020 تفاقما، وستتجاوز حاجياتنا من التمويلات ذات الصلة بدعم الميزانية وعلى رأسها التمويلات الخارجية ما هو مُقَدّر ضمن قانون المالية لسنة 2020 .." ومن رأيه أن " دعم المجموعة الدولية واستعدادها لمساعدة تونس على الحدِّ من آثار الأزمة الناشئة عن انتشار وباء الكوفيد -19 دعم قوي جدا " .

يحدثنا محافظ البنك المركزي عن وضع سوق الصرف في ظل الأزمة، مشيرا إلى أنّه سيكون عونًا لنا في الحفاظ على قدر من التوازن على مستوى رصيدنا من العملة الصعبة عرضا وطلبا وهو ما قد "يخفف الضغوط الحادة المسلطة على قيمة الدينار خلال الأشهر القادمة" .

في تطرقه إلى مسألة تحويل الدينار يؤكد  المحافظ أنّ البنك المركزي لا يخشى أبدا الركون إلى تحرير العملة، وهو باق على قناعة راسخة بأن اتخاذ وُجهة عالمية مهما كان شكلها  يبقى بمثابة طوق النجاة للاقتصاد الوطني 

وفِيما يلي نصّ الحديث:

ليدرز: كيف سيتم الخروج التدريجي من الحجْر الصحي بالنسبة إلى النظام المالي والمؤسسات والأسر؟

مروان العباسي : الأزمة التي نمرّ بها حاليا غير مسبوقة... لقد توقف الاقتصاد بشكل إرادي ولفترة طويلة، وهذه ظاهرة جديدة لا نعرف لها سابقة. وستبقى تداعيات الوباء استثنائية عصيَّة عن التقدير ما بقينا على جهل بحجمه. وبمداه الزمني. وليس بأيدينا إلى حد الآن أي تقدير صحيح وثابت لمضاعفات الحجر الصحي على مستوى النشاط الاقتصادي وعلى مستوى ثقة الأطراف الفاعلة. ليس لنا الآن معلومات لا عن زمن ما بعد الحجر الصحي ولا عن طبيعته. غاية ما في الأمر أنّ هناك احتمالات وتكهنات حول الخروج من الحجر الصحي قد أشار إليها الخبراء الاقتصاديون. يتوقع بعضهم حدوث قفزة في القريب العاجل
على مستوى الاستهلاك والاستثماروهذا هو الاحتمال الأكثر تفاؤلا.. وهنالك في المقابل سيناريوهات غارقة في التشاؤم مفادها  أنّ الأزمة ستكون عميقة وستتواصل لمدة زمنية طويلة وربما تستشري وتتفاقم لفترة قصيرة جراء تدني الطلب او توقفه. لكنني أعتقد ان سيناريوU هو الارجح . هذا السيناريو يعيد الثقة المكسورة للأسر والمؤسسات . ومهما يكن من أمر، فإنّ البنك المركزي سوف لن يتأخر عن اتخاذ كل التدابير الضرورية بغرض تسهيل عودةالنشاط الاقتصادي إلى سالف عهده بأسرع ما يمكن.

هذه العودة مرتبطة بماذا؟

ستكون عودة نشاط المؤسسات إلى ساف حيويته مرتبطة بعوامل عديدة إذ لا بد من اعتبار خصوصيات كلّ قطاع ، ومدى خطورة آثار الأزمة المباشرة، وبيئة الاستثمار، وتصبح هذه العوامل حاسمة ومتأكدة حينما يتعلّق الأمر بقرارات المؤسسات الخاصة بالاستثمار أو بتعويض ما استُنْزِف من رصيد الخزينة. يمكن القول على سبيل المثال إنّ عودة نسق النشاط ستتِمُّ بأكثر بطء في القطاعات الأشد تأثرا بالوباء والمرتبطةبالطلب الخارجي. هنالك قطاعات مرتبطة وثيق الارتباط بانتعاش الاستهلاك المحلي. 

وسببقى الاستهلاك متأثرا بسوء الظرفية الاقتصادية التي ستُلقي بظلالها لا محالة على مداخيل الأُسَر وعلى معنوياتها، لكنه سيتحسّن ببطء وبشكل متأكد إذا ما تحسن الاستهلاك الذي تراجع بسبب الحجر الصحي. وحصل انتعاش على مستوى التجارة غير المهيكلة التي توفر مداخيل لا يستهان بها لجزء من التونسيين. أضف إلى ذلك أنّ تحسن الوضع بشكل محسوس قبل نهاية موسم الصيف يمكن أن تكون له – إذا ما حصل - فوائد ذات بال بالنسبة إلى كثير من القطاعات ( الفنادق، مراكز الإيواء، المطاعم الخ.)

وستدلُّنا آثار الأزمة في القطاع المالي على تداعيات الحجر الصحي ، وستنبّهنا بالخصوص إلى صعوبة الوضع المالي للمؤسسات والأُسَر، وإلى ما ستتخذه من قرارات على صعيد الاستثمار والاستهلاك.

حالة الكساد التي يمر بها الاقتصاد أصبحت مخيفة ، فما مدى الخسائر التي تسبب فيها الوباء؟ هل يمكن أن يسوء الحال أكثر، وما ستكون طبيعة هذا الأسوأ ؟

أصبحت آثار توقف الإنتاج بشكل حاد من جهة، واضطرار الناس إلى ملازمة بيوتهم، وتعطّل قنوات التزويد الخ. ظاهرة للعيان في ضوء بعض المؤشرات الاقتصادية والنقدية.

قد تتسبب هذه الصدمات العنيفة التي أصابت جانب الطلب والعرض معًا في إغراق الاقتصاد الوطني في حال من الكساد في سنة 2020 سيكون أشد وطأة ممّا حصل في سنة 2011. ولا ننسى أنّ تونس لم تعرف أبدا من قبل أزمة في مثل حدّة وخطورة أزمة كورونا الحالية التي ضربت الاقتصاد العالمي في المقتل، وأناخت بكلكلها على العرض والطلب، وأفشت حالة من الكساد شملتكل بلدان العالم وإن بدرجات مختلفة. 

وكان وقع المصاب شديدا ومباشرا على البلاد التونسية المفتوحة على الخارج ، وكان أثر الأزمة أشد وقْعًا على القطاعات المستهدفة بشكل خاص على غرار السياحة والصناعات المعملية المصدِّرة ومختلف الأنشطة الموجهة إلى الاستهلاك الداخلي.

ما هو الأسوأ الذي يخشى أن نقع فيه ؟ من غير المرجح ان يحدث هذا الأسوأ. وإذا حصل لا قدرالله فلربما اتخذ شكل وباء منتشر على نطاق واسع  قد يكون فصْلٍيًّا. وقد يتسبب وضع مثل هذا في تقلص الاستهلاك إلى حدّ كبير، مع اتساع نطاق الأزمة وانتقالها من النشاط الاقتصاديالمحلي بكل أبعاده وأطرافه – السكان والأسر والمؤسسات والمجموعات المنتجة المستهلكة للسلع والخدمات – إلى النشاط المالي. ومع تراجع المداخيل السياحية، يُخشى أن يتأثر الاقتصاد بمضاعفات الأزمة في منطقة الأورو على مستوى تحويلات التونسيين المقيمين في الخارج من جهة، والاستثمار الخارجي المباشر من جهة أخرى.

لا أريد أن أذهب إلى حدّ الحديث عن "سيناريو كارثي" ! أودّ فقط أن أظل متفائلا وأن أتجَنَّب كل تركيز على الأسوأ، دون أن أصرف النظر عنه بطبيعة الحال. لِنتَّجِه بنظرنا إلى التحديات التي ستواجهنا حينما تنتهي هذه الأزمة الصحية. التحدي الأكبر يبقى متمثلا في إنقاذ مؤسساتنا من خطر الإفلاس وفي الحفاظ على مواطن الشغل، أي الحيلولة دون تحَوُّل هذه الأزمة الاقتصادية إلى أزمة اجتماعية ومالية.

كونوا على يقين من أنّ الإجراءات الحذرة التي سنتخذها والسياسات التي سنتوخاها على مستوى النقد والميزانية سوف تساعد على إسناد النسيج الاقتصادي والتشغيل والأخذ بيد المواطن، وستحول دون تحوُّّل الأزمة من أزمة على المدى القريب إلى أزمة تُنْهِك طاقاتنا التنموية على المدى الطويل.
كما يجدر بنا في نفس هذا السياق أن نستخلص العبرة من هذه الأزمة التي تحمل في طياتها فرصا وحظوظا علينا أن نستفيد منها على الوجه الأفضل . ونعني بذلك تلك الكفاءات التي تزخر بها البلاد في قطاعات كثيرة كالطبّ وصنع الروبوتات وفي كثير من التكنولوجيات الحديثة في مجال الإعلام والاتصال.

ما هو أثر الأزمة الصحية وما هي تداعياتها على المالية العمومية؟

ستتسبب الأزمة لا محالة في تدَنِّي مقابيض الدولة إلى مستوى لا يستهان به، وستتأثر المقابيض الجبائية بعوامل شتى ومنها على سبيل المثال تقلّص الاستهلاك وتراجع الواردات والوضع المالي للمؤسسات العمومية الذي زاد بلَّة وتراجُعِ مداخيل قطاع النفط في علاقة بانهيار أسعار البترول . وفي المقابل، ستسجل النفقات الموجهة للصحة العامة ولإسناد الاقتصاد ارتفاعا ذا بال،وسنواصل في نفس الوقت الإيفاء بالتزاماتنا بما فيها تلك المتعلقة بسداد الدَّيْن. وسيتفاقم عجز الميزانية بعنوان سنة 2020 وستتجاوز حاجياتنا من التمويلات ذات الصلة بدعم الميزانية وعلى رأسها التمويلات الخارجية ما هو مُقَدّر ضمن قانون المالية لسنة 2020.

ويتطلب الوضع سلوك مسلك الحذر إلى أقصى حدّ بالنظر إلى محدودية الميزانية وإلى الدَّيْن العمومي في سياق تطغى عليه الضغوط المُسلَّطة على الأسواق المالية العالمية...

ماالسبيل إلى تعبئة حاجياتنا من الموارد في ظلّ ميزانية تعاني من عجز متزايد واحتياجات بقيمة تناهز 12 مليار دينار منها 8 مليار دينار بالعملة الصعبة؟

مسألة تمويل ميزانية الدولة تبقى من مشكلات وزارة المالية. ويبدو الأن بوضوح أنّ دعم المجموعة الدولية لتونس لمساعدتها على الحدّ من تداعيات أزمة الكوفيد-19 دعم قوي بالاعتبار الأدنى.

وسبق أن استفادت تونس من إسناد مالي سريع ومُهِمّ من صندوق النقد الدولي. واتخذ الاتحاد الأوروبي مؤخرا قرارا يقضي بمنح تونس قرض إسناد بمقدار ذي بال وبشروط تفضيلية إلى أبعد حدّ . كما دخلت تونس في مفاوضات مع البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية ومؤسسات مالية دولية أخرى بغرض تعبئة تمويلات مُيَسَّرة ومساعدة المؤسسات على التصدي لتداعيات الوباء.

وماذا عن مساهمة السوق المحلية؟

سوف لن تتأخر السوق المحلية من جهتها في توفير تمويلات بالعملة الصعبة لفائدة الخزينة. وفي هذا النطاق، بادرت المصارف التونسية مجتمعة إلى تعبئة كل جهودها بشكل عاجل من أجل توفير قرض بعنوان التصدي لوباء كوفيد-19 تحت مسمى «crédit syndiqué COVID-19».

هل يقوى الدينار على التصدي لفيروس كورونا الجديد ؟

سيتأثر الاقتصاد التونسي لا محالة تأثرا قويا بأزمة كوفيد-19 ، كما هو الشأن في البلدان الأخرى. على أننا نتوقع أن ينخفض عجز ميزان المدفوعات خلال سنة 2020 بشكل مهمّ نسبيا وفي حدود 7,5% من الناتج الداخلي الخام ، مقابل 8,8% في سنة 2019. وينتظر أن ينخفض حجم الواردات بمفعول انكماشها كما هو متوقع ، وأن يكون ذلك مقترنا بانخفاض في كلفة مواد الطاقة بسبب تدني أسعار النفط في السوق العالمية، وهو ما سيسمح بتعويض جزء لا يستهان به من انخفاض العائدات من العملة الصعبة المتأنية من صادراتنا من السلع ومن السياحة ومن تحويلات العمال التونسيين المقيمين بالخارج.

وسيكون انخفاض العجز الجاري مقترنا بتدفق لرؤوس الأموال بشكل مهم، وهو ما سينعكس بصورة إيجابية على القطاع العام والقطاع الخاص وذلك في سياق تعبئة لكل المؤسسات المالية الدولية على نطاق واسع لأجل إسناد تونس ودفع النشاط الاقتصادي.

ونتوقع حصول نوع من التوازن على مستوى العُمْلات عرْضًا وطلبا بمفعول تطور ميزان المدفوعات على النحو الذي أشرنا إليه آنفا، وهو ما سيحول دون حدوث ضغوط قوية على قيمة الدينار خلال الأشهر القادمة.

وقد بلغ المخزون من العملة الصعبة لدى البنك المركزي التونسي مستوى يوفّر لنا مجالا مريحا لتخفيف وقع أزمة كوفيد-19.

تحويل الدينار بشكل كامل، هل تم العدول عنه حقيقة؟

لنقلها على رؤوس الملأ وبكل وضوح: البنك المركزي لا يخشى أبدا الركون إلى تحرير العملة، وهو باق على اقتناع راسخ بأنّ اتخاذ وجهة عالمية مهما كان شكلها يبقى بمثابة طوق النجاة للاقتصاد الوطني. ولقد بادر البنك المركزي منذ سنة 2018 إلى اتخاذ جملة من الإجراءات لتحقيق مستوى من المرونة وتواصل هذا المسعى في سنة 2019 وستبقى هذه الاجراءات سارية خلال السنة الجارية.

ما انفك البنك المركزي يُصْغي باهتمام إلى انتظارات الفاعلين الاقتصاديين وهي انتظارات مشروعة ومعقولة. ويظلّ ملتزما بقوة بالعمل الرامي إلى التخلص التدريجي من التحديات في مجال الصرف، وذلك بتشاور مع كل الأطراف المعنية وبتفاعل كامل مع محيطه الوطني والدولي ومع ما دأب عليه من حرص على توخي سياسة جديدة في مجال الاتصال بكل شفافية وانفتاح.

إلا أن أزمة كورونا سوف تنجم عنها تغيرات عميقة في كل بلد على حدة وفي العالم بأسره. فقدجاءت لتُذكِّرنا بأنّ مخاطر تحويل العملة بشكل كامل تبقى مرتفعة بالنسبة إلى البلدان الصاعدة. فلا يمكن اتخاذ قرار كهذا دون توفر جملة من الشروط الاقتصادية الملائمة بما يؤمن الفائدة المرجوة ويقلِّل من المخاطر المتوقعة في غمرة تدفق رؤوس الأموال وتقلباتها.

المسألة لا تتعلق إذًا باعتماد التحويل أو بعدم اعتماده، بل تعني أنّ هناك ضرورة للجوء إلى التشاور لأجل مراجعة البرمجة وتحديد الإجراءات التي يتعين إقرارها أولا بأول ، وخاصة تلك التي لا تدخل ضمن صلاحيات البنك المركزي، وأنّ الأمر لا يتعلق باعتماد التحويل أو بعدم اعتماده، بل يعني أنّ هناك ضرورة للجوء إلى التشاور لأجل مراجعة البرمجة وتحديد الإجراءات التي يتعين إقرارها أولا بأول ، وخاصة تلك التي لا تدخل ضمن صلاحيات البنك المركزي.

كيف يمكن حلّ مشكلة الأموال الذاتية؟

تتوفر جلّ البنوك على هامش مريح من الأموال الذاتية التي تساعدها على مواجهة مضاعفات هذه الأزمة الصحية وذلك بفضل مختلف الإصلاحات الحذرة التي تم إنجازها منذ سنة 2012.

من السابق لأوانه تحديد حجم تداعيات هذه الأزمة على رصيد البنوك من الأموال الذاتية. إلا أنّ البنك المركزي يتابع عن كثب تطور الوضع وتقدير آثاره وسوف لن نتأخر في اتخاذ الإجراءات اللازمة في الإبان.

وجاء قرار البنك المركزي القاضي بتعليق - لا بإلغاء كما قيل ذلك على غير وجه حقّ- كل إجراء يتعلق بتوزيع الأرباح بعنوان سنة 2019 وبالامتناع عن القيام بعمليات شراء لأسهمها مندرجا في إطار الحرص على تعزيز الطاقة المالية للقطاع المصرفي بهدف الحفاظ على قدرته على إسناد الاقتصاد واستيعاب الخسارات التي قد تحصل.

هل تضطلع البنوك وشركات الليزينغ وشركات التأمين ومؤسسات القروض الصغيرة بدورها كاملا؟ الاعتقاد السائد لدى التونسيين هو أنّ كل هذه الأطراف تكتفي بانتظار ما يصدره البنك المركزي والسلطات العامة من تعليمات  وتسعى إلى الحصول على ضمان الدولة ولا تبذل أي جهد خاص.

أن يحصل شيء من التردد، هذا أمر أتفهمه. فنحن إزاء وضع غير مألوف... نحن بصدد التصدي بكل قوانا للمجهول، ونحاول فهم ما يحدث. هناك نزعة إلى التقليل من شأن البنوك وهذا أمر مؤسف، لا سيما وقد فقد القطاع البنكي مؤخرا أحد أطره الفذة وأعني به المرحوم فوزي الشريف من الاتحاد الدولي للبنوك، تغمده الله بواسع رحمته.

نرى كيف أنّ البنوك والمؤسسات المالية التي تقع في دائرة مراقبة البنك المركزي لا تألو جهدا منذ بداية تفشي وباء كورونا في سبيل تأمين استمرارية عمل المصالح الأساسية وتسعى إلى تطبيق الإجراءات الاستثنائية لفائدة الحرفاء بهدف الإبقاء على النشاط الاقتصادي والاستجابة الى حاجيات المواطنين الحيوية.

هناك خشية من تفاقم حالات الإفلاس والإعفاءات من العمل، ما العمل؟

يجدر التذكير بأنّ البنك المركزي التونسي حريص على التفاعل مع مختلف الوزارات المعنية بغاية الحفاظ على المؤسسة وعلى مواطن الشغل. وهو يلتقي ممثلي المنظمات الوطنية  القطاعية وينصت إليهم  ويسعى إلى متابعة الإشكاليات المطروحة على النسيج الإنتاجي، وهو طرف في الاجتماعات الأسبوعية التي يشارك فيها المسؤولون المصرفيون السامون والتيتجري خلالها متابعة تطبيق الإجراءات، وخاصة تلك الرامية إلى تخفيف الأعباء المالية على المؤسسات عن طريق تخفيض نسبة الفائدة الأساسية ، وتوفير السيولة اللازمة للتمويل لفائدة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ... وسيواصل مراقبة الوضع عن كثب وبأوفر قدر من المرونة.

ماذا عن ادّخار الأسر؟

تفيد توقعات صندوق النقد الدولي أنّ ارتفاع حجم الادخار الوطني سوف لن يتجاوز نسبة 3,1% في سنة 2020 مقابل 10,1% في سنة 2019.
يشار إلى أن نسق سرعة ارتفاع ادخار الأسر قد انخفض بشكل محسوس خلال السنوات الأخيرة وذلك في اقتران بالنمو الاقتصادي وارتفاع درجة الضغوط التضخمية وتطور الأوضاع النقدية ، وكلها عوامل طالت ادخار الأسر في صلة بالقدرة الشرائية كما مست مداخيل العمال التونسيين في الخارج في اقتران بانحسار الاقتصاد في البلدان الأوروبية.

وهنا أود أن أتوجه بالخطاب إلى البنوك: على البنوك أن لا تتوقف عن تحسين الارتقاء بمستوى عروضها لمختلف أصناف الادخار وذلك لأجل تشجيع المدخرين وخاصة الأسر على لإقبال على الادخار.

المدفوعات بطريقة الكاش.. هل ازدادت؟

ما إن أعلنّا في 20 مارس 2020 عن الحجر الصحي العام حتى بادرت الأسر إلى سحب الكاش على سبيل الاحتياط والتوقي من جهة، ولتوفير مخزون من المؤونة من جهة أخرى.

وإثر الإعلان عن بعض الإجراءات الرامية إلى الأخذ بيد الأُسَر المحتاجة والطبقات الاجتماعية المعوزة وخاصة صرف مساعدة نقدية استثنائية مباشرة بقيمة 200 دينار، اندفع هؤلاء بقوة إلى شبابيك البنوك ومراكز البريد لسحب الكاش بشكل مكثف.

ومنذ بداية الحجر الصحي تطور الوضع على النحو التالي: خروج مكثف للأوراق المالية بمقادير مرتفعة ناهزت مليارا و839 مليون دينار خلال شهري مارس وأفريل 2020 .. في المقابل سُجِّل ضعف ملحوظ في مقدار الأوراق المالية المودعة الذي بلغ 694 مليون دينار خلال نفس المدة ، أي بانخفاض بنسبة 53% قياسا بنفس المدة من السنة الماضية. وعادة ما يزداد حجم الكاش المتداول بمفعول مصاريف الأسر بمناسبة شهر رمضان. ولمواجهة هذا الوضع، اتخذ البنك المركزي كلّ الإجراءات الضرورية للاستجابة إلى حاجيات البلاد من شمالها إلى جنوبها إلى القِطَع والأوراق النقدية بكميات كافية وباستعمال كل الوسائل المتاحة.
وعليه فإنّ الظروف أصبحت الآن مناسبة للاستفادة من هذه الأزمة والذهاب إلى تقليص الكاش وقد شرعنا بعْدُ في القيام بهذا العمل من خلال التشجيع على استعمال وسائل الدفع الرقمية وعن بعد.

كيف تبدو بحسب رأيكم آفاق سنة 2020؟ ما عسى أن يكون حصادها؟

أخر التقديرات تشير إلى أنّ تونس ربما تسجل انخفاضا في نتاجها الداخلي الخام بنسبة 4%، هذا إذا عادت المياه إلى مجاريها بدءا من السداسية الثاني من السنة.
إلا أنّ التقديرات والآفاق في نهاية 2020 يلفّها شيء من الغموض ولا تبدو بالوضوح الكافي، وهذا مرتبط بالمدة التي يستغرقها الحجر الصحي وكذلك بعودة النشاط إلى سالف عهده وبالمدة التي ستستغرقها هذه العودة.

أرى أنّ الوضع الصحي يتدرّج نحو التحسن وأننا سننتقل شيئا فشيئا إلى فترة ما بعد الحجر الصحي. وستكون الأسابيع القادمة هامة بكل المقاييس، وعلى التونسيين أن يتمسكوا  بالانضباط في انتظار ساعة الانفراج ونتمنى أن تكون قريبة .

ألا أني أحب أن أُنهي هذا الحديث بنبرة من التفاؤل، وأن أستخلص العبرة من هذه الأزمة وأن أدعو التونسيين إلى اغتنام الفرص التي قد تتاح في المستقبل. نحن نواجه مشاكلنا بكل تبصر وبلا أوهام. أمور إيجابية كثيرة شدت انتباهنا: موجة عارمة من التضامن.. قدرة هائلة على الابتكار والتميز... ميل واضح إلى تبسيط الإجراءات وإلى تجنب البيروقراطية... لتكن كل هذه الإيجابيات عونا لنا في المستقبل حتى نتقدم ونتطور... لتونس وللتونسيات والتونسيين قدرة هائلة واستثنائية على تجاوز المحن والصعوبات ودرئها بالصبر .. بالمقاومة .. بالتضامن ، وهو ما يثلج الصدر ويثير الإعجاب.

لقد شاركتم في هذه الاجتماعات هذه السنة وأنتم في تونس ، ولم تعقد في واشنطن كالعادة في شكل رسمي لافت... ماذا عن هذه الاجتماعات؟

لم تعقد هذه الاجتماعات بشكل مباشر، إنما دارت عن بُعْد بسبب وباء كوفيد-19. وقد أتيحت لي شخصيا فرصة المشاركة يوم 22 أفريل 2020 في اجتماع بالمديرة العامة لصندوق النقد الدولي السيدة كريستالينا جيورجيفا ، كما التقيت محافظي ووزراء مالية بلدان منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا الشمالية.

رأيكم في هذه الاجتماعات؟ أي شيء بقي عالقا بذهنكم؟ 

كانت مناسبة غير مسبوقة لتبادل التجارب الدولية فيما يتعلق بمختلف الإجراءات والسياسات التىتتخذ بهدف مواجهة الوباء وإسناد المؤسسات الاقتصادية والأسر وتأمين استمرارية عمل أنظمة الدفع. كانت المناقشات على قدر كبير من الثراء وتمحورت حول التحديات التي تواجهها بلدان منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا الشمالية جراء تفشي وباء كورونا وما يمكن القيام به بهذا الصدد في المستقبل، كما تطرق الحديث إلى الأولويات الجديدة التي طفت على السطح فيما ينبغي عمله لدعم الاقتصاد وتأمين مناعته. فهناك حاجة ملحة إلى التعجيل برقمنة الاقتصاد وتوجيه الاستثمارات نحو القطاعات ذات الأولوية على غرار الصحة والتربية وتعزيز الوقاية الاجتماعية والاندماج الاجتماعي والحرص على أن يظلّ الاقتصاد منيعا وحصينا. كما انصرف التفكير خلال هذه الاجتماعات إلى دور البنوك المركزية واستقلاليتها في غمرة هذه الأزمة الاقتصادية.

وما يمكن الإشارة إليه بشكل خاص هو ضرورة القيام بمراجعة تصورنا لبرامج المساعدة المالية التي تقدمها المؤسسات التابعة لمنظومة بريتون وُودز النقدية لفائدة البلدان ذات الدخل المتوسط التي تفتقد إلى هامش مناورة وتصرف يُعْتد بها، حتى يكون باستطاعتها سدّ حاجياتها المتزايدة على مستوى التمويل ومواجهة التحديات المختلفة التي تواجهها.

مواعيدكم القادمة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي متى ستُعْقد؟

بعد صرف مبلغ 745 مليون دينار من طرف صندوق النقد الدولي لتونس في إطار آلة التمويل السريع، سنمُرُّ إلى مرحلة جديدة سننكب خلالها على الإعداد لمفاوضات قادمة تكون مخصصة للنظر في برنامج إصلاحات تدخل ضمن الأولويات الاقتصادية للحكومة.

ويبذل البنك الدولي من جانبه جهدا كبيرا بمعِيَّة جهات عالمية أخرى مُمَوِّلة من أجل إسناد تونس خلال الأشهر القادمة . وتلقى هذه المساعدة المالية للاقتصاد التونسي دعما في منتهى الأهمية في إطار التعاون الفني الدولي.

ولا يسعنا إلا أن نعَبِّر عن امتناننا لشركائنا في مجال التعاون الفني لمساهمتهم في إسناد خطتنا الاستراتيجية 2019-2021 ذات الصلة بتعاوننا مع المؤسسات المالية العالمية ومن بينها على وجه الخصوص البنك الدولي، ومؤسسة التعاون الألمانية ومؤسسة التعاون السويسرية والبنك الأوروبيلإعادة البناء والتنمية، بالإضافة إلى العديد من البنوك المركزية الصديقة.

قراءة المزيد

مروان العباسي محافظ البنك المركزي التونسي يدلي بحديث شامل لليدرز
 

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.