رضا زايدي: مبدأ الأمن القانوني و الثّقة في التّشريع في مهب رياح الكورونا
لقد خوّل القانون عدد 19 لسنة 2020 المؤرّخ في 12 أفريل 2020 المتعلّق بالتّفويض إلى رئيس الحكومة في إصدار مراسيم لغرض مجابهة تداعيات إنتشار وباء الكورونا لرئيس الحكومة إتخاذ مراسيم في هذا الشّأن تتضمّن إجراءات إستثنائيّة بغاية تجاوز البيروقراطيّة الإداريّة والإجراءات المعقّدة لإصدار القوانين في إطار الوضع الصّحي الخطير الذي تمرّ به البلاد. لكن هل أنّ حالة الضّرورة والإستعجال تبرّر الإخلال بمبدأ هام من مبادئ دولة القانون وهو مبدأ الأمن القانوني والثّقة في التّشريع؟
مضمون مبدأ الأمن القانوني والثّقة في التّشريع:
يهدف مبدأ الأمن القانوني إلى إستقرار القواعد القانونيّة بما من شأنه أن يضمن حقوق الأفراد والمؤسّسات وذلك بالحفاظ على حد أدنى من إستقرار المراكز القانونيّة بما يتيح للأفراد والمؤسّسات ترتيب أوضاعهم دون أن تتعرّض لمفاجآت غير متوقّعة يكون من شأنها زعزعة الثّقة في القانون والدّولة. وذلك بالمراجعة المتكرّرة للقوانين التي تؤدي إلى خلق حالة من عدم الإستقرار القانوني الذي سيؤثر بصفة حتميّة في إستقرار الإجتهاد القضائي وحسن سير القضاء أو ما يسمّى بالأمن القضائي الذي هو مرتبط بصفة وثيقة بالأمن القانوني.
ولقد أكّدت المحكمة الإداريّة في إحدى أحكامها على أنّه "من المقرّر في قضاء هذه المحكمة أن مبدأ الأمن القانوني والثّقة في التّشريع يقتضي أن تكون القواعد القانونيّة والتّرتيبيّة التي تستند إليها الإدارة في عملها واضحة،وأن تلتزم الإدارة بعدم تغيير محتوى هذه الأحكام بطريقة فجائيّة كلّما تبيّن أن هذا التّغيير ليس ضروريا بالنّظر إلى محتوى الإجراء الذي إتّخذته أو الأهداف التي ترمي من خلاله إلى تحقيقها".
فمن خلال هذا الإجتهاد القضائي وضعت المحكمة الإداريّة شروط توفّر الأمن القانوني والثّقة في التّشريع والمتمثّلة في أن تكون القواعد القانونيّة والتّراتيب التي تستند إليها الإدارة واضحة ولا يتم تغييرها بصفة فجائيّة إلا في حالة الضّرورة فهل أن المراسيم التي تم إصدارها مؤخّرا من قبل رئيس الحكومة سيكون لها تأثير على مبدأ الأمن القانوني والقضائي؟
مراسيم إتّسمت بإخلالات شكليّة وبالغموض:
بالتّأمل في المراسيم الأخيرة التي أصدرتها الحكومة يتّضح أنّ بعضها شابته إخلالات شكلية جوهريّة وصياغات فضفاضة فيها تأثير على الأمن القانوني والثّقة في التّشريع.من ذلك مثلا المرسوم عدد 8 لسنة 2020 المؤرّخ في 17 أفريل 2020 المتعلّق بتعليق الإجراءات والآجال والذي لم يتم عرضه على إستشارة المجلس الأعلى للقضاء كما تأكّد ذلك من خلال تصريحات رئيس المجلس الأعلى للقضاء لوسائل الإعلام. والحال أن الإستشارة في المسائل التي تتعلّق بسير القضاء تعد وجوبيّة طبقا لأحكام الفصل 114 من الدّستور الذي ينصّ على أن تبدي الجلسة العامّة للمجالس القضائيّة الرأي في مقترحات ومشاريع القوانين المتعلّقة بالقضاء التي تعرض عليها وجوبا كما إقتضى الفصل 42 من القانون المنظّم للمجلس الأعلى للقضاء أنّه من صلاحيات المجلس إبداء الرّأي بخصوص مشاريع ومقترحات القوانين المتعلّقة خاصّة بتنظيم العدالة وإدارة القضاء وإختصاصات المحاكم والإجراءات المتّبعة لديها والأنظمة الخاصّة بالقضاة والقوانين المنظّمة للمهن ذات الصلة بالقضاء التي تعرض عليها وجوبا، وهذا الإخلال قد يثير عديد الإشكاليات في خصوص شرعيّة هذا المرسوم و طرق تطبيقه من المحاكم في ظل عدم إستشارة الجهة الممثّلة قانونا للقضاة وهو أمر قد يكون له أثر سلبي على حقوق المتقاضين.
كما أنّ المرسوم عدد 9 لسنة 2020 المؤرّخ في 17 أفريل 2020 المتعلّق بجزر مخالفة حظر الجولان وتحديده والحظر الصّحي الشّامل والتّدابير الخاصّة بالأشخاص المصابين أو المشتبه في إصابتهم بفيروس كورونا قد نصّ فصله الثاني على تسليط خطية بخمسين دينار تتضاعف في صورة العود تتم معاينتها من طرف مأموري الضّابطة العدليّة والحال أنّ الفصل 312 من المجلّة الجزائيّة نص على عقوبة بالسجن مدّة ستة أشهر وبخطية قدرها مائة وعشرون دينارا على كل من يخالف التّحجيرات وتدابير الوقاية والمراقبة المأمور بها حال وجود مرض وهو أمر مستغرب من النّاحية المنطقيّة والذّوق القانوني السّليم فهل أن الوضع الصّحي الذي حتّم إصدار هذا المرسوم يحتّم التّشدد في العقوبات أم التّخفيف فيها خاصّة وأن المحاكم أصدرت العديد من الأحكام إستنادا للفصل 312 من المجلّة الجزائيّة في خصوص خرق الحجر الصّحي في إطار مقاومة التهاون في تطبيق الحجر الصحي الشامل وقد لاقت هذه الأحكام إستحسان الرّأي العام وحتى السّلط العموميّة؟
وكمثال آخر على الغموض والإرتباك الذي ميّز صياغة المراسيم يمكن الإشارة كذلك إلى الفصل الثّالث من المرسوم عدد 9 الذي مكّن وزير الصّحة من إتّخاذ جملة من التّدابير ذات الصّبغة الوقائيّة أو العلاجيّة إلا أنّ الفصل الرّابع من نفس المرسوم إقتضى أنّه يقع تنفيذ هذه التّدابير بالتّنسيق مع وزير الدّاخلية وله الإستعانة بالقوّة العامّة عند الإقتضاء بعد الحصول على إذن من النّيابة العموميّة وهو إجراء من الغرابة بما كان في المادّة الإداريّة حيث أن المبدأ الأصولي في العمل الإداري يقتضى أن القرارات الإداريّة تتمتّع بمبدأ النّفاذ الفوري ولا تحتاج لسند تنفيذي لتنتج آثارها على أرض الواقع. فهل أن نيّة المشرّع إتّجهت إلى مزيد تعقيد العمل الإداري بهذا الإجراء الغريب؟ أم أن الرّغبة في إضفاء مشروعيّة على الحد من الحريات حجب على من صاغ هذا المرسوم أن القضاء الإداري يبقى في كل الحالات سواء العادية أو في ظل الحجر الصحي العام الحامي للمواطن من تعسّف الإدارة عن طريق دعوى تجاز السّلطة و لا داعي لهذه الفتوى التّشريعية التي تتنافى مع الغاية من إصدار المراسيم وهي إضفاء السّرعة والنّجاعة على العمل الإداري في ظل الخطر الصّحي المحدق بالبلاد.فمن المؤكّد أنّ "دعوى الإلغاء هي وسيلة دائمة لتحقيق المشروعيّة تمتدّ إلى رقابة كل القرارات الإداريّة ولو أفصحت النّصوص النّافذة بشأنها أنها غير قابلة لأي طعن،ضرورة أن هذه العبارة لا يُفهم منها تحصين هذه القرارات من رقابة قاضي الإلغاء الذي لا تُستبعد رقابته إلا بنص صريح ".
المراسيم والحقوق المكتسبة
جدير بالملاحظة أنّه لا يحق للأفراد المطالبة بالإبقاء على الوضعيّات الفرديّة التي تتمتّع الإدارة بسلطة تقديرية لتقييدها بتراتيب جديدة ،غير أن تحديد القانون المنطبق على الوضعيّات المختلفة يحكمه إعمال مبدأ التّطبيق الفوري للنّصوص القانونيّة وعدم رجعيّتها على نحو ما يقتضي إخضاع الوضعيّات التي تنشأ بصورة لاحقة للنّص الجديد وكل الوضعيّات الجارية لما يتضمّنه من أحكام فيما تظل الحقوق المكتسبة وكل الوضعيّات التي تكوّنت قبل دخوله حيز النّفاذ خاضعة لمقتضيات النّص القديم الذي تمّ تنقيحه أو إلغاءه إستنادا إلى مبدأ الأمن القانوني الذي من آثاره الحد من سلطات الإدارة في تغيير القواعد بالنّسبة للمستقبل أو أن تتخذ قرارات بأثر رجعي في ظل وضعيات قانونيّة مطابقة للتّشريع.
خلاصة القول أنّه ولئن كان السّعي إلى الحفاظ على النّظام العام الصّحي والإقتصادي يستدعي إتّخاذ إجرءات تتلاءم مع الوضع الدّقيق الذي تمرّ به البلاد و ذلك عن طريق المراسيم فإن ذلك لا يجب أن يكون فيه إخلال بإستقرار الوضعيّات القانونيّة والحفاظ على الحقوق المكتسبة للأفراد والمؤسّسات. كما تبقى إمكانيّة الطّعن في هذه المراسيم محل جدل خاصّة في ظل موقف المحكمة الإدارية التي سبق لها أن قرّرت في إطار طلب توقيف تنفيذ أحكام المرسوم عدد 30 لسنة 2011 المؤرّخ في 26 أفريل 2011 والمتعلّق بالعفو العام في جريمة إصدار شيك دون رصيد أنّه "إستقر الفقه والقضاء على إعتبار أنّ المراسيم تنتمي بحكم طبيعتها إلى الأعمال القانونيّة التي لها مرتبة التّشريع والتي لا تخضع لرقابة المحكمة إلغائيّا ".
رضا زايدي
قاضي بالمحكمة الإداريّة
- اكتب تعليق
- تعليق