أخبار - 2020.04.03

مائويّة الأديب محمّد العروسي المطويّ (1920 - 2020): الـزّيتونيّ والدّيبلوماسيّ والـمـبدع الباحث

مائويّة الأديب محمّد العروسي المطويّ (1920 - 2020): الــزّيتــونــيّ والدّيبلــوماســـيّ والـمـبدع البـاحــث

تُحيي تونس هذه السّنة الذّكرى المائويّة لمولد الأديب محمّد العروسي المطويّ (1920 – 2020)، وهو جدير دون أدنى شكّ بهذا الاحتفاء، فقد جمع من الخصال والمآثر ما يجعله أنموذجا للمثقّف الوطنيّ الملتزم الذّي لم يصرفه الانقطاع للتّأليف والبحث والتّحقيق من المساهمة في كثير من أوجه الحياة الوطنيّة والمدنيّة بكلّ نشاط. كما أنّ مسيرته وأعماله يدلّان على ما كان يتحلّى به من همّة عالية وعزم لا يلين وإصرار قاطع على تحقيق ما يرسمه لنفسه من أهداف، يشهد على ذلك خاصّة مسار التّحصيل العلميّ في الزّيتونة وجملة المصنّفات الموسوعيّة العسيرة التّي أقدم على تحقيقها ومراجعتها وإكمالها.

لئن بدأ الأستاذ محمّد العروسي المطويّ مسيرته بقرية المطويّة مسقط رأسه حيـــث تلقّى في البداية تعليما دينيّا تقليديّا بأحد الكتاتيب ثمّ التحق بالمدرسة الفرنسيّة العربيّة بالمطويّة فإنّه سرعان ما انتقل بعد ذلك إلى تونس العاصمة مثل كثير من معاصريه وأبناء جيله فأحرز بها الشّهادة الابتدائيّة سنة 1935. ولمّا كانت الزّيتونة في ذلك العهد هي الحاضنة العلميّة والثّقافيّة وحتّى الفكريّة والسّياسيّة لشريحـة هـامّة من الشّباب التّونسيّ فقد انتسب العروسي المطويّ إلى الزّيتونة واختلف إلى حلقات كبار شيوخها ومدرّسيها فأحرز منها شهادة الأهليّة سنة 1940، ثمّ شهادة التّحصيل التّي تُعادل ختم التّعليم الثّانوي أو الباكالوريا سنة 1943. وحين كان منتهى آمال كثير من طلبة الزّيتونة الظّفر بشهادة التّحصيل التّي تُتيح لهم دخول الحياة المهنيّة موظّفين بالإدارة أو مُدرّسين بالمرحلة الابتدائيّة تعلّقت همّة العروسي المطوي بالحصول على العالِميّة التّي تُوازي الإجازة فكان له ذلك سنة 1946. ولم تُشبع هذه الشّهادة نهمه إلى المعرفة والتّعلّم فتابع دروسا في الحقوق توّجها بالحصول على شهادتها، وتابع دروسا أُخرى في البُحوث الإسلاميّة ختمها بإحراز الإجازة من المعهد الخلدوني سنة 1947.

ولم يكن هذا النّجاح الذّي أحرزه في نيل شهادات عديدة مُختلفة إلّا ليُغري بالمزيد، وليس حريّا بذلك الطّالب الكلف بحصد الشّهائد العلميّة وصاحب «العالِميّة» وإجازة البُحوث الإسلاميّة وشهادة الحُقوق إلّا أن يترشّح لمناظرة التّدريس بالجامع الأعظم ويسعى إلى الانضمام إلى هيئة شيوخه ومدرّسيه فأقرّ العزم على ذلك وتقدّم إلى المناظرة ونال ما كان يرجوه سنة 1948 فأصبح منذ ذلك الحين مــــن شيوخ جامع الزّيتونة. وفي رحاب هذا الجامع المعمور درّس الأدب العربيّ والتّاريخ مستندا إلى مناهج في التّعليم عصريّة بالقياس إلى طرائق التّدريس في الزّيتونة آنذاك. وكانت حصيلة اهتمامه بتطوير التّعليم الزّيتونيّ وإصلاحه أن أصدر سنة 1953 كتابه الأوّل حول «التّعليـم الزّيتونيّ ووسائل إصلاحه».

أمضى العروسي المطويّ ثماني سنوات مدرّسا بالزّيتونة قبل أن تنال تونس استقلالها التّام في 20 مارس 1956، وهو حـدث سيكون له تأثير بالغ في سيرة الرّجل، فقد حرصت الحكومة التّونسيّة الوطنيّة الجديدة على أن تعتمد في تسيير شؤون البلاد وإقامة أركان الدّولة الحديثة على نخبة من خيرة أساتذتها ومثقّفيها فأوكلت إليهم الإشراف على أبرز مصالحها وقطاعاتها الحيويّة فانضمّت إلى الحكومات الأولى شخصيّات تربويّة وثقافيّة من أمثال محمود المسعدي ومحمّد الأمين الشّابّي ومصطفى الفيلالي والشّاذلي القليبي، وفي هذا الإطار استعانت الدّيبلوماسيّة التّونسيّة النّاشئة بعدد من المثقّفين ثقافة عربيّة متينة لتركيز سفاراتها بالبلاد العربيّة فدُعي العروسي المطويّ فجر الاستقلال ليكون أوّل سفير لتونس بالعراق، وأمكن له في بغداد أن يضع الأسس الثّابتة للعلاقات التّونسيّة العراقيّة المتميّزة. وتواصلت هذه التّجربة على مدى ثماني سنوات كاملة انتقل فيها من العراق إلى مصر ثمّ إلى المملكة العربيّة السّعوديّة.

ولدى عودته إلى تونس سنة 1964 انتُخب نائبا بالبرلمان عن ولاية تونس في الانتخابات التّشريعيّة ليوم 8 نوفمبر 1964، ثمّ نائبا عن ولاية ڤابس في انتخابات 2 نوفمبر 1969 وتجدّد انتخابه عن ولاية ڤابس كذلك في انتخابات 3 نوفمبر 1974.

وقد شهدت هذه المرحلة صدور أبرز أعماله الرّوائيّة ممثّلة في رواية «حليمة» (1964) التّي فازت بجائزة بلديّة العاصمة، ورواية «التّوت المرّ» (1967) التّي صُنّفت من قبل اتّحاد الكتّاب العرب ضمن أفضل مائة رواية عربيّة، وتندرج الرّواياتان في إطار أدب النّضال الوطنيّ والإصلاح الاجتماعيّ الذّي برز على نحو واضح في مرحلة ما بعد الاستقلال.

واتّجه العروسي المطويّ في هذه المرحلة إلى الأنشطة الأدبيّة والثّقافيّة فشارك في تأسيس النّادي الثّقافي «أبو القاسم الشّابّي» بالورديّة واختير رئيسا له فتولّى بعث مجلّة «قصص» سنة 1966 وترأّس تحريرها. وقد كان النّادي المذكور من أنشط المنتديات الأدبيّة في البلاد وأكثرها إشعاعا وأبعدها أثرا، فقد جمع حوله عددا هامّا من كتّاب القصّة والرّواية في تونس وساعد على إنضاج تجاربهم الإبداعيّة ونشر أعمالهم على أوسع نطاق. 

ومن أوجه ذاك النّشاط الثّقافيّ البارزة مشاركته كذلك في تأسيس اتّحاد الكتّاب التّونسيّين إبّان الاستقلال وعضويّة هيئاته المتعاقبة إلى سنة 1981 حين آلت إليه رئاسة الاتّحاد خلفا لرئيسه الأوّل محمّد مزالي، فاضطلع بتلك المهامّ على امتداد عشريّة كاملة (1981 – 1991) عرف فيها الاتّحاد نشاطا دؤوبا وإشعاعا إقليميّا واضحا، وأهّلته صفته تلك لتولّي الأمانة العامّة لاتّحاد الكتّاب العرب.

ولم تمنعه هذه الكُلف والشّواغل من مواصلة نشر إنتاجاته الإبداعيّة شعرا وقصّةً وروايةً، ولم تصرفه خاصّة عن أعمال التّحقيق وإعادة نشر أمّهات الكُتب التّونسيّة وإكمال التّآليف التّي عهد بها إليه العلّامة حسن حُسني عبد الوهاب.

وعلى هذا النّحو سيُصدر مجموعة قصصيّة «طريق المعصرة» (1981) ومسرحيّة «خالد بن الوليد» (1981) ومجموعة شعريّة «من الدّهليـــز» (1988) ونصّا مـن جنـس محكيّ الطّفولة Récit d’enfance عنـوانه «رجع الصّـدى» (1991). أمّا في التّاريــخ فسينشر كتابين عن «سيرة القيروان» (1986) وعن «السّلطنة الحفصيّة» (1986). 

غير أنّ المجال الذّي سيُنفق فيه جهودا مضنية هو مجال التّحقيق، فبعد أن عكف في ستّينات القرن الماضي على تحقيق كتاب «خريدة القصر وجريدة العصر» للعماد الأصفهانيّ أخرج سنة 1986 بالاشتراك مع الأستاذ البشير البكّوش كتاب «أنموذج الزّمان في شعراء القيروان» لابن رشيق، وأعاد نشر كتاب حسن حسني عبد الوهاب «بساط العقيق في حضارة القيروان وشاعرها ابن رشيق» وكتاب «آداب المعلّمين» لمحمّد بن سحنون مع تعاليق وشروح.

وأمّا العمل الضّخم الذّي توفّق إلى إخراجه للقرّاء على أكمل وجه فهو دون شكّ «كتاب العُمر في المصنّفات والمؤلّفين التّونسيّين» للعلّامة حسن حسني عبد الوهاب، فقد سهر على مراجعته وإكماله صُحبة الأستاذ البشير البكّوش بتوصية وتكليف من المؤلّف نفسه فأسدى بذلك خدمة جليلة للثّقافة التّونسيّة عامّة وللمكتبة التّونسيّة على وجه الخُصوص. يُضاف إلى ذلك إكماله الجزء الثّالث من كتاب «ورقات عن الحضارة العربيّة بإفريقيّة التّونسيّة» لحسن حسنــي عبد الوهاب الذّي اصطفاه – وقد امتدّ به العُمر وضعُف البدن بما جعله يقصر عن إتمام بعض كتبه – ليُواصل عمله في كتاب «العُمر» وكتاب «الورقات» فأدّى الأمانة على أفضل وجه وفاءً للمؤلّف المرحوم ولوصيّته. وقد تحصّل العروسي المطويّ على عدد من الجوائز والأوسمة التّونسيّة والأجنبيّة تقديرا لأعماله الأدبيّة وأبحاثه الجادّة وتحقيقاته الرّائدة لعلّ أبرزها جائزة الدّولة التّقديريّة في الآداب والوشاح الأكبر للوسام الثّقافيّ.

وكان المرحوم قد أهدى قُبيل وفاته مكتبته الخاصّة إلى المكتبة العموميّة بالمطويّة التّي صارت تحمل اسمه، كما أُقرّت ندوة سنويّة بمدينة المطويّة أُطلق عليها عُنوان «مُلتقى محمّد العروسي المطويّ للآداب والحضارة العربيّة» تخليدا لذكره واعترافا بإسهاماته في خدمة الثّقافة الوطنيّة. وعسى أن يكون الاحتفاء بالذّكرى المائويّة لمولده في مستوى ما قدّمه من جليل الخدمات للأدب التونسيّ وللثّقافة التّونسيّة.

الحبيب الدّريدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.