أخبار - 2020.03.30

عامر بوعزة: المـسلــمـون واليهـود في المخــيال الســردي

عامر بوعزة: المـسلــمـون واليهـود في المخــيال الســردي

يمثّل الاختلاف الديني موضوعا مثيرا للاهتمام إبداعيا، لأنّه يتوفّر على كلّ عناصر الصراع التي تنهض عليها الدراما، فتنوّع الهويّات داخل المجتمع الواحد والصيرورة التاريخية تُولّدان مواجهات متعدّدة أولها مواجهة القدر كما في التراجيديا الإغريقية، ثمّ مواجهة القوى المختلفة بعضَها بعضا في تذبذب دائم بين القبول والإقصاء. في هذا السياق يتنزّل التعايش بين المسلم واليهودي في المجتمعات العربية بوصفه النموذج الذي يتكرّر بصيغ مختلفة في الرواية على وجه الخصوص. لا يقتصر الأمر على الأدب الفلسطيني بما هو أدب مقاومة يصدر عن الأرض التي يعيش أهلها مأساة الاحتلال الصهيوني بشكل يومي، بل يتجاوزه إلى كلّ البلدان العربية التي غادرها اليهود في اتجاه »أرض الميعاد«، لكنّ شكل الصراع الذي يفرضه التعايش على الأرض المحتلّة مختلف عن الصراع الذي تدور وقائعه في أيّ بلد عربي آخر. وخارج أدب المقاومة يمكن تبيّن طرائق مختلفة توخاها الكتّاب العرب لمقاربة ظاهرة التعايش مع اليهود في المجتمعات العربية بعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين التاريخية واندلاع الحروب العربية الإسرائيلية وما أفضت إليه من خسارات وهزائم. لكن هذه التجارب على تنوّعها وما تنطوي عليه من أساليب فنية مبتكرة تتوفّر على عناصر مشتركة أهمّها الزمن والسرد التاريخي والرمز.

للبحث في هذه العناصر وكيفية توظيفها جماليا في المعمار الروائي نستخدم مشاهد من ثلاثة أعمال روائية حديثة هي «حمّام الذهب» للكاتب التونسي محمد عيسى المؤدب، و«أنا وحاييم» للكاتب الجزائري الحبيب السايح ورواية «مدائن المشرق» للكاتب اللبناني أمين معلوف، مع الإقرار بصعوبة حصر أيّ مدونة إبداعية في التأليف النقدي وأهميّة العامل الذاتي في ترجيح الاختيارات وتبويبها.

عن الزمن الذي ضاع في الزمن

«ما الزمن إذن؟ إنّني لأعرف معـــرفة جيّدة ما هو، بشرط ألاّ يسألني أحد عنه، لكن لو سألني أحد ما هو، لارتبكت» هذه المفارقة التي عبّر عنها «أوغسطين» في اعترافاته انطلق منها «بول ريكور» في مقاربته للزمان والسرد واعتبرها مظهرا من مظاهر التعبير عن تناقض اللغة مع ذاتها متسائلا: «كيف يستطيع الزمن أن يوجد إذا كان الماضي لم يعد موجودا وإذا كان المستقبل لم يوجد بعد، وإذا كان الحاضر غير موجود دائما؟» هذه الطبيعة الإشكالية للزمن تجعل الرواية مطلقا فضاء للحرية حيث لا حدود نظريا لخيال المؤلف، لأنّ الزمن لا وجود له الاّ بما ترسّب منه في ذواتنا وما يظلّ شاهدا عليه عبر العصور من بقايا في المكان، لكن فكرة التعايش بين المسلم واليهودي في المجتمع العربي لا تخرج غالبا عن سياق الزمن التاريخي الخاضع لثنائية (كان فأصبح)، ففي «أنا وحاييم» يستعير الكاتب شروط السيرة الذاتية حيث يستعيد الراوي تاريخه الشخصي الذي يتطابق مع التاريخ العام، ويقوم بهذا الدور «رسلان» الأستاذ الذي يحكي قصته مع «حاييم» صديق طفولته اليهودي، ويخترق بذلك فترة مهمّة في تاريخ الجزائر الحديث مثّلت فيها ثورة التحرير نقطة فاصلة بين عهـدين، لا على الصعيد السياسي فحسب، بل على صعيد الوعي الجمعي وممارسات الأفراد وقبولهم الاختلاف والتنوع.

وفي «حمّام الذهب» تتّخذ عملية الكتابة في حدّ ذاتها وظيفة وجودية، فالنصّ الافتتاحي يتمثّل فكرة الميثاق التعاقدي بين الراوي والقارئ، وسنكتشف لاحقا بعد الفراغ من الرواية أنّ لحظة البداية تلك تقع في النهاية، لكنّها أساسية في تعريفنا بشخصية سعد، «كبر ولم يجد الله في أي مكان...عرف الله في داخله حين عرف نفسه، وعرف نفسه حين أحبّ هيلين...الحبّ جعله يرى الله»، وهكذا يمنح المؤلّف عبر هذه الفقرة روايته طابعا عرفانيا ويجعلها تتجاوز كونها حكاية أحداث وقعت أو قصة حبّ مستحيل بين رجل مسلم وامرأة يهودية، هما سعد وهيلين، لتصبح تأمّلا في الزمن والوجود ورحلة بحث عن اليقين: «الكتابة تجعل إحساسه بالله أعمق وتبسط له جسرا في ذاته لكي يقترب منه أكثر».

أمّا أمين معلوف فيفتتح رواية «مدائن المشرق» أيضا بنصّ تعاقدي يحدّد علاقة الراوي بالرواية والمسافة التي تفصله عنها «هذه القصة ليست ملكا لي، فهي تسرد حياة رجل آخر» وتمثّل هذه التوطئة حيلة سردية لتهجين ثلاث خطط فنية: السيرة الغيرية والرواية التاريخية والكتابة الخيالية، فالرجل الآخر كان مجرّد صورة في كتاب التاريخ قبل أن يلتقيه الراوي صدفة في أحد شوارع باريس في الزمن الراهن ويقضي معه أربعة أيام يستدرجه فيها إلى تذكّر وقائع من حياته تغطّي قرنا كاملا، ويقدّم البطل نفسه للراوي الغريب بقوله «أنا أنتمي إلى أسرة حكمت المشرق فترة طويلة» لتكون هذه العبارة فاتحة سرد تاريخي يعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، ويمتدّ حتّى زمن الرواية حيث تخلّلت حياةَ عائلة السلطان التركي المخلوع التي ينحدر منها «عصيان» صراعاتٌ دامية غيّرت وجه التاريخ على غرار مجزرة الأرمن والحرب الكونية وقيام دولة إسرائيل في فلسطين. أمّا حجر الزاوية في هذا السرد التاريخي فننتبه إليه منذ البداية في قول الكاتب على لسان البطل وهو يحكي عن طفولته: «هل ذلك العصر الذي عاش فيه بشر من كلّ الأجناس والأعراق جنبا إلى جنب في بوابات المشرق وتمازجت فيها لغاتهم، هل هو من رواسب الماضي؟ هل هو تصور للغد؟ هل يعتبر الذين يتشبّثون بهذا الحلم رجعيين أم رؤيويين؟» 

رجعيون أم رؤيويون؟

يبدو هذا السؤال مفتاحا مهمّا لفهم الأسلوب المهيمن على كثير من الأعمال الفنية التي تتصدّى لفكرة التعايش الديني في المجتمع العربي فهي في الغالب حكايات مثقلة بالتاريخ تتغنّى بما يسمى «الزمن الجميل» بوصفه مرادفا للفردوس المفقود، هكذا يصوّر الحبيب السايح في «أنا وحاييم» طفولة رائعة تقوم على الحبّ والانسجام والتواصل والاتجاه نحو زمن مشترك يقع في المستقبل بين رفيقين لا أثر في حياتهما لأي عدوانية بسبب الاختلاف الديني، ثم يرصد لحظة التحول الدراماتيكي في علاقة المسلمين باليهود في الجزائر بعد حرب التحرير والدور الذي يقوم به رسلان لإقناع المجاهدين المنتصرين بعد الاستقلال بأنّ «حاييم» أسدى خدمات جليلة للثورة، مكرّسا مفهوما للوطنية أوسع ممّا تفرضه الحدود الإثنية والدينية الضيّقة.

أمّا محمّد عيسى المؤدّب فيجعل الرسالة ذاتها في «حمّام الذهب» على لسان هيلين اليهودية «لا أفهم سبب إصرار الناس على وضع الحدود فيما بينهم وقد خلقهم الله ليتحابّوا، ولا سرّ تباغضهم وتناحرهم باسم الدين، والأديان كلّها تقود إلى طريق واحدة، لماذا نتقاتل على الطريق وننسى المآل الذي تقود إليه تلك الطريق؟» ويجعل لارا ترث من هيلين وسعد هذا الإيمان الصوفي بأنّ الحب هو الطريق الحقيقي إلى الله بما يجعل الرسالة مستقبلية وخالدة ولا تعبر فقط عن الحنين إلى الحارة والزمن الضائع حين تقول لأمها «تاريخنا لم نصنعه نحن، بل صنعته الكراهية والأحقاد. أمّا نحن فجيل آخر، لسنا جيل الأزرار الباردة، نحن جيل الأزرار التي تفتح أمامنا دروب الجمال والحب والحرية».

يرتبط السرد بالزمن وأشهر نموذج تأسيسي لذلك ألف ليلة وليلة، حيث تؤجّل الحكايات الموت. وفي روايتي «مدائن المشرق» و«حمام الذهب» بنية زمنية متشابهة، فالسّرد يقع في الرواية الأولى ضمن حيّز محدود هو أربعة أيام قضاها الراوي مع «عصيان» في أحد فنادق باريس، وهنا مفارقة ينبغي الاهتداء إليها، فبقدر ما كان البطل متّجها إلى المستقبل كان الراوي وهو يستدرجه إلى الاعتراف منشدا إلى الماضي، ولا قيمة للحاضر إلا بما هو وعاء للسرد، يصف الراوي ما سيقوم به في هذه الأيام الأربعة بقوله: «سوف أستحوذ عليه طوال أيام الانتظار هذه وأقوم بزعزعته وإغاظته ومضايقته وإرغامه على استحضار الماضي ساعة تلو الساعة، عوضا عن اجترار الحديث عن المستقبل». ويرجئ الكاتب الإفصاح عن سرّ هذه الأيام الأربعة التي ولدت فيها الحكاية لنكتشف لاحقا أن «عصيان» جاء إلى باريس ليلتقي زوجته «كلارا» اليهودية التي انقطعت بينه وبينها السبل منذ الحرب الكونية الثانية ومنذ أن أصبح الذهاب من بيروت إلى حيفا أمرا مستحيلا.

وفي «حمّام الذهب» حكاية أولى تدور وقائعها في عشرة أيام من شهر ديسمبر 2010 وهو اختيار رمزي يرتبط بفكرة نهاية مرحلة وبداية أخرى، هذه الأيام جرى فيها التخطيط للبحث عن كنز الذهب في «حمام الصبايا»، لكن الكاتب يعود من خلال مذكّرات هيلين إلى الزمن الماضي ويسترجع حكايات العائلة اليهودية في الحارة بالمدينة العتيقة، بل ويذهب من خلال حكاية المكان وأسطورة حمّام الذهب حتّى العصر الحفصي، في مراوحة وفق فيها كثيرا بين الواقعية التي يوحي بها المكان وجمالية الأسطورية وشاعرية الخيال الروائي. أمّا المستقبل فيحضر بقوة في المشهد الافتتاحي الذي يتحدث عما بعد نهاية الرواية حيث نجد سعد في المستشفى تحت حراسة بوليسية مشدّدة ومعه لارا ابنته من هيلين بعد مغامرة يائسة حدثت في بداية التسعينات.

أما رواية أنا وحاييم فهي تخضع أيضا لتقنية الاسترجاع نفسها لكنها لا تشير إلى المستقبل ويتوقف الزمن في المقبرة عندما يقف رسلان أمام قبر حاييم في مشهد رمزي مؤثّر ويتساءل: ماذا كان يجب أن أقول لمسلم يحرس مقبرة يهود؟ أن أعلن بأنّنا كنّا صديقين أنا وحاييم؟

لسنا مجرد عابري سبيل

الشخصيات في الرواية مهمّة بما تعنيه من «تجريب في معنى الوجود المضطرب» على حدّ تعبير ميلان كونديرا في «فنّ الرواية» حيث يعتبر أنّ أعظم الروايات هي التي يحمل أبطالها أبعادا مفهومية ويجازفون بحياتهم من أجل ما يعتقدون أنّه الحقيقة. وهذا ينطبق على النماذج الثلاثة التي اخترناها، إذ نتقصّى الأبعاد المفهومية في رمزية السرد، فوقوف رسلان في المقبرة أمام قبر حاييم يستمدّ أهميته الرمزية من تذكّر الروح الصوفية التي كان عليها صديقه اليهودي، يتذكّر جدالاتهما إلى وقت متأخّر حول الوجود والفناء والحياة والموت وقول حاييم: «لا شيء في هذه الحياة مثل سطوة المقابر تذكّر الإنسان بأنّ هناك قوّة غير طبيعية أو سمّها ما شئت تتحدّى العقل والإرادة هي التي أوجدته وهي التي تعيده إليها» وهذا ما يجعل الرواية تنتهي عند الحدّ الفاصل بين الزمن المنفلت والأبدية.

أمّا «حمّام الذهب» فتتكثّف حمولته الرمزية في المشهد الختامي الذي تذهب فيه هيلين إلى الكنز المخبوء في تجاويف الأسطورة بما يذكّرنا ببحث اليهود عن هيكل سليمان تحت المسجد، أو يحيلنا على العدمية التي يفضي إليها كل انشداد مهووس بالماضي، لكن أمين معلوف يبدو الأكثر تفاؤلا وانفتاحا حين يجعل الراوي شاهدا على لحظة لقاء كلارا بعصيان «التصق الواحد بالآخر وتعانقا، وراحا يهدهدان رأسيهما بتناغم، كما لو أرادا تحدّي القدر الذي فرق شملهما» لكن الرمز الكامن في هذا اللقاء الممكن على ضفاف السين في باريس والذي يوحي بإمكان التواصل بين شعبين فرّقت بينهما السنوات الدامية ليس باتّا وجازما إذ يختار الكاتب أن يسحب الراوي من مسرح المشاهدة ويبقي للقارئ حرية تخيّل النهاية كما تمنحه إياها ثقافته الشخصية وقناعاته الذاتية: «هل يمضيان معا، وقد أمسك الواحد بيد الآخر أو يمضي كل في سبيله؟ كم أودّ البقاء ومعرفة ما سيحدث لكن لا هذا يكفي ويجب أن أنسحب. توقف العديد من المارة وراحوا يراقبونهما بحنان وفضول ولكنّني لا أستطيع أن أراقبهما بالطريقة نفسها فأنا لست مجرّد عابر سبيل».

عامر بوعزة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.