أخبار - 2020.03.26

أحمد بن مصطفى: تونس في خضم الحرب العالمية على فيروس كورونا

أحمد بن مصطفى: تونس في خضم الحرب العالمية على فيروس كورونا

بعد تسارع نسق الإصابات بفيروس كورونا محليا ودوليا يخشى أن تكون تونس على حافة السيناريو الأسواء الذي حذّر المختصون من عواقبه الوخيمة خاصة بعد بروز بؤر جديدة غير محددة المصدر لتفشي الفيروس الفتاك في تونس الكبرى وضواحيها الشمالية والجنوبية وكذلك في جزيرة جربة وعدة ولايات اخرى مما ينبئ باحتمال انتشاره الوبائي السريع وربما خروجه عن دائرة السيطرة كما حصل في عديد البلدان المتوسطية المحيطة ومنها تحديدا إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية والآسيوية وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية. 

صحيح أنّ السلطات الحاكمة بتونس حاولت الاستفادة من تجارب البلدان الموبوءة وتجنب تكرار أخطائها، غير أنّها لم تكن موفقة بنسجها على منوال الدول الأوروبية التي استخفت في البداية باحتمالية اتساع دائرة انتشار الفيروس إلى خارج الصين ومحيطها المباشر ثم لم تتخذ التدابير المناسبة والصارمة بعد انتقاله إليها. وقد أدى ذلك إلى انفلات الأمور من أيديها خاصة في ظل افتضاح الحالة المزرية للمنظومة الصحية العمومية الأوروبية الغربية بفعل التدابير التقشفية المسلطة عليها منذ عقود انسجاما مع منطق اقتصاد السوق الذي حوّل صحة الإنسان والمرافق والخدمات الأساسية إلى سلعة تجارية ممّا أدى إلى التداعيات المأساوية والكارثية الحاصلة أمامنا في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا فضلا عن الولايات المتحدة الأمريكية.

وإذا كانت هذه القوى الموصوفة بالعظمى عاجزة عن احتواء الارتفاع الجنوني لعدد الإصابات لديها ممّا حوّلها إلى مصدر أساسي لتفشي وباء الكورونا على الصعيد الدولي، فكيف سيكون الحال في تونس ذات المنظومة الصحية المتهالكة وغير المؤهلة لمواجهة الكوارث سيما إذا صدقت التوقعات السلبية والمتشائمة لجل الخبراء التونسيين الذين لا يستبعدون فرضية تضخم عدد الإصابات غير المرصودة التي أثبتت التجارب الأخرى أنّها عادة ما تكون المصدر الأساسي للانتشار الصاروخي والمتسارع للعدوى القاتلة.

ومهما يكن من امر، فإنّ تونس مدعوة، على ضوء المخاطر المحدقة بها في علاقة بالتطورات والمستجدات ذات الصلة بهذه المحنة على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، إلى تعديل بوصلتها باتجاه السعي للاستفادة من تجارب الأطراف الدولية التي اثبتت نجاعتها وحسن تنظيمها في التعامل مع هذا الخطر الداهم وعلى رأسها الصين الشعبية وروسيا وكوبا التي سارعت بإغاثة الدول المنكوبة من منطلقات مبدئية وقيمية تؤمن بأنّ التعاون والتضامن الدوليين هما السبيل الوحيد للتغلب على هذا التهديدالكوني الموجه للبشرية جمعاء.

وعلى صعيد متصل، علينا ان نستخلص العبر من الأحادية والانانية التي ميزت أسلوب التعاطي الغربي مع هذا التحدي الجماعي على المستوين الثنائي والمتعدد الأطراف حيث سارعت الدول الأوروبية، توقيا من الوباء، إلى غلق حدودها وتعطيل حرية الحركة والسفر فيما بينها والحال أنّها من المرتكزات الأساسية للمشروع الأوروبي القائم على الاندماج الجماعي في كيان موحد يكون بديلا للدولة الوطنية.

واللافت للانتباه أيضا رفض الولايات المتحدة الامريكية رفع العقوبات المفروضة على إيران مما ساهم في توسيع دائرة الإصابات في صفوف الشعب الإيراني نتيجة حرمان الحكومة الإيرانية من اقتناء التجهيزات الضرورية لمقاومة الوباء.

أمّا المؤسسات الأوروبية فقد اثبتت عجزها على تقديم المساعدة الناجعة والمأمولة للدول الأوروبية الأكثر تأثرا بالوباء مكتفية برفع القيود المتعقلة بنسبة العجز في الميزانية المسموح بها للبلدان الأعضاء وهو إجراء غير مسبوق تستعيد بموجبه الحكومات الأوروبية حرية توزيع مواردها المالية وتوجيهها وفقا لأولوياتها الوطنية المنصبة حاليا على إغاثة شعوبها المنكوبة بطاعون العصر الذي قل أن شهدت البشرية مثيلا له في تاريخها المعاصر.

على الصعيد الوطني ودون التقليل من أهمية الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمواجهة اتساع تفشي الفيروس بتونس، فإنّها لم تعلن الى حد الآن عن التدابير الاستثنائية التي يفترض أن يقع اللجوء إليها لتوفير الاعتمادات اللازمة لتمويل النقص الفادح في المستلزمات الطبية وضمان استمرارية دفع المرتبات والمساعدات والتعويضات الموعود بها وكذلك لتعويض النقص المتوقع في الموارد الجبائية نتيجة تعطل او تقلص الحركة الاقتصادية في عديد القطاعات الخدمية والإنتاجية.
ويكتسي هذا الامر أهمية قصوى وهو يتطلب في تقديري الدخول في مفاوضات على المستوى الثنائي والمتعدد الأطراف مع الدائنين لبحث سبل إرجاء تسديد المديونية الخارجية او إعادة جدولتها ليتسنى تسخير هذه الاعتمادات في إطار الحرب على الكورونا.

اما على المدى المتوسط و البعيد، فتبرز الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى مراجعة عميقة لحصيلة علاقاتنا وشراكاتنا مع الدول والتجمعات الدولية ومنها خاصة الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع دول صناعية الكبرى والمؤسسات المالية المتفرعة عنها مع الاخذ بعين الاعتبار العقيدة الدبلوماسية لهذه المجموعة والأهداف التي بعثت من اجلها التي لا تؤهلها لمساعدة الدول المتخلفة مثل تونس على تجاوز أزماتها الاقتصادية والمالية الخانقة وبناء اقتصاديات إنتاجية موجهة لتلبية حاجيات شعوبها ووقايتها من الكوارث، فضلا عن حمايتها من المخاطر الخارجية المستهدفة لمقدراتها وثرواتها والمهددة لوجودها ومستقبلها. 

لقد اثبتت التجارب التنموية الحديثة والمعاصرة في البلدان الغربية المتقدمة وفي البلدان الصاعدة، الدور المحوري الذي اضطلعت به  الدولة الوطنية المركزية على مرّ العصور في رسم المخططات والخيارات الاستراتيجية المؤسسة للنهضة الصناعية والفلاحية والعلمية والتكنولوجية التي مكنت هذه الدول من اكتساب مقومات التفوق والهيمنة مما أهلها لفرض النمط المجتمعي والمنوال الرأسمالي الاقتصادي والسياسي الغربي كأسلوب مرجعي لإدارة الشأن العام والعلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية بما يخدم مصالحها الحصرية دون غيرها.

لكن هذا التوجه الذي سعت مجموعة السبع إلى تعميمه وتكريسه على الصعيد العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أدى إلى ضرب الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة الوطنية وتجريدها من استقلالية قرارها ومن مصادر تمويلها الذاتية والوطنية ممّا كرس تبعيتها للتمويلات الخارجية والخاصة وللقروض المشروطة للمؤسسات المالية الدولية والتجمعات الممثلة لمنظومة الحوكمة العالمية العابرة للحدود. كما تراجعت الديمقراطية الغربية بفعل انتشار هذه النمطية الاقتصادية التي لا تراعي الفوارق في مستويات التنمية ولا الحاجيات التنموية الخصوصية للدول المتخلفة حيث أصبحت الانتخابات غير قادرة على فرض مراجعة السياسات والخيارات الاقتصادية مما أفرغا لمنظومة الديمقراطية من أي مضمون حقيقي طالما أنّ التداول على السلطة أصبح في غالب الأحيان شكليا ولا يؤدي إلى تغيير السياسات والواقع الاقتصادي والاجتماعي للشعوب الى الأفضل.

وهذا ما تؤكده أيضا المسيرة التنموية التونسية المرتبطة بسيرورة العلاقات التونسية الأوروبية اذ شكّلت اتفاقيات التبادل التجاري غير المتكافئة المرتبطة بانخراط تونس منتصف الثمانينات بمنظومة اقتصاد السوق العمود الفقري للمنوال الاقتصادي التونسي والإطار المنظم للتعاون والشراكة بين تونس وشركائها الرئيسيين بالضفة الشمالية للمتوسط وعلى المستوى الدولي. ولعل ذلك من أهمّ أسباب تعثر الانتقال السياسي والديمقراطي والاقتصادي بتونس بعد الثورة الذي يعزى بالأساس إلى تمسك الحكومات المتعاقبة بالخيارات الاقتصادية والدبلوماسية للنظام السابق رغم ثبوت فشلها بفعل وصول منظومة اقتصاد السوق إلى طريق مسدود ودخولها في أزمة مستفحلة منذ 2007 وهي مرشحة لمزيد التعقيد بسبب أزمة الكورونا التي ضربتها في الصميم وقوضت أركانها.

خلاصة القول لا أحد يستطيع اليوم التكهن بمآلات هذه المعضلة العالمية وتداعياتها الآنية والمستقبلية على تونس وفي العالم ولكنها ستشكل بالتأكيد نقطة فاصلة في تاريخ البشرية، وقد تؤثر سلبا على السلم والأمن الدوليين خاصة في ظل عودة أجواء الحرب الباردة المواكبة للتحولات والمتغيرات الحاصلة في موازين القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على الصعيد الإقليمي والدولي.

أحمد بن مصطفى
باحث في القضايا الاقتصادية والاستراتيجية   

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.