الأسعد العيّاري: النساء في السّجال الدينيّ والسياسيّ في العقيدة الحبشيّة بين الوظيفة والممارسة
تكاد إشكاليّة التفاعل بين النفسيّ والغيريّ ترتبط بجميع قضايا الدين في كافّة أشكالها الثقافيّة والحضاريّة، ما يدفعنا إلى مزيد من التفكير والتأمّل في الخطاب الديني بمختلف أنواعه ووظائفه بحثا عن التحليل الموضوعيّ للمآزق الإنسانيّة المعاصرة وذات الصلة بالدين وبالممارسة الدينيّة، وهي مآزق ناجمة عن صراع وتشابك في المصالح الفكريّة والسياسيّة في ظلّ واقع حضاري للمسلمين يشهد تحوّلا كبيرا وأزمات متأتية إمّا من قصور في تقدير المعاني الحقيقيّة لنصوص كتاب القرآن وإمّا من الإفراط في الإدّعاء بحيازة الحقّ المطلق واليقين الكامل ومن ثمّة ظهر الاعتقاد الخاطئ بأنّ المختلف في التفكير هو المخالف في الدين الذي وجبت مواجهته ومقاطعته ومقاتله أحيانا. وقد توسّعت دائرة هذا العداء فلم تعد تقتصر على رفض المسلم لأهل الديانات المختلفة والأخرى كالمسيحيّة واليودية والمجوسيّة بل صارت تشمل عداء المسلم للمسلم من داخل المنظومة الدينيّة نفسها واستحال التعدّد والتنوع داخل الرؤية الإسلاميّة من قبيل الحوادث التاريخيّة والانحرافات المذهبيّة، فانعدم الانسجام وغاب التقارب الفكريّ وزاغت قلوب المسلمين عن الصراط المستقيم، "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ." وانحسر فضاء المغامرة الدينيّة التي نادى بها الإسلام "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.".
وفي ظلّ هذا السياق الفكريّ والحضاريّ المشحون بالتناحر والصدام داخل الضمير الإسلاميّ الواحد، برزت ظاهرة فكريّة تقوم على ترهيب الآخر المختلف ورجمه بالكفر والإلحاد ليصل الأمر في درجاته القصوى إلى إباحة الدماء وإلغاء الوجود المادّيّ والمعنويّ لهذا المختلف فكريّا وإن كان يشترك معه في الانتماء الدينيّ.
وتسعى هذه المداخلة إلى طرح قضيّة المرأة المسلمة داخل الحركات السلفيّة وما يحيط بها من مسائل جوهريّة تتعلّق بإعادة النظر في فهم المسلمين لكتاب القرآن والسنّة النبويّة. ونعمد في مقاربتنا لهذا الموضوع إلى تناول العقيدة الحبشيّة والفكر الحبشيّ أنموذجا للاستدلال على الأدوار الدينيّة والسياسيّة الموكولة إلى المرأة وذلك من خلال العودة إلى مؤسّس هذا الفكر الحبشي عبد الله الهرري (1821 م-1328 هـ/ 1920 م /1429 هـ) وما أنتجه من مؤلّفات وكتب قامت عليها عقيدة الأحباش.وقد ارتبط موقف الأحباش من قضيّة المرأة بأشكال وأنماط متفكرة في انسياقها بانبثاقها من الموروث الفقهي الإسلامي.
وإنّ اختيارنا الذي وقع على هذه الطائفة يعود أساسا إلى الغموض الذي يلّف هذه الفرقة الدينيّة وتصّوراتها العقائديّة رغم حضورها الضمني والخفيّ داخل السياق الفكري العربي المعاصر وأثرها العميق في توسيع دائرة الفهم للخطاب السلفي التقليدي الذي تمتدّ جذوره إلى عمق التاريخ الإسلامي. هل عزلة المرأة وعزلها عن المشاركة في الحياة العامة من صميم النصّ القرآني ؟ أم هو نتاج قراءات سلفيّة للتراث الديني الإسلامي وإسقاط فكري بخلفيات إيديولوجيّة مذهبيّة وسياسيّة؟ والى أي مدى يمثّل هذا الخطاب المتطرّف والمعتمد أساسا على تنظيمات نسائية يقع توجيهها واستغلالها لتنفيذ مشاريعهم الدينية والسياسية خطرا قد يقدر على إزاحة العقلانيّة من العالم العربي والإسلامي؟ وهل صار من الواجب الحضاري الكشف عن الانحراف الذي تمارسه هذه التنظيمات السلفية التي كانت لوقت قريب تؤمن بان فكرة مشاركة المرأة بوصفها فاعل أساسي في العمل السياسي هو شيء مناف ومخالف لأفكارهم ولمعتقداتهم التي ظلت سجينة تحريم وجود المرأة في الفضاء الجماعي وان تحريرها لا يعدو أن يكون زيغا عن الصراط المستقيم وتشبها بالمجتمعات اليهوديّة والمسيحيّة التي لديها سجلّ حافل بمثل هذه الفتاوى التاريخيّة ولكنّها استطاعت أن تحيّدها جانبا وتضعها في متحف الذاكرة الممنوعة من التوليد من جديد والمحجرة عن كلّ محاولات الاستعادة والإحياء؟
I. نون النّسوة في الرّؤى الفقهيّة واللاّهوتيّة
يبدو حضور نون النّسوة في التراث الديني والفقهي للأديان الكتابيّة مدعاة لجدل واسع، ذلك أنّ الكثير من الرؤى الفقهيّة والدينيّة في شأن منزلة المرأة وقيمتها حسيّا ونظريّا غالبا ما تكشف عن خطأ مقصود أو غير مقصود في التنكّر للدين والانحراف عن تعاليمه الصحيحة بما أنّ النسويّة داخل ديانات الكتاب المقدّس والقرآن لم تكن البتّة نسويّة معادية للدين ولا خصيمة للذات الإلهيّة وإنّما هي نسويّة معادية للتصوّرات الذكوريّة الناجمة عن احتكار الحركات الدينيّة لمضامين التفسير الديني والعدول بتأويلاتها عن الوجهة الصحيحة؛ فالمرأة في الأديان الإبراهيميّة لم تتمرّد على المقدّس كما لم تكن عنصرا معيقا لبنى المقدّس وتجلّياته وإنّما هي باتت سجينة تراث ديني وفقهي مشحون بالمغالطات ومحكوم بالتجاوزات ما يدعو إلى تصحيح هذا الوعي المؤوّل بطريقة مغلوطة. وهذه المراجعات القويّة هي مطرحة الآن على الحركات الإسلامويّة التي تختزل دور المرأة في رقم صحيح يساهم في ترجيح الكفّة عند العمليّات الإنتخابيّة أو هي جنس بيولوجي في خدمة السلطة الذكورية كلّما احتاجت هذه الحركات إلى أعلى درجات الجرأة داخل الحضن الإيماني القائم على مفاهيم خاطئة للدين وتعاليمه. وإنّ هذا المأزق الذي تعيشه المرأة داخل الفضاء الديني لا يقتصر فقط على مرجع دينيّ إسلاميّ وإنّما يشمل أيضا حركات دينيّة يهوديّة وأخرى مسيحيّة، ففي الجاني اليهوديّ ظلّت تاء التأنيث تحت وطأة تراث الأحبار مثلما ظلّت مثقلة بالرؤى المحافظة والتقليديّة وهو ما أوجب المناداة بتحرير المرأة اليهوديّة من الوصاية الدينيّة المسلّطة عليها . فبرزت تحوّلات عميقة وتاريخيّة مكنّت المرأة اليهوديّة من كسر هذه القيود والقطع مع القراءات التقليديّة للعهد القديم في شكلها المنتصر للذكور رغم ما يحتويه النّص المقدّس لليهود من استحضار لشواهد دالّة على تكافئ في الفرص بين الرجل والمرأة في المجالين الدينيّ والدنيوي على غرار النبيّة "دبّورة" والنبيّة "خلدة" الوارد ذكرهما في العهد القديم وكذلك مع السياسيّة "إستير" التي تمكنّت من تخليص شعبها من مخاطر الإبادة والفناء. أمّا في الجانب المسيحيّ فقد كانت المرأة خاضعة للممارسة الكهنوتيّة القائمة على الموقف الدوني من المرأة ومصادرة حريّتها الشخصيّة في تقرير مصيرها من حيث خيارات الطلاق والإجهاض وهي قوانين ناتجة عن تفسيرات فقهيّة لمسائل تشريعيّة وثقافيّة، حتّى لكأنّ المرأة في المجتمعات المسيحيّة وإن كانت قريبة روحيّا من الديانة المسيحيّة إلاّ أنّها كانت بعيدة لاهوتيّا عن مؤسّسة الكنيسة، ولم يخلو التاريخ الإسلاميّ من توظيف للدّين موغل في بعده الذكوري ومهدّد لكيان المرأة المؤمنة والمتديّنة، ساحبا عنها كل جوهر إنساني واجتماعي يمنحها المحافظة على حياتها بكرامة ويعترف لها بدورها الرياديّ في المجتمع، ولقد تخيّرنا النظر في الأدوار التي تفرضها الجماعات الإسلامويّة على المرأة ومنها جماعة الأحباش للوقوف على انزياح هذه الجماعة عن الخطّ التأسيسي للشريعة الإسلاميّة وانغلاقها داخل ثقافة قطعيّة الدلالة والثبوت، وهو ما أفرز تمييزا جنسيّا على أساس الذكورة والأنوثة لا على أساس النوع الاجتماعي والثقافي. فهل يجوز لحركة دينيّة تنتمي في جوهرها إلى عقيدة إسلاميّة أن تخالف نصّها المقدّس وتتوافق مع نصّ مقدّس لدين آخر؟
II. النسائية الإيمانيّة في العقيدة الحبشيّة
حين جاءت العقيدة الحبشيّة للظهور والبروز في ثمانينات القرن الماضي انطلاقا من مدينة حلب السوريّة واستقرّت فيما بعد حركة دينيّة ناشئة في بيروت اللبنانيّة جلبت معها مجموعة من المضامين والتعاليم التي اختطفتها الإيديولوجيات السياسيّة من المرجع الديني الإسلامي فعبّرت هذه الحركة الدينيّة عن سوء التفاهم الديني الذي قد يحدث من جرّاء توظيف الدين لغايات سياسيّة ولأهداف دنيويّة وبخاصة في موضوع المرأة ذلك أنّ البعض من الجماعات الإسلاميّة يستغلّ صورة المرأة كوسيلة للدعاية السياسيّة سواء في أنظمة الحكم أو في التشريعات الفقهيّة فاستحال الدين الإسلامي في عقيدة الأحباش سببا مباشرا من أسباب الإقصاء التاريخي والمعاصر للمرأة مقابل إرساء قيم الذكورة كأساس عقدي في قراءة كليّة للنّص القرآني والذي غالبا ما يقع استعراضه على كونه كلام الله وأنّه لا يقبل الجدال ولا يناقش، وبذلك لم تخرج العقيدة الحبشيّة عن المسار العام الذي هيمن على الثقافة الدينيّة للجماعات الإسلاميّة التي اقترنت بتهميش الجانب الروحي والاجتماعي والثقافي في المرأة بما هي كائن إنساني ومكوّن أساسي في بناء المجتمع البشري، وهو ما يطرح عديد الأسئلة حول الحدود الفاصلة بين النصّ التأسيسي للمسلمين والنصوص الحافّة به في مسألة المرأة؛ يعني جدلا البحث عن الحدود بين الإلهي والبشري في هذه النصوص الدينيّة، ومن هذا الجدل يمكن أن نستمدّ مشروعيّة السؤال عن الأدوار التي توكلها الجماعات الإسلامويّة للمرأة دون الرجل والتي تعبّر عن نظرة تمييزيّة للذكورة في أفضليّتها عن الأنوثة؟ ليتواصل الزّعم بسيادة الرجل على المرأة ويستمرّ توظيف المرأة لإثارة الغرائز وتحريك الشهوات الحسيّة والجنسيّة وهو ما يخرق معادلة التوازن الطبيعي الذي عليه خلق الإنسان ونادت به الدراسات المتعلّقة بتاريخ الأديان وظاهرة التديّن والتي يتأسّس فيها التوازن الطبيعي للإنسان عامة على ثنائية المادّة والرّوح. وتتجلّى هذه التعمية المقصودة لهذه الثنائيّة عند التمييز بين الرجل والمرأة في سرديّات الجماعة الإسلامويّة "الأحباش" باعتبارها خطابات تؤسّس للفكر الحبشي وتمارس استعمارا واستغلالا للمرأة وذلك عن طريق تكليفها بوظائف وأدوار تحبسها "في مفاهيم القمع ومصطلحات الإقصاء والتمييز"، وهذه السرديّات الحبشيّة تعكس الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي السائد في الخارطة الجغرافيّة التي تخلّقت فيها العقيدة الحبشيّة ونشأت في متونها ونقصد بذلك خاصّة "لبنان والأردن" بما هي جغرافيّة تتكثّف فيها أسئلة الهويّة ورهاناتها الثابتة والمتحرّكة بحسب التوجّهات السياسيّة التي تنشط فيها وتتحرّك داخلها. ومن هنا فإنّ المقاربة الجندريّة بإمكانها أن تمنحنا العديد من منطلقات البحث وآليّاته الفكريّة والمعنويّة التي تبين عن نماذج من صور التسلّط والهيمنة لهذه الجماعات الإسلامويّة في حق المرأة بحيث ينحصر دور النساء لديهم في ما يمكن أن يحقّقه جنسها الأنثوي من مكاسب وغنائم تعود بالنفع إلى الجماعة الذكوريّة للحركة الإسلامويّة الحبشيّة وما يخدم عقيدتها باسم المقدّس والدين والحقيقة المطلقة، وسنعرض في هذا الجزء من المقال أبرز الأدوار التي تقوم بها المرأة المنتمية إلى العقيدة الحبشيّة والتي هي أدوار تخضع في باطنها إلى خصوصيّة التنظيم الاجتماعي والثقافي وإلى طبيعة العلاقات الداخليّة والخارجيّة للأحباش داخل المجتمع وهي في مجملها علاقات قائمة على حجّة الفروق البيولوجيّة دون غيرها من مقاييس التنوّع الثقافي والاجتماعي، وهو ما يفسّر توجيه المرأة الحبشيّة للأعمال الخيريّة وللأدوار الإعلاميّة والدعائيّة في وسط بيئي لا يطمئن إلى الكفاءة الروحيّة للأنثى.
ونشير في هذا المجال إلى أنّ العقيدة الحبشيّة قامت على مجموعة من المقولات التي تخالف في مضامينها ما استقرّ في الضمير الإسلامي في مجالي العبادات والمعاملات، وهذا الانحراف الدينيّ قد تطلّب أدوات ماديّة وأخرى معنويّة لإقناع أنصار هذه الجماعة بعقيدتهم ولكسب المزيد من الأتباع والمريدين وبخاصّة في لبنان والأردن وسوريا، وهو ما مكنّهم من تحصيل دعم مالي كبير ساعدهم على تقوية نفوذهم السياسي في مطلع عقد الثمانينات، وقد تركّز نشاطهم الديني والفكري على الإعلان بأنّهم أشاعرة شافعيّة صوفيّة على الطريقة الرفاعيّة، وكان سبيلهم إلى ذلك المبالغة في تكفير الجماعات الإسلامويّة وكبار المفكّرين والعلماء المحسوبين على أئمّة السنّة وجماعة الحديث من خلال سلاح التكفير والتضليل وكذلك أيضا من خلال عنايتهم بالسيطرة على المشاريع الخيريّة وتكثيف نشاطهم الاجتماعي والسياسي، ويركّز الأحباش في دعوتهم ونشر عقيدتهم على النّساء وذلك لوعيهم العميق بتأثيرهن الكبير في بقيّة أفراد المجتمع وهذا الأمر يتجلّى بوضوح كلّما حاولنا أن نتتبّع نشاطاتهم المختلفة فهم ينظرون إلى جنس المرأة من جهة قدرتها على جلب الأنصار لاتباع هذا المذهب في مناطق عدة من البلدان العربيّة (سوريا والأردن ولبنان) والبلدان الغربيّة (فرنسا، السويد، أستراليا، أمريكا، روسيا، بلجيكيا، بريطانيا).
إنّ الأدوار التي تنهض بها المرأة لدى جماعة الأحباش التي تستفيد كثيرا من الحضور النسائي لديها لبثّ أفكارهم ونشر معتقداتهم، تتحدّد هذه الأدوار وتتنوّع بحسب الأنشطة التي تضطلع بها جمعيّات المشاريع الخيريّة الإسلاميّة التابعة لجماعة الأحباش في مختلف المواقع والبلدان العربيّة والغربيّة، ففي لبنان مثلا يبرز دور المرأة في الميدان الاجتماعي من خلال تقديم الخدمات الاجتماعية لعامّة الناس وبصفة خاصّة للفقراء والمحتاجين، أما في الميدان العلمي فعمل الأحباش على افتتاح مؤسّسات تعليميّة من روضات ومحاضن ومدارس وأوكلوا مهمّة الإشراف على هذه المؤسّسات وتسيير شؤونها إلى كوكبة من النساء يعرفن جيّدا كيفيّة تأطير الأطفال والتلاميذ وتأهيلهم منذ الصغر لاعتناق العقيدة الحبشيّة وذلك بعد استدراج أولياء التلاميذ والأطفال إلى الفكر الحبشي وانضمامهم إلى هذه الجماعة. وقد تمّكن الأحباش في عقد الثمانينات بلبنان من بناء العديد من المدارس الخاصة بجميع المراحل الدراسيّة وتنظيم دورات دينيّة خلال فصلي الصيف والشتاء تواكبه المئات من الطلاّب والطالبات من مختلف المراحل العمريّة ومن أمثلة هذه المدارس "مدارس الثقافة" في كلّ من طرابلس وبعلبك ولبنان.
ولا يقتصر دور المرأة لدى الأحباش على الجانب التعليمي التربوي وإنّما يشمل دورها إسهاما كبيرا في المجال الإعلامي والاتصالي حيث تحضر المرأة قي تقديم البرامج الإذاعيّة للإذاعة المحليّة الخاصّة بجماعة الأحباش والتي تسمّى "نور الإيمان" للترويج للعقيدة الحبشيّة والثناء على أفكارها ومقولاتها الدينيّة، مثلما تحضر في البرامج التلفزيونيّة اللبنانيّة حيث تعرض اللقاءات والدروس المخصّصة لترسيخ عقائدهم المخالفة لما تواتر عليه السلف، ونشر مبادئ هذا المذهب الذي تعتقده الجماعة الحبشيّة، وذلك من خلال مؤسّسة مركز الأبحاث والخدمات الثقافيّة بيروت لبنان، وقسم الأبحاث والدراسات الإسلاميّة بعمّان الأردن.
وتعمل جميع المؤسّسات الخيريّة التابعة للأحباش على نشر مجلّة شهريّة باسم "منار الهدى" لا تساهم فيها أقلام نسائيّة في نشر مذهبهم كما تعمل هذه المؤسّسات على تجنيد العديد من الفتيان ضمن فرق للغناء والأناشيد الدينيّة التي تتغنّى بعقائدهم مثل نفي العلوّ عن الله، حيث ينشدون "الله ليس في السماء، وليس له مكان" وتحذّر من عقائد أهل الجماعة والحديث، كتسميتهم في هذه الأناشيد الدينيّة "بالمشبّهة والمجسّمة والمبتدعة إلى غير ذلك من الأسماء المنفرّة من مذهب السلف".
وتشارك الشابّات في الأنشطة الرياضيّة داخل الأندية التابعة للأحباش في مختلف الرياضات من ألعاب قوى وكرة السلّة وكرة اليد وغير ذلك من الألعاب الأخرى التي تسجّل فيها المرأة المنتمية إلى العقيدة الحبشيّة حضورها البارز والمتميّز، ولكن تركيز الأحباش على النساء في دعوتهم إلى نشر عقيدتهم لا يمثّل إشارة واضحة على أهميّة المرأة كجنس اجتماعي قادر على الفعل والإنجاز وعلى الإضافة في إدارة الشأن العامّ، وإنّما هذا التركيز يعزى إلى النظرة التقليديّة التي استقرّت في الفكر الحبشي إزاء المرأة باعتبارها جنسا بيولوجيّا له تأثير كبير في المجتمع، وهو الأمر الذي دفع الأحباش إلى استغلال هذه العلامة الجنسيّة للمرأة حتى تكون فاعلة من خلال أنشطتهم المختلفة في نشر العقيدة الحبشيّة والترويج لها.
فكيف يمكن تفسير هذا الاستغلال للتمييز الجنسي الذي مارسته جماعة الأحباش على المرأة بالرغم من حضورها في مجالات الممارسة الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة؟ وأين يكمن توظيف الأحباش لأحكام الدين في شأن المرأة لخدمة غاياتهم الإيديولوجيّة؟
III. المرأة بين التنوير الحبشي والتوظيف الإيديولوجي
تتأسّس العقيدة الحبشيّة على مجموعة من الفتاوى التي تتعلّق بمنزلة المرأة وفاعليتها في المجتمع ولعلّ من أبرز هذه الفتاوى إباحة نظر الرجل للمرأة وإباحة الاختلاط والمصافحة للمرأة الأجنبيّة، حيث يجيز الأحباش هذه السلوكات في علاقة المرأة بالرجل عامّة، فكانت العقيدة الحبشيّة قد خالفت في هذه المسائل أحكام أهل السنّة والجماعة التي حكمت بعدم تجويز النظر للمرأة ومصافحتها مطلقا وألزمن الرجل المسلم أن يمتثل لهذه الأحكام وأوردت لذلك نصوصا متواترة من السنّة النبويّة وشواهد عديدة من السيرة النبويّة والتي تدلّ على عدم جواز المصافحة للأجنبيّة أو التمعّن في النظر للمرأة.
وكما منعت مذاهب الفقهاء مصافحة الأجنبيّة ودعت إلى ضرورة غضّ البصر عن المرأة، فإنّ هذه المذاهب لا تجيز للمرأة أن تخرج من بيتها متعطرّة ومتزيّنة ومتطيّبة، حتى وإن كان خروجها للصلاة في المسجد، ورأت أنّ الواجب على المرأة المسلمة إن خرجت من بيتها فعليها أن تخرج بالضوابط الشرعيّة متستّرة وغير متطيّبة، غير أنّ هذه الأحكام الإلزاميّة قد أسقطتها العقيدة الحبشيّة من مضامينها الدينيّة حين جوزّت مصافحة المرأة الأجنبيّة وأجازت للمرأة أن تخرج متعطرّة متبرّجة ولو كان ذلك بغير موافقة زوجها ودون رضاه.
إنّ الدارس المتمعّن في عقيدة الأحباش وكيفيّة انتظامهم داخل المجتمعات العربيّة والإسلاميّة يلحظ تمايزا كبيرا يصل أحيانا إلى حدّ التناقض بين ما يطرحونه من أفكار دينيّة وأحكام تشريعيّة ترتقي في الغالب إلى مصّاف الحداثة والتنوير وبخاصّة فيما يتعلّق بالمرأة نوعا اجتماعيّا لا جنسيّا وبين إيقاع حياتهم الاجتماعيّة وسلوكاتهم داخل المجتمع. ونعمد إلى تفصيل القول في هذه المسألة إلى تصريحات "رنا" الشابّة البيروتيّة التي انتمت إلى جماعة الأحباش سابقا ولكنّها انسحبت عنهم فيما بعد، حيث تعترف أنّ جماعة الأحباش هم بالأساس مجتمع منغلق على نفسه "متكتّمون ولا يختلطون بالآخرين وبنوا جدارا عاليا قرب الجامع الكائن لإحدى مناطق نفوذهم كي لا يرى أحد ما يحصل داخل هذا المجمع". وقد قيل لها في بدايات انضمامها إلى حركة الأحباش الدينيّة بأنها تستطيع التبرّج وارتداء السراويل ذات العلامة الأجنبيّة وبإمكانها أيضا أن تضع المساحيق على وجهها للتجميل بغرض الظهور في مظهر لائق بما أنّ ذلك ليس حراما مطلقا في عقيدة الأحباش، ولكن في المقابل أعلموها بأنه ممنوع عليها الصعود مع رجل غريب في مصعد كهربائي واحد أو في سيّارة أجرة واحدة، وذلك دفعا للفتنة ولا سبيل أمامها حينئذ إلاّ الانتظار ليشغر المصعد الكهربائي أو أن تسير على الأقدام نحو وجهتها المحدّدة، وتذكر أيضا هذه الفتاة البيروتيّة أنّ فتاوى الأحباش حول المرأة قد وصلت إلى حدود السخافة والطرافة، ومن أبرزها تحريم أن تنام المرأة إلى جانب الجدار لأنّ هذا الأخير مذكّر وقد يسقط جرّاء افتتانه بجسد الأنثى، كما أنّ المرأة لا تستطيع أن تقف في ثياب غير محتشمة ونعني بها ملابس داخليّة بالقرب من قارورة الغاز درءا لانفجار الغاز واشتعال النيران. وإنّ مثل هذه الأمثلة العديدة التي تزخر بها هذه العقيدة الحبشيّة وتعكس نظرة لا سويّة للمرأة تتراوح بين إسناد وظائف ومهام للمرأة في مجالات الأنشطة التعليميّة والخيريّة والاتصاليّة وبين إجبارها على الالتزام بضوابط شرعيّة وأحكام فقهيّة تعكس النظرة المهينة للمرأة وتكشف عن عمق الوعي الحبشي بالتمييز الجنسيّ والبيولوجي بين الأنوثة والذكورة؛ ذلك أنهم يجوّزون للمرأة التبرّج والاختلاط للاحتكاك بالشباب والتأثير عليهم للالتحاق بالجماعة واعتناق العقيدة الحبشيّة، وفي هذا السلوك الحركي للأحباش أكبر الشواهد دلالة على الخلل المفاهيمي الكامن في هذه العقيدة الدينيّة وهو خلل التوازن بين الذكوريّة والأنثوية سواء على المستوى الروحي أو على المستوى الإيماني، فاتّسعت بذلك دائرة الحركات الإسلاميّة المتطرّفة في ممارساتها الإيديولوجيّة من خلال تقديم تفسيرات فقهيّة ظالمة للمرأة وتصوّرات سلبيّة في حق الأنوثة، ومن الغرابة بمكان أن تكون هذه التفسيرات وهذه التصوّرات مبنيّة في أساسها الرئيس على مرتكزات عقديّة، ولنا في شهادة الفتاة البيروتيّة "رنا" خير دليل على ذلك، إذ بمجرّد أن انضمّت إلى جماعة الأحباش تمّت دعوتها إلى اجتماعات وحلقات لتعلّم الدين الإسلامي وتلقّي التفسير الديني الخاصّ بالأحباش، وتذكر في هذا السياق أنها شاهدت فتيات لم يتخطّين السابعة عشرة يدرّسن الدّين بعدما تلقّين فيه دروسا في أقلّ من عامين. وهو ما يفسّر حرص الأحباش على ابتداع العديد من الرّخص الفقهيّة لاستمالة الشباب وتبشيره بليونة العقيدة الحبشيّة وتمتعهم بتسهيلات فقهيّة كثيرة بعيدا عن التشدّد الديني والتطرّف العقائدي، وهنا تبرز أهميّة حضور الشابّات في التأثير على الشباب لضمان حسن تقبّلهم للجماعات الحبشيّة والانخراط في منهجها الديني والعقائدي القائم على التسيير المطلق في بعض الأحيان كأن تجيز العقيدة الحبشيّة ترك زكاة العملة الورقيّة باعتبارها لا تخضع للزكاة التي هي واجبة في الذهب والفضّة دون غيرهما، وأن تجيز الصلاة في حالة التلبّس بالنجاسة.
كما يبيح الحبشي لأتباعه التوجّه إلى قبور الأموات للاستغاثة بهم وطلب قضاء الحاجات منهم لأنّ عقيدة الأحباش تقول بخروج الأموات من قبورها لقضاء حاجات المستغيثين بهم ثمّ يعودون إلى مثواهم بعد ذلك، من جديد. ورغم هذه المبالغات في الرّخص الفقهية فإنّ الأحباش يقدّمون أنفسهم على موقعهم الإلكتروني" بأنهم لم يأتوا بمذهب جديد في الإسلام وإنّما هم "فئة من المسلمين استقت مناهجها من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلّم وما قرّره علماء الإسلام". ومن المفيد أن نذكر في هذا المستوى من التحليل أنّ الموقع الإلكتروني للأحباش قد خصًّ درسا كاملا مكتوبا بعنوان "نساء صالحات" وفيه عرض لسير مجموعة من النساء (47 امرأة) وفيهنّ زوجات الرسول محمّد نبيّ الإسلام وبعض من آل بيته ومن عائلات الخلفاء الراشدين، ولعلّ الهدف من إدراج هذا الدرس المكتوب حول "نساء صالحات" ضمن موقع الأحباش الإلكتروني هو ممارسة تأثير نفسي وروحيّ على المرأة لاستمالتها وتشجيعها على الانضمام إلى جماعة الأحباش التي تقرّ بهيبة نساء النبيّ محمّد ونساء الخلفاء الراشدين، ونساء أهل البيت، بما يضفي كرامة دينيّة وتاريخيّة على جماعة الأحباش وعقيدتهم، ولكنّه في الحقيقة ضرب من العنف المعنويّ الذي يطال المرأة ويجعلها أسيرة التصنيف الذي تمارسه الحركات الإسلاميّة في سعيها إلى مضاعفة عدد المنتمين والمؤيّدين لهم.
إنّ المتأمّل في الأدوار الموكولة للمرأة في حركة الأحباش الإسلامويّة يلحظ أنّ هذه الأدوار لم تكن نابعة في الأصل من الرؤية الفقهيّة التنظيريّة التي استقرّت في الضمير الإسلامي وعبّرت عنها آيات الذكر الحكيم للمسلمين وإنّما هي أدوار مرتبطة بالخلفيّات الفكرية والإيديولوجيّة التي عليها تأسّست عقيدة الأحباش في علاقة متّصلة بالبيئة السياسيّة والاجتماعية المحيطة بهذه الجماعة وانعكاساتها على المرأة, وقد حاولنا في هذا المقال طرح قضيّة المشاركة الفاعلة للمرأة في الحركات الإسلامويّة من خلال عقيدة الأحباش أنموذجا، وإنّ محاولة البحث في هذه القضيّة بدا فعلا محفوفا بالصعوبات والإكراهات؛ ومن أبرزها ندرة المراجع التي تناولت بالدراسة والتحليل عقيدة الأحباش وفكرهم الديني، باستثناء بعض المؤلّفات التي صيغت بأسلوب إيماني وتركزّت أساسا على توصيف الحركة الدينيّة وإبراز مغالطاتها وزيغها من جهة الأسانيد أو من جهة المعاني، ودعوة المسلمين في كلّ مكان الحذر والتحذير من هذه الجماعة الضالّة ومن الوقوع في حبائلها تحت اسم أو شعار واحتساب النّصح لأتباعها والمخدوعين بها، وبيان فساد أفكارها وعقائدها. ونظفر على شبكة الأنترنيت بوجود مواقع متخصّصة في توجيه نقد لاذع وشديد لجماعة الأحباش وعقيدتهم الدينيّة ومنها موقع باللّغة العربيّة والإنجليزيّة، وتتضمّن شهادات لتائبين وتائبات خرجوا عن العقيدة الحبشيّة.
وتزداد صعوبة ندرة هذه المراجع عسرا إذا ما تعلّق الأمر بمتابعة المشاركة النسائيّة في أعمال الأحباش الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، ويعزى ذلك إلى طبيعة الانغلاق الذي يخيّم على الأحباش داخل المجتمع اللبناني أو الأردني فهم دائما "متكتّمون ولا يختلطون بالآخرين، وبنوا جدارا عاليا قرب الجامع لئلاّ يرى أحد ما يحصل داخل المجمع، كما أنّهم يتآزرون في دورة اقتصاديّة مغلقة"، فهم يعمدون إلى إقامة مربّع أمني في معقلهم السياسي "برج أبي حيدر" في غرب بيروت حيث زرعوا الطريق بأسلاك حديديّة وأضافوا إلى هذه الأسلاك حرّاسا من الشباب مزوّدين بأجهزة اتّصال حديثة للتواصل فيما بينهم. وهذا الانغلاق ألقى بظلاله على طبيعة المشاركة النسائيّة في حركة الأحباش، حيث لا يسمح للمرأة بالمشاركة في الأعمال العسكريّة والأمنيّة أثناء الاشتباك المسلّح الذي دار بين جماعة الأحباش ومناصري "حركة أمل" اللبنانية في صيف عام 2005 وكذلك أيضا عند اشتباك الأحباش مع مناصري "حزب الله" اللبناني في السنوات الأخيرة الماضية. ومقابل ذلك انحسر دور المرأة في الحركة الحبشيّة في مجال الأنشطة الخيريّة والاجتماعيّة كما في الأنشطة الإعلاميّة والدعويّة رغم الانفتاح السياسي والاجتماعي الذي تعيشه لبنان خلال العقود الأخيرة، فالنساء غائبات عن مواقع صنع القرار السياسي أو الديني لدى جماعة الأحباش حيث لم تسجّل أدبياتهم مؤلّفات منسوبة لنساء منتميات إلى العقيدة الحبشيّة وإنّما كلّ المؤلّفات التي تهتمّ بالتعريف بهذه العقيدة أو حتى المقالات الواردة في مجلّة "منار الهدى" الحبشيّة هي كلّها من تأليف رجال أحباش عاهدوا زعيمهم "عبد الله الهرري" على الطاعة ومواصلة الدعوة الحبشيّة على غرار "نزار حلبي، عبد القادر الفكهاني، عبد الرحمان عمائشة، نبيل الشريف، خليل دريان"، وبذلك تمحورت أدوار النّساء في حركة الأحباش حول المشاركة في إدارة أنشطة "جمعيّة المشاريع الخيريّة الإسلاميّة" التي تعمل على استقطاب الأطفال في المدارس الإسلامية مرورا بالعمل الإعلامي الذي يهتمّ بالترويج والدعاية للعقيدة الحبشيّة، وصولا إلى التدريس الديني ودورات تحفيظ القرآن وإحياء المناسبات الدينيّة عبر فرق الإنشاد الدينيّ، بالإضافة إلى أعمال الإشراف على الأنشطة الكشفيّة والثقافيّة التي تتمحور دائما حول العقيدة الحبشيّة وأفكارها الدينيّة. وجدير بالذكر أنّ المشاركة النسائيّة في حركة الأحباش الإسلامويّة تثير عدّة استفهامات، فالعقيدة الحبشية رغم ما تتضمّنه من أحكام فقهيّة محمولة على الغلوّ في التيسير وعدم التشدّد إلاّ أنّها ظلّت عقيدة محكومة بإيديولوجيّة ذكوريّة في مستوى النظر إلى الأدوار الممكن للمرأة الاضطلاع بها، فالاقتصار على تشريك المرأة في الأنشطة الخيريّة والدعائيّة يكشف عن شدّة وعي هذه الحركة الدينيّة بتقاليد الذكورة التي مازالت تهيمن على عقول الحركات الإسلامويّة على امتداد تاريخ الفكر الإسلامي، وبذلك تكمن أهميّة الدراسات الجندرية في فتح آفاق جديدة في التعامل مع المضامين الدينيّة والمتون الفقهيّة للحركات الإسلامويّة، من أجل الوقوف على تجليّات العنف الذي يطال تاء التأنيث والمرتبط بإرادة السلطة الدينيّة وتأثيرات الموروث الثقافي المحكوم بالاختلافات البيولوجيّة في التمييز بين الذكر والأنثى وما ينجرّ عن هذا الفهم للعلاقة بين الرجل والمرأة من مصائب ومآسي، ومن هنا تكمن الحاجّة الملّحة لدراسة الفوارق بين الطرفين لا على أساس بيولوجيّ جنسيّ وإنّما على أساس نوعيّ اجتماعيّ وثقافي، ولا يتأتّى هذا المطلب إلاّ بإعادة النظر في قيمة المرأة وحضورها داخل المجتمع كشريك للرجل في الدين وفي الوجود.
الأسعد العيّاري
كاتب وإعلامي بإذاعة المنستير
- اكتب تعليق
- تعليق